شكل انفجار مرفأ بيروت الذي خلّف أكثر من مئتي قتيل و6500 جريح الفاجعة الأكبر
يخسر لبنان، الذي شكل طيلة عقود “مستشفى الشرق”، خيرة طواقمه الطبية، في نزيف يجرد البلد من كوادر مشهودة بكفاءتها ومستواها.
مئات الأطباء والممرضين سعوا لمغادرة لبنان خلال الأشهر الماضية، وفق “وكالة الصحافة الفرنسية”، في ظاهرة لم تشهدها البلاد حتى خلال سنوات الحرب الأهلية (1975- 1989)، بعدما أرهقتهم تداعيات الانهيار المالي المتسارع والضغط المتواصل منذ بدء تفشي فيروس كورونا ثم انفجار مرفأ بيروت المروّع في الرابع من أغسطس (آب) 2020.
الخيار الأفضل
طبيبة الطوارئ نور الجلبوط نموذج من هؤلاء. فبعد نحو عامين من عودتها إلى لبنان وتفرغها للعمل في أحد أبرز مستشفيات العاصمة، بيروت، تجد نفسها، على غرار كثر من زملائها، تستعد لبداية جديدة، بعيداً عن بلد أغرقته الأزمات المتلاحقة.
وتقول الطبيبة (32 سنة) بينما تغطي ثلاث كمامات تقاسيم وجهها، لوكالة الصحافة الفرنسية، “أعطيت خلال هاتين السنتين من قلبي للبنان، لكنه لم يعطني شيئاً بالمقابل”.
وتضيف “قدّمت طلب هجرة إلى الولايات المتحدة وآمل في الحصول على التأشيرة قريباً” لبدء مغامرة جديدة في بوسطن.
في قاعة الطوارئ، تعاين نور بينما تلطّخ معطفها الأبيض بدماء جريح وصل مصاباً بطلق ناري، صورة أشعة في محاولة لتشخيص حالة ألم يعاني منها زائر من بلد عربي قصد المستشفى.
في ممرّ بين قسم الطوارئ وجناح كورونا، يقترب منها أطباء متمرنون بين الحين والآخر لاستشارتها حول حالات يتابعونها.
لم يكن اتخاذ خيار الهجرة من مدينة تعشق تفاصيلها سهلاً، لكنّه “الخيار الأفضل لك ولأطفالك إن كنت ترغبين في تأسيس أسرة”.
تزامن عمل نور في لبنان في سبتمبر (أيلول) 2019 مع بدء معالم الانهيار الاقتصادي، الأسوأ في تاريخ البلاد. وعلى وقع التظاهرات الشعبية التي انطلقت في الشهر اللاحق ضد السلطة السياسية المتهمة بالفساد، عاينتْ عشرات المتظاهرين الجرحى، ليبدأ بعدها تدفّق مصابي كورونا.
انفجار مرفأ بيروت والأزمة الاقتصادية
وشكل انفجار مرفأ بيروت، الذي خلّف أكثر من مئتي قتيل و6500 جريح، الفاجعة الأكبر. عندما تتذكر اللحظة، تقول وهي تغالب دموعها “سقط السقف علينا”.
بعد الانفجار تدفق مئات الجرحى إلى المستشفى وخلفهم عائلات مذهولة تسأل عن أحبائها. وبعد ساعات، علمت الطبيبة أن منزلها قد تضرر أيضاً جراء الانفجار، كما حال العديد من أحياء العاصمة.
وفاقم الانفجار الأزمة الاقتصادية التي لم توفّر أي فئة، وترافقت مع أزمة سيولة وتدهور العملة المحلية التي خسرت نحو تسعين في المئة من قيمتها مقابل الدولار.
وعلى غرار المواطنين كافة، تقلّصت قيمة رواتب العاملين في القطاع الطبي، ووجدوا بين ليلة وضحاها أنّ مدخراتهم عالقة جراء قيود مصرفية مشددة.
