بعدما انحلى غبار الانتخابات الرابعة والعشرين للكنيست، يتبين أن إسرائيل عادت مجددا للمربع الأول وللمأزق السياسي إياه الذي بسببه خرجت لأربع جولات انتخابية في غضون عامين، مما دفع بعض المراقبين ووسائل الإعلام العالمية للقول بسخرية إن “الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط كما تدعي إسرائيل لا تعمل ولا تؤدي وظائفها”.
وتدلل نتائج الانتخابات عجز المعسكرين المناصر لنتنياهو والمعارض له عن تشكيل حكومة لعدم وجود أغلبية الـ61 مقعدا فما فوق من بين عدد مقاعد البرلمان الإسرائيلي (الكنيست). وأصدرت لجنة الانتخابات المركزية الإسرائيلية النتائج النهائية لانتخابات الكنيست. وأعلنت المتحدثة باسم اللجنة، أنها أكملت عملية فرز جميع الأصوات، وتظهر صورة النتائج أن أحدا من المرشحين حتى الآن لا يستطيع تشكيل ائتلاف حاكم. وستُعرض النتائج الرسمية على رئيس إسرائيل رؤوفين ريفلين الأربعاء المقبل.
وحاز حزب “الليكود” الحاكم على 30 مقعدا بدلا من 36 مقعدا في الانتخابات السابقة، فيما يحظى معسكر نتنياهو المكون من حزبه ومن أحزاب يمينية وأخرى دينية على 59 مقعدا، بينما حاز معسكر الأحزاب المناوئة له بما فيها القائمة العربية المشتركة على 57 مقعدا، فيما تقف في الوسط القائمة العربية الموحدة مع أربعة مقاعد، معلنة استعدادها للتفاوض مع كلا المعسكرين ودعم أحدهما في تشكيل حكومة مقابل تلبية شروط تتعلق بحقوق مدنية للمجتمع العربي الفلسطيني في الداخل كما أكد رئيسها النائب منصور عباس ”.
وردا على سؤال آخر حول احتمالات أن نتنياهو هو المحرض الأكبر والأخطر على الشعب الفلسطيني والذي كذب على كافة شركائه ونكث كل وعوده لهم، قال منصور عباس: “هذه المرة نتعلم من تجاربنا ومن تجارب الآخرين، وسنضع شروطا طويلة جدا تبدأ بوقف هدم المنازل العربية والاعتراف بقرى النقب ومكافحة فورية للجريمة والمجرمين في الشارع العربي وغيرها”. معتبرا أن لعب دور “بيضة القبان” والخروج من عباءة اليسار الصهيوني غير المؤثر والضعيف، سيضع فلسطينيي الداخل في مكانة سياسية جديدة غير مسبوقة منذ نكبة 1948.
وتابع منصور: “من النتائج المهمة لنهجنا السياسي المغاير هي انتزاع الاعتراف والشرعية لدورنا السياسي دون التنازل عن ثوابتنا وهويتنا العربية والفلسطينية والإسلامية”. ومن المتوقع أن تتصاعد المداولات والاتصالات بين كافة الأحزاب في محالوة لبناء تحالفات وتشكيل حكومة ولو مؤقتة، تحاشيا للذهاب لانتخابات خامسة يخشاها الإسرائيليون بعدما سئموا الذهاب للصناديق.
وسيحتاج نتنياهو إلى حزبين للفوز بأغلبية ضئيلة، لكن التعاون بين اليمين المتطرف والقائمة العربية الموحدة يبدو صعبا جدا؛ لأن بعض شركاء “الليكود” يرفضون أي اعتماد على القائمة العربية الموحدة ويعتبرون منصور عباس امتدادا لحركة حماس.
