علاجات أفضل للسرطان، تقدُّم في طول العمر، أدوية ولقاحات ثورية، هذه بعض الجوائز المحتملة لسباق عالمي ناشئ للنهوض بالعلوم الحيوية. وتضخ الصين مليارات الدولارات في جهودها لتسبق الجميع في هذا المجال، حيث يزعم الخبراء أن عدد سكانها الهائل البالغ 1.4 مليار شخص يوفر كنزاً ثميناً من البيانات.
وكميات هائلة من هذه البيانات الجينية تتوافر بالفعل في البنوك الحيوية ومراكز الأبحاث على مستوى البلاد، لكن الحكومة الصينية تطلق الآن “مسحاً جينياً محلياً” لجمع المعلومات عن هذه الموارد وزيادة الرقابة عليها، وفقاً لخبراء.
الصين تقف على “منجم ذهب” من البيانات الجينية.. لماذا لا تريد مشاركته مع أحد؟
في السنوات الأخيرة، شددت السلطات الصينية أيضاً من ضوابط مرور الأجانب إلى هذه البيانات، عكس عديد من الدول الغربية التي تعهدت بفتح المعلومات للجميع، كما تقول شبكة CNN الأمريكية.
وهذا المسح المحلي والقيود المفروضة على مرور الأجانب جزء من الضوابط الجديدة على البيانات الجينية في الصين، والتي دخلت حيز التنفيذ في يوليو/تموز.
على أن بعض الخبراء لفتوا إلى أن “هذا الاكتناز الجيني قد يزيد من صعوبة التعاون البحثي العالمي، وربما يأتي بنتائج عكسية على الصين”.
حيث تقول لشبكة CNN، جوي واي تشانغ، مديرة مركز العلوم العالمية والعدالة المعرفية، التي شاركت في اجتماعات التشاور خلال صياغة الضوابط الجديدة: “الحكومة الصينية ترغب في أن يكون لها اليد العليا في هذا المجال، لأنها تدرك أنه ينطوي على إمكانات اقتصادية ضخمة، ولكن الصين بحاجة إلى تعاون دولي لتحقيق هذه الإمكانات”.
وأضافت واي تشانغ: “والوضع الحالي يشبه أن يكون لديك منجم عند باب منزلك مباشرة، لكنك لا تعرف كيف تستخرج هذا الذهب منه”.
ما فوائد المادة الوراثية في دراسة الأمراض وعلاجها؟
تقول CNN إن البناءات الجينية التي تتكون منها أجسامنا تفتح الطريق لاكتشافات كثيرة، من الرعاية الصحية والاقتصاد إلى الدفاع الوطني والسلامة البيولوجية.
وفي السنوات الأخيرة، أكد العلماء والسلطات الصينية فوائد المادة الوراثية في دراسة الأمراض وعلاجها؛ وتطوير الأدوية والأجهزة الطبية؛ وفي تحسين فهم كيفية تشكُّل العيوب الخَلقية أو كيفية مساهمة الجينات في إطالة الأعمار، وهذا تحديداً يحمل أهمية خاصة، بالنظر إلى الأزمة الديموغرافية التي تلوح في أفق الصين، حيث ينخفض معدل المواليد ويتقدم سن العاملين.
ويزعم المسؤولون أن بيانات الجينات في البلاد “مورد استراتيجي وكنز ثمين”، وذلك بفضل العدد الهائل للصينيين و”سكانها الأصحاء والمعمرين”، وإن نبَّه العلماء إلى أن جينات سكان كل بلد ثمينة بطريقتها.
الصين تحرص على “حماية جينات شعبها”
ومع تنامي اعتبار الحمض النووي مصدراً طبيعياً ثميناً مثل النفط أو الأرض، تحرص الصين على حماية جينات شعبها، وهو ما أثار قلق بعض العلماء من خسارة التعاون الدولي.
تقول كاثرين وانغ، الشريكة في مكتب المحاماة العالمي Ropes & Gray، والتي تركز على علوم الحياة، إن الضوابط المبدئية التي صدرت عام 2019 تمنع الكيانات الأجنبية من جمع البيانات الوراثية الصينية أو إتاحة هذه المواد في الخارج؛ وذلك لمنعها من استخدامها “لأغراض تجارية عادية” مثل خدمات التسلسل الجيني.
