“الغباء البشري” يدحض مقولة الذكاء ويكشف انحراف عصر

كتاب الباحث كارلو شيبولا يحظى برواج عالمي لما أثار من فضائح عامة  

أنطوان أبو زيد 

من الكتب ما يشكل استفزازاً وقلباً للانتظارات الممكنة وتحدياً للذهن. ذلك هو كتاب “الغباء البشري”

للمؤرخ الاقتصادي الإيطالي كارلو شيبولا والصادر بترجمته العربية عن دار الساقي (2022)، أعدها عن الإنجليزية عماد شيحة. نال الكتاب من الاستحسان والقبول والرواج والتداول بإشكاليته لدى نشره باللغة الإنكليزية أول الأمر وترجم الى لغات العالم بحيث عده بعضهم تحفة في الغرابة والشذوذ وتظهيراً لا أوضح لوضع بشري منحرف، تتجلى بعض علاماته في العقد الثالث من القرن الـ21 حروباً وصراعات عبثية وانفلاتاً للظواهر المناخية المدمرة بسبب التمدد الصناعي والمديني المتوحش وغيرها، هذا لو صدقنا الكاتب ورضينا بمسلمته السالف ذكرها.  

حتى إن بعضهم وازن بين مكانة كل من شيبولا ونيوتن، فجعل اسم الأول لصيقاً بموضوع الغباء، بمقدار ما يلتصق اسم نيوتن بالجاذبية. والمثير للضحك والتهكم، على رغم التنبيه الذي قدم به المؤلف كتابه زاعماً أن كتابه ينتمي إلى “علم الأحياء الدقيقة” وليس نتاجاً للتهكم، أن الكاتب شيبولا جعل الغباء في معادلات رياضية مبينة، وقد استصدر له قوانين، سوف يتم التعرض لها لاحقاً، قيد التعميم شأن أي ظاهرة قابلة للقياس والتقعيد. وبهذا تصح نسبة هذا الطرح (شبه التجريبي) إلى العلوم المزيفة التي يروم أصحابها تحقيق هدف لا صلة له بالعلم الخالص الذي يحتمل أن ينتمي إليه هذا الطرح، عنيت به علم النفس وعلوم الأعصاب والأحياء وغيرها. ولعله أراد من ابتداعه هذه النظرية الظاهراتية أن ينبه العالم إلى أخطار كل النظريات العبثية التي تنبت كالفطر في برية مجتمعاتنا المعاصرة.

تصرفات البشر

Al-Ghabaa-Al-Bachari-Front-Final.png

الكتاب بالترجمة العربية (دار الساقي)

ولكن قد يتبادر إلى ذهن القارئ تساؤلان منطقيان، وهما كيف يمكن تتبع الغباء في تصرفات البشر؟ ثم كيف يمكن تقييم أثر الغباء في مصائرنا الشخصية وفي المجتمع برمته؟ للإجابة عن هذين التساؤلين واسعي الطيف، استند كارلو شيبولا إلى خبرته العلمية في ميدان التاريخ الاقتصادي وإلى ملاحظاته الشخصية التي تقوم مقام الحدس، ومن ثم استعان بأدوات القياس العلمي من مثل المعادلات الرياضية والبيانات الإحصائية وغيرهما لإضفاء مزيد من الصدقية والموضوعية على استنتاجاته السالف ذكرها، وعلى غرار ما يجري استخدامه في أبحاث علم الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس وعلم نفس التعلم وغيرها.

41V+zdCzKRL._SX313_BO1,204,203,200_.jpg

الكتاب بالإنجليزية (أمازون)

ولما كانت القوانين الناظمة لظاهرة “الغباء البشري” هي المعنية بالدرس والإثبات، فقد عمد شيبولا إلى عرضها والتعليق على كل منها في نوع من الاستخلاص القابل للتعميم، “فالقانون الأساسي الأول” بمنطوقه هو أن “الجميع يستهينون دائماً بعدد الأغبياء الذين يحيطون بهم” (ص:21). ويتفرع عن هذا القانون بحسبه، الخطأ الذي يقع فيه معظم الدارسين إذ يقللون من أعداد الأغبياء في من يعرفونهم، إذ يرونهم في المواقف التي لا تستوجب منهم استخدام ذكائهم، ولا ذكاء. وبناء على ذلك، فقد ارتأى المفكر شيبولا أن يرمز الى عدد الأغبياء من عدد السكان الإجمالي بالحرف اللاتيني Q.

وفي الحديث عن القانون الأساسي الثاني، فهو ينص على أن “احتمالية أن يكون شخص ما غبياً مستقلة عن أي سمة أخرى يتصف بها هذا الشخص” (ص:26). وهذا يعني أن ملامح الغباء ليست مرتبطة بدرجات العلم التي يحوزها الشخص ولا تعزى إلى الجوائز التي قد يحصل عليها من المجتمع، ولو نال نوبل في الاقتصاد أو العلوم أو أي فرع آخر من الآداب والفنون، ما دام الغبي هو الذي “يكبد الآخر أو مجموعة من الأشخاص خسائر ولا يحقق لنفسه أي مكسب” (ص:42) في ما يرتكبه. وهذا بالطبع ما لا تختص به فئة من دون أخرى أو عرق من دون آخر من الأعراق في المجتمع، أو طائفة من دون أخرى، أو طبقة عليا من دون الطبقات الدنيا.  