من جهته، غرّد رئيس حزب “أمل جديد”، جدعون ساعر، أنه بات من الواضح الآن أن نتنياهو لا يستطيع تشكيل ائتلاف حكومي، لذلك يجب بناء “حكومة تغيير وعلى نتنياهو ترك غروره جانباً للسماح بحدوث ذلك”. وشدد رئيس حزب “إسرائيل بيتنا” أفيغدور ليبرمان -الخصم اللدود لنتنياهو بعدما كان أقرب مقربيه- على ضرورة سن قانون يمنع أي متهم بمخالفات جنائية من تشكيل الحكومة، ودعا قادة أحزاب المعسكر المناوئ لنتنياهو إلى دعم مشروع القانون.
وقال ليبرمان: “أنا ملتزم ببذل كل ما في وسعي لمنع انتخابات جديدة”. وأضاف في تغريدة على “تويتر” أن “المرحلة الأولى (للتغيير) هي من خلال (سن) مشروع قانون يمنع عضو كنيست مع لائحة اتهام من الترشح لتشكيل الحكومة. أتوقع من جميع الأطراف التي تأمل في التغيير الذي تحدثوا عنه خلال الأشهر الأخيرة، تحمل المسؤولية والانضمام إلى دعم هذا القانون”. وسارع رئيس حزب “هناك مستقبل” يائير لابيد، ورئيس حزب “أمل جديد” جدعون ساعر لإعلان دعمها للمبادرة التي يخشاها نتنياهو وربما تحظى بأغلبية في الكنيست، خاصة إذا دعمتها القائمة العربية الموحدة.
كما كُشف النقاب عن أن ساعر وليبرمان شرعا بالفعل في قيادة تحركات أولية في البرلمان الجديد تهدف إلى عزل رئيس الكنيست عن الليكود، ياريف ليفين، لفتح إمكانية دعوة الهيئة العامة للكنيست للانعقاد وتشكيل اللجنة المنظمة والبدء بالعملية التشريعية تمهيدا لتشريع مثل هذا القانون الذي يرعب نتنياهو.
وأمام محاولات “الليكود” الخروج من المأزق بشراء ذمم نواب من أحزاب معارضة له، قال الوزير السابق زئيف إلكين من حزب “أمل جديد” قد أكد في تصريحات صحافية أن حزبه سيعيد دراسة إمكانية سن قانون يمنع نتنياهو -المتهم بملفات جنائية- من تشكيل حكومة، علما بأنهما كانا قد عارضا ذلك سابقا، واعتبرا أن القانون هو قانون شخصي وموجه ضد نتنياهو حصرا. غير أن الجمود في الواقع السياسي ونتائج الانتخابات تحتم “دراسة ذلك مجددا”.
كما اختار الوزير السابق الذي كان قد انضم إلى حزب ساعر، يوعاز هندل، أن يرد على رسائل الليكود الضاغطة والتي تطالبه بالانشقاق عن ساعر والانضمام إلى حكومة يمينية برئاسة نتنياهو بالإشارة لضرورة “تنظيف” الحلبة السياسية وتشكيل “حكومة تغيير”. في المقابل، ووسط تخوف نتنياهو من تشريع يمنع تكليفه بتشكيل حكومة، شن الليكود هجوما على هذه المبادرة. ووصف، في بيان صدر عنه، ما بات يوصف بـ”كتلة التغيير” بأنها معادية للديمقراطية. وقال إن “التغيير الوحيد الذي يريدونه حقاً هو سن قوانين معتمدة فقط في إيران لتصفية المرشحين وإلغاء الانتخابات الديمقراطية وإبطال أكثر من مليون صوت للمواطنين الإسرائيليين ممن منحوا ثقتهم لليكود”.
