كنت في حديث جانبي مع صديق مهتم ومطّلع على الشأن العام بالمنطقة، وعلى الملف اللبناني والسوري، وتبادلنا أطراف الحديث في الجوانب التقليدية للسياسة، وهو حديث قديم متجدّد بنفس الهواجس والتحديات والهموم.
حكومات متعسرة الولادة، وعند ولادتها تكون بحاجة إلى حاضنات للعيش، صعوبة للتشكيل بالرغم من وجود الخيارات والبدائل ولكن في ظلّ ندرة الإرادات والإدارات تصبح أضغاث أحلام.
هموم طائفية، تدخلات خارجيّة، انهيار منظومة المعايير النقدية للعملة الوطنية، نزوح وهجرة جماعية إلى خارج البلاد.. العناوين نفسها تتكرر مجدداً، ولكنْ هناك شيء مختلف هذه المرة أو على الأقل، هذا ما وصل إليّ من صديقي وحديثه الجدّي الذي يأتي بنبرات صوت لا تخفيها علامات القلق فيه. يخشى الرجل مع التدهور غير المسبوق في الأوضاع الاقتصادية ، وبالتالي الأوضاع المعيشية والانقسام السياسي العميق جداً والحاد جداً، وانهيار المنظومة الصحية وعدم قدرتها على التعامل مع تداعيات تفشي جائحة «كوفيد-19» وفقدان الدولة معظم قدرتها على تطبيق الإجراءات الصحية بشكل فعّال أو حتى توزيع الهبات والمنح والدعم.
خلال السنوات الماضية التي أعقبت انتفاضات 2011 الديمقراطية، دفعت تقلبات أحوال بلاد المنطقة بقضايا الحكم الرشيد إلى الواجهة، وخصوصاً البلدان التي انهار بها السلم الأهلي وتهاوت بها قدرات مؤسسات الدولة والمجتمع المدني على حدّ سواء، وقد سعت معظم حكومات المنطقة إلى التعامل مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المزمنة، مثل معدلات الفقر والبطالة المرتفعة وانكماش الطبقات الوسطى وضعف القطاع الخاص والفرص المحدودة للترقي المجتمعي للفقراء ومحدودي الدخل، للسيطرة قدر الإمكان على التوترات والانفجارات الشعبيّة المتوقدة.
وفي هذا السياق، تصاعدت آمال قطاعات شعبية واسعة بشأن انفتاح الحكومات على قيم المشاركة والمحاسبة والشفافية ومحاربة الفساد والتنمية المستدامة. غير أنّ العقد المنصرم بين 2011 و2021 حمل الكثير من الانتكاسات للآمال الشعبية تلك، وعلى الرغم من تحسّن معدلات النمو الاقتصادي والاجتماعي في بعض بلاد المنطقة بحكم الضرورة، إلا أنّه لم تتبلور نماذج ناجحة للحكم الرشيد، حيث التحدّي الأساسي للحكومات يكمن في العقد الذي سيمتد من 2021 إلى 2031، حول كيف يمكن عصرنة وتحسين طرق وأساليب إدارة الشأن العام وصولاً إلى الحكم الرشيد التشاركي المعتمد على القدرات والكفاءات بدلاً عن الولاءات. وبالتالي لا بد من السير نحو توسيع مساحات فعل المجتمع المدني والفاعلين غير الحكوميين وكبح جماح التدخلات اللاقانونية بعملهم، كي يترجم هذا التوجه إلى دمج حقيقي للمجتمع المدني في عمليات صناعة القرار العام وتوزيع الموارد والمداخيل الوطنية على المواطنين بمساواة وعدالة.
شهدت سوريا بعد نهاية الانتداب الفرنسي في الأربعينيات انفراجه ملحوظة في الفضاء الاقتصادي السوري، ظهرت في شكل واضح من البرجوازية الاقتصادية في المدن الرئيسة، دمشق وحلب وحماة وحمص، فضلاً عن وعي سياسي تمثّل في تعددية أثرت في مختلف الطبقات الاجتماعية.
وعلى الرغم من بدائية هذا الانفراج الاقتصادي – السياسي وبساطته، فإنّه ومع مرور السنين، تطوّر ورسم شكل الحياة في سوريا، حيث امتلكت البرجوازية السورية السلطة السياسية، فحاول بعض رجالاتها المحافظة على امتيازاته الخاصة، في حين دافع جزء آخر عن العدالة الاجتماعية والديمقراطية البرلمانية.
إلا أنّ هذا المناخ تحطّم في أيام الوحدة مع مصر، عبر “التأميم والإصلاح الزراعي”، الذي استولى على معظم ثروات وأملاك رجال الأعمال والطبقة البرجوازية السورية التي نمت عقب الاستقلال.
