التهريب يخضع اللبنانيين لمعادلة النفط مقابل الغذاء


يشكل المصدر الوحيد لأكثر من 400 ألف مواطن يعيشون على الحدود مع سوريا

طوني بولس @TonyBoulos

منذ انطلاق الأزمة السورية عام 2011، بدأت الحدود مع الدول المحيطة بها تضمحل لحساب ميليشيات وتنظيمات وفصائل عسكرية، تسيطر كل منها على أجزاء واسعة بحيث بات نفوذ قوات النظام إن وجد في بعض النقاط شكلياً فقط. والأمر ذاته ينسحب على الحدود اللبنانية السورية حيث تنشط حركة التهريب بشكل كبير بحيث باتت تهدد الأمن الاجتماعي بالضربة القاضية. ويواجه المواطن اللبناني تحدي استمرار الحصول على البضائع المدعومة من المصرف المركزي كالمحروقات والمواد الغذائية الأساسية والأدوية، واستنزافه من قبل كارتيل “التهريب الحدودي” الذي لا يوفر فرصة الاستثمار في شراء السلع الأساسية التي يحتاج إليها الفقير اللبناني والمدعومة من أموال المودعين المحجوزة في المصارف، لتهريبها إلى سوريا وبيعها بالعملة الصعبة، في ابتزاز عابر للحدود بهدف تمويل قوى الأمر الواقع المسيطرة على الحدود.

معابر متخصصة

وتقسّم عمليات التهريب بين لبنان وسوريا إلى جزءين، الأول وهو نتيجة التداخل الطبيعي لحدود الدولتين والتركيبة الاجتماعية المترابطة بين القرى المجاورة وهي تقتصر على تهريب محدود لبعض السلع للاستهلاك الشخصي نتيجة الفروقات المتفاوتة لأسعارها، إذ تعتمد أدوات بدائية كالدراجات النارية والبغال، في مقابل التهريب الاستراتيجي المنظم من خلال عصابات متخصصة تحظى بحماية أمنية وسياسية على جانبي الحدود، بحيث يقدّر حجمها بما يزيد على 15 مليون دولار يومياً، أي أكثر من خمس مليارات سنوياً، فيستخدم لهذه الغاية أكثر من أربعة آلاف آلية بين صهاريج وشاحنات وباصات وسيارات رباعية الدفع. 

ووفق المعلومات، فإن معظم تلك العمليات تمر عبر ستة معابر غير شرعية لكل منها اختصاص وسلع محددة للتهريب. ففي منطقة وادي خالد شمال لبنان، تتركز عمليات تهريب السجائر والتنبك والإلكترونيات وبعض السلع الاستهلاكية التركية إلى لبنان، وتتم من خلال 15 شاحنة تعمل على هذا الخط بالاتجاهين، وترافقها سبع سيارات يستقلها مسلحون وتتقاضى كل منها ألف دولار بدل تأمين حماية. أما في منطقة الهرمل، فتفيد المعلومات عن ثلاث تجار كبار للتهريب يسيطرون على معظم المعابر، ومنها معبر “جرماش – بيت الجمهل” الذي تمر عبره معظم صهاريج المازوت إلى سوريا، في حين تبرز عمليات تهريب البنزين عبر معبر “البقيعة” من خلال سلسلة معقدة من الأنابيب التي تصل جانبي الحدود، حيث يفرّغ الصهريج حمولته في تلك الأنابيب المتصلة بخزانات مموهة أو مباشرة بصهريج آخر من الجانب الآخر وغالباً ما تستخدم تلك الوسيلة في ساعات متقدمة من الليل وتستغرق مدة تفريغ كل صهريج حوالى الساعتين.

أما معبر مراح “السويسة” في جرود الهرمل، فهو متخصص في تهريب المخدرات والمواد الأولية لتصنيع حبوب الكبتاغون الناشطة في القصير والقلمون من الناحية السورية، وتشير المعلومات إلى وجود معبرين استراتيجيين يستخدمهما “حزب الله” لعبور عناصره، إضافة إلى مسؤولين إيرانيين لا يريدون الدخول عبر المعابر الرسمية.

معابر الموت

وللبشر أيضاً حصة وازنة في عمليات التهريب، إذ يعتبر معبر “كفير يابوس – الصويري” المقابل لمنطقة الزبداني السورية ممراً ناشطاً للراغبين في العبور بالاتجاهين، إذ يفضل آلاف السوريين زيارة بلدهم خلسة خوفاً من التجنيد الإلزامي أو بسبب انتهاء صلاحية إقامتهم في لبنان وعدم القدرة على تجديدها، ويستخدمون الطرق غير الشرعية للعبور، فتقوم العصابات بتأمين الرحلة من خلال سيارات خاصة وحافلات تابعة لها مقابل مبالغ تقارب المئة دولار للشخص الواحد.

ولطالما حدثت مآسٍ إنسانية عند خط التهريب هذا الذي يرتفع عن سطح البحر بحدود 2200 متر، حيث تضلّ العائلات والأفراد المهربة طريقها في فصل الشتاء وأثناء العواصف الثلجية كما حصل أخيراً، إذ توفيت امرأتان وطفلان أثناء عبورهم المنطقة الجبلية الوعرة. وقد أكد محافظ بعلبك الهرمل بشير خضر في تصريح له تعليقاً على حادثة السوريين الأربعة المأساوية، أنهم دفعوا مبلغ 1.5 مليون ليرة لبنانية للشخص الواحد لإحدى العصابات مقابل إدخالهم خلسة إلى لبنان. 