من نتنياهو إلى أبو يائير
في انتخابات 1996، خاض نتنياهو الانتخابات للمرة الأولى مقابل شيمون بيريز، وريث اسحق رابين الذي اغتيل قبل ذلك بنحو عام. فقاد نتنياهو حملة انتخابية عنصرية بعنوان “نتنياهو جيد لليهود”. وفي الجولات التالية كرر شيطنة المواطنين العرب، وحرّض اليهود عليهم كما تجلى في شعار “العرب يتدفقون للصناديق” في انتخابات 2015. وواصل تحريضه وتحذيره من التزوير وضرورة نصب كاميرات في مراكز الاقتراع خلال انتخابات 2019 و2020. لكن نتنياهو غيّر جلده وصار “أبو يائير” في انتخابات 2021، مستبدلا استراتيجية الاستعداء بالاحتواء: التقارب مع القائمة العربية الموحدة، زيارة البلدات العربية، احتساء “القهوة السادة” في النقب، لعب كرة القدم مع أولاد بلدة جسر الزرقاء.
مآربه عند العرب
في الظاهر، تجول نتنياهو وتزلف للمجتمع العربي، وفي الباطن ضاعف عدد مراقبي “الليكود” في البلدات العربية (1950 مراقبا) بالإضافة لاستئجار شركة مراقبة خاصة (كايزلر استراتيجيا). وفي حملته هذه المرة، حاول نتنياهو اصطياد عصفورين بحجر واحد: زيادة عزوف الناخبين العرب عن صناديق الاقتراع، ومحاولة اقتناص مقعدين منهم لصالح حزبه. فهل نجح ؟ يبدو أنه نجح في الهدف الأول جزئيا، فربما ساهم إلى حد ما في تعميق الركود في الشارع العربي، وكذلك نجح جزئيا جدا في الثاني: حصل على نصف مقعد فقط، ومع ذلك فقد ضاعف قوة “الليكود” في البلدات العربية مقارنة مع انتخابات 2020.
في مدينة الناصرة حيث دعا له رئيس البلدية، ارتفع “الليكود” من 1% في الانتخابات السابقة إلى 4% في هذه الانتخابات (حاز على نحو 900 صوت وهو نفس عدد أصوات حزب ميرتس في المدينة ). وفي جسر الزرقاء المنكوبة نتيجة التمييز العنصري، ارتفع من 0.27% في الانتخابات السابقة إلى 5%. في قرية ترابين الصانع (عشيرة النائب السابق طلب الصانع المؤيد للمشتركة) ارتفع الليكود من 19% إلى 69% من مجمل الأصوات.
ورغم قانون القومية والغضب على نتنياهو، حاز “الليكود” في قرية أبو سنان على 12% من الأصوات، مقابل 3% في الانتخابات السابقة. (وارتفعت النسبة في بقية البلدات العربية الدرزية). وفي مدينة شفاعمرو (رغم عتب رئيس البلدية على الليكود ومهاجمته نتنياهو لزيارته الناصرة بدلا من شفاعمرو) ارتفع “الليكود” من 1% إلى 3.4%. حتى في أم الفحم عاصمة الشمال، ارتفع الليكود من 0.29% إلى 1.5%. كذلك في كفركنا البلدة المتميزة بكثرة شهدائها تاريخيا وبفعالياتها السياسية، حاز الليكود على 3.7% مقابل 0.71% في الانتخابات السابقة بفعل مقاولي أصوات.
وفي رهط عاصمة بدو النقب، تضاعفت قوة الليكود عشرة أضعاف، من 0.6% إلى 6%. بالمجمل حاز “الليكود” على نحو 20 ألف صوت في البلدات العربية، بينما حاز في الانتخابات السابقة على 10 آلاف صوت.
في المقابل مقابل حصلت كتلة “ميرتس” الصهيونية اليسارية على نحو 13 ألف صوت فقط، رغم ترشيح عربيين في المكانين الرابع والخامس، وهما غيداء ريناوي زعبي وعيساوي فريج، وهذا بخلاف إنقاذ ميرتس في انتخابات سابقة، حيث منحها الناخبون العرب حوالي 40 ألف صوت وأنقذوها من السقوط.
قدس العربي