مع وصول “البعث” إلى السلطة، وبعد 1971، ظهرت طبقة جديدة تتمتع بالنفوذ والمال في مقابل الولاء، وعلى الرغم من شعارات “الاشتراكية” كان لهذه الطبقة حقوق تتجاوز القوانين المشروعة للاستفادة من خيرات البلد.
عقب وفاة الرئيس حافظ الأسد عام 2000، سعى الرئيس بشار الأسد، لتحرير الاقتصاد السوري من السياسات السابقة، وخلق مناخاً صحياً للاستثمار الاقتصادي والمنافسة الشريفة بين رجال الأعمال، إلا أنّ ظهور منظومة اقتصادية هجينة، عمادها الرشوة والفساد وتقاطع المصالح بشكل علني حال دون ذلك، وخصوصاً بعد تزاوج عرفي بين الاقتصاد والنفوذ.
في الداخل والخارج، نختلف كمواطنين حول الكثير من الأمور الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وأهمها تطوير منظومات الرعاية الصحية والنظم التعليمية وطرق مواجهة جائحة كوفيد-19. تتمايز مواقفنا من قضايا السياسة بين من يرون في صون حقوق الإنسان وحرية التعبير عن الرأي ترفاً لا أهمية له ويؤيدون غلبة الصوت الواحد داخل المؤسسات الرسمية، وفي الفضاء العام، طلباً للدولة القوية وللمجتمع المستقر، وبين من أنتمي إليهم ويدفعون بكون صون الحقوق والحريات شرط ضرورة للدولة القوية والمجتمع المستقر ويدعون إلى الاستعادة التدريجية للتعددية ولإجراءات التحوّل الديمقراطي بإرادة وطنية خالصة يستحيل أن تتشكل سوى داخل سوريا وليس خارجها.
إّننا في زمن نحتاج فيه للكثير من العمل والقليل من الجدل.. نحتاج حولنا مزيداً من الحكماء الذين همهم المصلحة العليا للبلاد.. الظلم لا يدوم، الكراهية لا تدوم، فقط المحبة والأخوة الإنسانية هي التي تدوم، إرادة الحياة والعيش بسلام هي البوصلة التي تتحكم في أهدافنا.
إنّ حفاظنا على سوريا وحضارتها وشعبها بكافة مكوناته هو أهم مكاسبنا.. وإنّ الحفاظ على عقلانيتنا أفضل خطة في زمن كثر فيه الغوغاء..
المصالحة والوحدة الوطنية مسار سياسي اجتماعي عميق وطويل يقوم بشكل رئيسي على المصارحة والمكاشفة وشرح الهواجس والمشاكل مع الناس والمدنيين والمتضررين من جميع مكونات المجتمع وفِي كافة أرجاء سوريا، يتناول المخاوف العميقة القديمة منها والجديدة بكل صراحة وشفافية، ويبنى على هذا المسار لاحقاً المفردات الأساسية للعقد الاجتماعي القادم.
إنّ إبقاء الوضع الحالي بدون مسار (سياسي اجتماعي اقتصادي ثقافي) جاد سيعيدنا إلى المربع الأول أنّ الحل السياسي بإطار سوري يحفظ السيادة والقرار، وأن ضعف المؤسسات بالدولة واقتصاد الظل والفساد، بالإضافة إلى الحصار الاقتصادي سبّب ويسبّب المزيد من المعاناة للمواطن السوري في الداخل وفي أي مكان آخر، وكذلك فإن ملف اللاجئين في الخارج أصبح ملفاً سياسياً بامتياز تعمل عليه الدول المضيفة من أجل مكتسبات على المصالح، سواء بسوريا أم في المنطقة، والمطلوب الآن وبشكل عاجل واستثنائي إنعاش المواطن السوري معيشياً، وإعادة اللاجئين بشكل متواتر وحسب الظروف المتناسبة مع الواقع. وهذه ملفات تقودها الدولة بمؤازرة المجتمع المدني والمنظمات التي تعمل لأهداف مماثلة بحيادية وبعيداً عن التسييس.
ثلاثية مقدسة نعمل عليها، وهي الموضوعية الكاملة والوطنية الخالصة والشفافية الحقيقية. تتناغم مع المطلق الوجودي العام حسب أفلاطون “الحق والخير والجمال”.
وبالعودة إلى صديقي وسؤاله «وماذا عن طائر الفينيق الذي يحيا مجدداً برماده بعد حرقه المؤلم كل مرة؟»، أدار ظهره لي وهو يشيح بيده قائلاً: «سيكتشف الناس هذه المرة أنّه مجرد أسطورة».
المقالة تعبر عن راي كاتبها
ليفانت نيوز