وتؤكد المعلومات أيضاً وجود عصابات تعمل على خط تهريب البشر في منطقة وادي خالد شمال البلاد، حيث تؤمن الحافلات الصغيرة انتقال الأشخاص بالاتجاهين انطلاقاً من ضفاف النهر الكبير الشمالي.

النفط مقابل الغذاء

ويشير رئيس بلدية إحدى القرى الحدودية التي تقع على ما يُسمّى بـ “المثلث الاستراتيجي للتهريب” الذي يمتد من وادي خالد شمال لبنان إلى بلدة عرسال عند الحدود الشرقية وضمنه عشرات الممرات غير الشرعية، إلى أن حركة التهريب على جانبي الحدود ناشطة طوال أيام الأسبوع. ويقول إن “التهريب يشكل مصدراً أساسياً لتمويل الميليشيات الإيرانية وبعض الفرق التابعة للنظام السوري”، موضحاً أن نسبة كبيرة من المازوت المهرب تذهب مباشرة إلى قواعد النظام السوري الذي يستخدمها لآلياته العسكرية مقابل مقايضتها ببضائع تركية المنشأ بدأت تغزو السوق اللبنانية بشكل واسع، وبضائع أخرى سورية المنشأ تنتشر في أسواق البقاع بشكل خاص.

ويلفت إلى أن بعد تراجع العمليات العسكرية في سوريا وتراجع التمويل الإيراني لها، بدأت تتجه تلك الميليشيات لتمويل نفسها من خلال الخوّات التي تتقاضاها لحماية القوافل المهربة بالاتجاهين، إذ “يلاحظ وجود سيارات حماية مسلحة تواكب قوافل التهريب في المناطق الحدودية”. إلا أن مصادر “حزب الله” تنفي بشكل دائم كل المعلومات المتداولة التي تتهمه بتأمين حماية لعصابات التهريب، واضعاً الأمر في إطار التقصير من جانب الدولة اللبنانية وعدم تنسيقها مع النظام السوري لوضع خطة استراتيجية توقف التهريب بين البلدين. 

400 ألف مواطن

ويعتبر رئيس مركز الاستشارية للدراسات الاستراتيجية الدكتور عماد رزق، خطوط التهريب الرئيسة تمر عبر مناطق ذات طابع عشائري شيعي، لا سيما في منطقة الهرمل ومناطق ذات غالبية سنية كما هي الحال في منطقة وادي خالد، مشيراً إلى أن اقتصاد التهريب يشكل المصدر الوحيد لأكثر من 400 ألف مواطن لبناني، في ظل غياب شبه تام للدولة ودورها في التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

وعن دور الجيش اللبناني في ضبط الحدود وإقفال معابر التهريب، يرى أنها مسألة معقدة للغاية، لاسيما لتداخل العاملين الأمني والاجتماعي وتأقلم الواقع الأمني في تلك المناطق مع منطق مشروعية التهريب كونه المصدر الوحيد لحياة شريحة واسعة من المواطنين، لافتاً إلى أن الجيش يعتمد على استقدام وحدات خاصة من مناطق أخرى لتنفيذ مداهمات في تلك البلدات، الأمر الذي ينعكس اشتباكات مع العصابات المتحصنة شعبياً وسياسياً فيها.

ويشير رزق إلى أن بعض عصابات التهريب استغل الطرقات التي شقها “حزب الله” في أثناء المواجهات العسكرية على الحدود اللبنانية السورية لتسهيل تنقّل عناصره، موضحاً أن البعض منها تم تعبيده وبات كأنه معابر “شبه رسمية” تصل إلى جانبي الحدود اللبنانية والسورية وتنقل عبرها البضائع المهربة.

حماية عصابات التهريب

ويقدر النائب زياد حواط حجم التهريب إلى سوريا بحوالى ملياري دولار سنوياً، معظمها مواد غذائية وأوّلية ومحروقات مدعومة من المصرف المركزي، مشيراً إلى أن هذا الرقم أقل مما كان عليه قبل الأزمة الاقتصادية في لبنان، حيث كان يتجاوز الخمس مليارات سنوياً، “ما يؤكد أن التهريب أحد أبرز مزاريب الفساد والسرقة في الدولة”. 

وأكد أن الجيش اللبناني لا يملك القرار السياسي لوقف التهريب، مشدداً على إمكانية الجيش من خلال الطوّافات وأبراج المراقبة، ومن خلال التعاون مع الدول الغربية تأمين الحماية على هذه الحدود، “إلا أن القرار السياسي حتى الساعة يحمي عصابات التهريب ونرى كيف تمارس الضغوط على الجيش عندما يوقف أي عملية تهريب”، وداعياً إلى تطبيق القرارات الدولية وعلى رأسها القرار 1680 الذي ينص على ضرورة ترسيم الحدود مع سوريا برعاية الأمم المتحدة.