وباتت معاناة الأطباء الذين يعملون في القطاع العام أو على حسابهم الخاص أكبر، مع تقشف في موازنة المستشفيات المنهكة من جهة، وتراجع قدرة المرضى على ارتياد العيادات الخاصة من جهة أخرى، وفقدان عشرات الآلاف وظائفهم أو جزءاً من مصادر دخلهم.
ولم تنجح القوى السياسية، جراء الانقسامات وصراع النفوذ، في تشكيل حكومة منذ الصيف الماضي، لتباشر بتطبيق خطة إنقاذ للحدّ من السقوط الاقتصادي الحر.
مغادرة ألف طبيب
ويقول نقيب الأطباء البروفيسور شرف أبو شرف إن هجرة الأطباء ازدادت بشكل لافت منذ انفجار المرفأ الذي أخرج مستشفيات عن الخدمة ودمّر عيادات خاصة.
ويقدّر أبو شرف عدد من غادروا منذ أواخر عام 2019 بألف طبيب، أي ما يعادل عشرين في المئة على الأقل من إجمالي الأطباء. وعدد مماثل من الممرضات والممرضين، وفق تقديرات نقابتهم.
ويحذّر من أنّه “اذا استمرت مغادرة الأطباء بهذا الشكل، واحداً تلو الآخر، فسيشكل ذلك كارثة”، خصوصاً أنّ “أكثريتهم كفاءات عالية” لا يمكن سدّ الفراغ الذي يتركونه سواء في علاج المرضى أم تدريب الأطباء الجدد.
وتتراوح أعمار أكثرية من يهاجرون، وفق أبو شرف، “بين 35 و55 سنة، أي أنهم عصب القطاع الصحي”.
اليأس من الطبقة السياسية
وتشكل دول الخليج وجهة رئيسية للأطباء والممرضين المغادرين، بالإضافة إلى دول أوروبية خصوصاً فرنسا وكذلك الولايات المتحدة.
وإذا كان بعضهم، خصوصاً من توجهوا إلى الخليج، قد يعودون عندما تتحسّن الأمور، فإنّ غالبية من يهاجرون إلى دول الغرب فقدوا الأمل ولا يخططون للعودة. ويبدي أبو شرف أسفه لكون “الغرب سيستفيد منهم في وقت نحن بأمس الحاجة إليهم”.
ويقول أطباء إن الهجرة الطبية الجماعية غير مسبوقة. وكتب رئيس لجنة الصحة النيابية الدكتور عاصم عراجي في تغريدة على “تويتر” قبل أيام، “خلال عملي كطبيب متمرن في الثمانينيات في مستشفى الجامعة الأميركية، كانت رائحة الموت في كل شارع وحي (…) لم يترك إلا القليل من الأطباء وصمد الجسم الطبي في كل مستشفيات بيروت والمناطق”.
ورأى أن الهجرة حالياً ليست ناتجة من عوامل اقتصادية فحسب، بل بسبب “اليأس من الطبقة السياسية” أيضاً.
قرار مرّ
بعد عشر سنوات عمل فيها في لبنان، يستعد الطبيب النفسي والأستاذ الجامعي فرانسوا عازور (40 سنة) مع زوجته الطبيبة وطفليهما للانتقال إلى فرنسا التي يحملون جنسيتها.
ويقول إن أسباباً متداخلة دفعته إلى حسم قراره، أبرزها أنه “حتى اللحظة، لا مؤشر إلى احتمال التغيير أو تحسّن الوضع” السياسي. ولا يريد لطفليه أن يعيشا تجربة مماثلة لطفولته خلال الحرب وعدم الاستقرار السياسي.
ويصف قرار الهجرة بأنه “مُرٌّ… لدينا هنا منزلنا، عياداتنا، نعمل في المستشفى ومستقرون بشكل جيد ولا نواجه أي صعوبات مهنية (…) لكننا نترك العائلة وهذا أمر صعب للغاية”.
وتلخّص الطبيبة جلبوط شعور المرارة ذاته بالقول “بيروت مدينة تدمنين عليها. يمكنك أن تشعري فيها بارتياح شديد، لكن العيش فيها قد يكون سيئاً لك إلى أقصى حد”.