خسائر وغباء

وبالانتقال إلى القانون الأساسي الثالث (أو الذهبي!) ومفاده بأن الشخص الغبي هو ذاك الذي “يكبد شخصاً آخر أو أشخاصاً آخرين خسائر، وفي الوقت ذاته لا يحقق لنفسه أي مكسب، بل لعله يتكبد خسائر أيضاً” (ص:42)، فإن ما يزيد الطين بلة ومقادير الخسائر أن الغبي من حيث تحديده، لا يمكن التحسب لمسلكه ولا قدرة للآخرين العقلاء على توقع ردود أفعاله وضبطها. ووفقاً لهذا القانون يصنف الناس أربع فئات المغلوبون على أمرهم والأذكياء وقطاع الطرق والأغبياء، وذلك وفقاً لمنطق الكسب والخسارة ولمعيار التفاعل البناء أو الهدام (العدواني) مع الآخرين. وبناء عليه يكون قطاع الطرق أدنى مرتبة بالإيذاء من الأغبياء لكونهم “يكبدون الآخرين بتصرفاتهم خسارات تعادل مكاسبهم” (ص:48) عن طريق السرقة والاحتيال وصرف النفوذ وغيرها.

أما القانون الأساسي الرابع فينص، بحسب الكاتب والمفكر شيبولا على أنه “دائماً ما يقلل غير الأغبياء من شأن قدرة الأغبياء على إلحاق الأذى” (ص:68). بالتالي، فإن إغفال تصرفات الأغبياء من قبل غير الأغبياء من شأنه أن “يكبد الجنس البشري خسائر لا حصر لها”(ص:69).

وبعد، هل حقق المفكر كارلو شيبولا مبتغاه وأقنع قراءه الكثر في العالم بمنطقه، بل بمسلمته التي زعم استنباطها من أبحاثه الجدية ومن خبراته الطويلة في التاريخ الاقتصادي للدول والأفراد التي تقول إن الأغبياء يشكلون الغالبية الراجحة في الكون وإن الأذى الأكبر اللاحق بالعالم إنما ناجم عن وجود هذه الفئة؟

الناس والتفاعل الإجتماعي

لا تسعني الإجابة الحاسمة في نجاحه بتحقيق هدفه أو بإخفاقه، وإنما يمكن القول إن الكاتب أفلح في طرح مقاربة جديدة للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين الناس بإدخال عوامل لم تكن تؤخذ في الحسبان من مثل الغباء/ الذكاء من الوجهة التداولية، أي من وجهة العلاقات بين الناس والتفاعل الاجتماعي البناء أو الهدام بين الأفراد والجماعات. ولنا دليل حسي على ذيوع هذه المقاربة وهو مئات آلاف النسخ من هذا الكتاب الموجز وترجماته إلى لغات العالم. ثم ألا يمكن استشفاف قدر لا بأس به من التهكم على الوضع البشري بعامة، وقد عاين الكاتب حروباً وشهد مآسي لا تحصى بسببها في بلاده الأم وفي غيرها من الأمم التي جال فيها طوال العقود الستة من حياته، بين أوروبا بعامة، وإيطاليا بلده والولايات المتحدة الأميركية وأفريقيا مآس كان المسبب فيها، أياً كان زعيماً أو مواطناً، أحد الأغبياء؟

ولكن مهلاً. أين الذكاء البشري؟ وأين الذكاءات التسعة التي سعى علماء النفس وعلماء نفس التعلم إلى تبينها في الإنسان المعاصر منذ أوائل القرن الـ20 مع ألفرد بينه وبياجيه وفيغوتسكي، وصولاً إلى غاردنر ومنحنى غوس وغيرهم ممن سعوا إلى إدراك مواطن الذكاء عند الطفل والبالغ من أجل استثماره بأحسن الطرائق ترسيخاً للتعلم وتحسيناً للتواصل بين البشر، جماعات وأفراداً، انتهت إلى فشل ذريع تاركة الميدان للغرائز والسلوك النفعي القريب على حساب خير البشرية وسلامها ورفاهها؟ وهل أن الغباء الذي وجده شيبولا سائداً العالم، أواخر القرن الـ20 هو نفسه في الـ21؟ أم أن البشرية مذ كانت هي هي لم تتغير ولم تتبدل إلا عند إدراك الأفراد قيمهم العليا ومثالاتهم الراقية لتسيرهم وفقها وتستثمر فيها ذكاءهم وتغلبهم على بوادر غباء طارئة لا مقيمة؟

يقول شيبولا في كتابه “ثمة أمران لا نهائيان، الكون والغباء البشري. أما في ما خص الكون، فإني لم أبلغ إلى اليوم يقيناً مطلقاً فيه”، على حد ما نقل عنه ناقد مجلة “إيبدو” لوران لوفير.