ورغم أن التعاون البحثي مثل الدراسات السريرية لا يزال مسموحاً به، فهو يتعرض لتدقيق أكثر صرامة، وتُلزم “الأطراف الأجنبية” والشركاء الصينيون بإخطار السلطات والحصول على الموافقة الحكومية، وتتضمن اللوائح الجديدة تفاصيل إضافية عن هذه العملية ومراجعات شروط الأمان الإلزامية في ظروف معينة.
وتأتي هذه التغييرات بالتزامن مع التركيز المتزايد على الأمن القومي في عهد الزعيم الصيني شي جين بينغ، وتكثيف بكين للقوانين في مجموعة من الاهتمامات ذات الأولوية من التجسس المضاد إلى الأمن البيولوجي.
وقالت تشانغ إنَّ نهج التعامل مع البيانات الوراثية البشرية صارم لدرجة أنه “يقصر المرور إليها على المواطنين الصينيين المقيمين في الصين”. وتوجد عدة أسباب وراء هذا النهج.
إذ يقول المسؤولون إن فرض قيود أكثر صرامة ضروريٌّ لمنع “التدفق غير القانوني” للبيانات الوراثية الصينية، ربما بسبب التداعيات المستمرة لحالة عالم من جامعة هارفارد اتُّهم بجمع عينات وراثية من مزارعين صينيين فقراء دون موافقتهم.
ومن الأمثلة الأخرى غير الأخلاقية التي استشهدت بها السلطات الصينية، العالم الصيني هي جيانكوي، الذي أدين بعد أن أنتج أول طفلتين معدلتين جينياً في العالم بالصين عام 2018.
“السيادة الجينية”
لكن الصين لها دافع آخر أيضاً: وضع الأساس لما يسميه بعض الخبراء “السيادة الجينية”، أي السيطرة الكاملة على البيانات الجينية داخل البلاد.
وعلى الرغم من أن العديد من البلدان الأخرى لديها أيضاً قوانين تنظم استخدام ونقل البيانات الجينية الخاصة بسكانها، فإن قليلاً منها بصرامة قوانين الصين.
فمثلاً، يوفر البنك الحيوي في المملكة المتحدة، وهو عبارة عن قاعدة بيانات تدعمها دائرة الصحة الوطنية الحكومية، بيانات جينية مجهولة المصدر من سكان المملكة المتحدة “للباحثين على مستوى العالم ليستخدموها في تحقيق اكتشافات علمية جديدة”، وفقاً لموقع البنك الحيوي.
وبالمثل في الولايات المتحدة، تدير الهيئة الحكومية “المعاهد الوطنية للصحة (NIH)” قاعدة بيانات جينية، وبإمكان العلماء المؤهلين على مستوى العالم تقديم طلب للمرور إليها. ويصف موقع المعاهد الوطنية للصحة بيانات الجينات بأنها “مورد مشترك مهم”، مضيفاً أن “مشاركة نتائج البحث بالتوقيت المناسب يسرّع الاكتشافات” التي تعود بالفائدة على المجتمع العلمي ككل.
وعلى النقيض، تقول تشانغ: “يبدو أن الصين تبنت نهجاً معاكساً تماماً… فهي تغلق على نفسها، وتريد أن يظل كل شيء محلياً وداخلياً”.
وقد تكون لهذا تداعيات أوسع على قدرة العلماء على العمل مع أقرانهم على مستوى العالم، مع تراجع التعاون بين الولايات المتحدة والصين بالفعل بسبب التوترات السياسية المتفاقمة، وعزلة الباحثين الصينيين في أثناء جائحة كوفيد-19. وكل هذا قد يعيق في النهاية آمال الصين في كسر الحدود والارتقاء فوق المنافسة. وتقول تشانغ: “علوم الحياة الصينية قوة رئيسية في العالم، لكنها ليست قوة عظمى بعد. وفي كثير من المجالات المتطورة لا تزال تعتمد على التعاون الدولي”.
وقالت إن التقدم العلمي اليوم يبدو مختلفاً تماماً عما كان عليه قبل بضعة عقود فقط: “في الوقت الحاضر نتحدث عن بيانات ضخمة، نتحدث عن جمع بيانات. وفي هذا الإطار، لن يضر تقييد المرور إلى هذه البيانات إلا بالصين”.
عربي بوست