قال سيغموند فرويد “أول إنسان رشق بشتيمة بدل حجر كان مؤسس الحضارة”
رفيق خوري كاتب مقالات رأي
“التاريخ للحروب، وليس السلام تاريخ” كما قال هيغل. وما كان غريباً أن يسأل الرئيس جون كينيدي أمام معاونيه بالقول “هل من الضروري أن تكون هناك حرب لتصبح رئيساً عظيماً؟”، لكن الغريب أن الاغتيال جعل من كينيدي أسطورة. واللافت في الوقائع أن شن الحروب ليس دائماً بوليصة ضمان لعظمة الحاكم، فضلاً عن أن تطور الأسلحة يرافقه انحدار في نوعية القادة. ففي كتاب “قيادة مكتب: الرئاسة الأميركية من تيودور روزفلت إلى جورج دبليو بوش” يقول ستيفن غروبارد المؤرخ في جامعة هارفرد إنه “خلال 70 سنة تعاظمت أهمية المنصب الرئاسي، لكن نوعية الذين احتلوه تناقصت”. ومختصر آرائه في الرؤساء هو “أيزنهاور جنرال بخمسة نجوم خارج عمقه، كينيدي صبي معجزة مولع بإنجازاته: كارتر متطهر أخلاقي واقتصادي مبذر، ريغن بطل مخترع ذاتياً ومكتمل، بوش الأب نيو إنغلاندي ممل، كلينتون مسلسل مراوغ، وبوش الابن صبي ريغن”. فليس في أميركا اليوم جورج واشنطن ولا لينكولن وروزفلت. وليس في بريطانيا تشرشل. وليس في فرنسا شارل ديغول. وليس في ألمانيا بسمارك. وليس في روسيا بطرس الأكبر ولا لينين وستالين.
لينكولن وضع في حكومته خصومه الذين يتصور كل منهم أنه أفضل منه للرئاسة. ديغول كان إلى جانبه أندريه مالرو، وحين دخل باريس بطلاً للحرب العالمية الثانية ضد هتلر بادر إلى زيارة فرنسوا مورياك وبول فاليري. وعندما خذله الفرنسيون في استفتاء استقال وعاد لقريته. تشرشل حنى رأسه للديمقراطية حين خذله الناخبون مباشرة بعد قيادته للحرب ضد هتلر واختاروا الزعيم العمالي أتلي، وأصدر كتباً مهمة بأكثر مما رسم لوحات. وبطرس الأكبر استعاد أوكرانيا من السويد وفتح بلاده على أوروبا، في حين يعمل بوتين الذي يقلده في حرب أوكرانيا على إغلاق الباب الروسي على الغرب الذي يراه عدواً لمشروعه الأوراسي.
وسط الانحدار في القيادة يصدر الدكتور هنري كيسنجر، وهو في عامه الـ100، كتاباً جديداً تحت عنوان “القيادة: ست دراسات في الاستراتيجية العالمية”. أما القادة المختارون فإنهم كونراد أديناور وديغول وريتشارد نيكسون وأنور السادات ولي كوان يو ومارغريت تاتشر. اثنان منهم، على الأقل، صنعا أعجوبة البناء في السلم. أديناور أعاد بناء ألمانيا المهدمة بعد الحرب العالمية الثانية. ولي كوان يو جعل من بلد صغير مملوء بالمستنقعات هو سنغافورة معجزة اقتصادية وتعليمية. والسر هو الحوكمة الرشيدة، لا الحكم القاسي. وما يركز عليه كيسنجر هو “نمطان للقيادة”: واحد هو “البراغمانية بعيدة النظر”، وآخر هو “الرؤية التنبؤية الجريئة”. والأساس هو “توازن القوى”، ومعه “توازن السلوك”. لماذا؟ لفرض قيود على ممارسة الحاكم للقدرة والقوة في ما يتعلق بالمطلوب للتوازن العام”.
وليس في حرب أوكرانيا التي شنها بوتين شيء من توازن القوى ولا من توازن السلوك. بوتين برر الذهاب إلى الحرب بسردية قوامها أن أوكرانيا “مستعمرة وليست بلداً”، وزيلينسكي “نكتة ولعبة” في أيدي “النازيين الجدد” والغرب، لكن زيلينسكي قاوم وصمد بدلاً من أن يهرب كما توقع كثيرون، بحيث أبطل سردية بوتين، وبدت أوكرانيا عصية على جيش الرجل الذي لا يستطيع أن يربح، ولا أن يخسر، وسط دعاء البطريرك كيريل له بالنصر وطول العمر. والغرب الأميركي والأوروبي اندفع في تسليح الأوكرانيين، لكنه لا يعرف ماذا يفعل إذا نفذ بوتين تهديده بالسلاح النووي.
ومن المفارقات أن تدعو أوساط عدة في الشرق الأوسط لبوتين بالنصر، وتحلم بحكام على طريقة الزعيم الصيني شي جينبنيغ. وإذا كان السلام حلم الحكيم والحرب تاريخ الرجل، كما يقول المثل، فإن “عبادة الشخصية” هي مرض القيادة. وما أكثر انتشار هذا المرض، وأشد أضراره ومخاطره على الشعوب. ولا شيء يختصر الاتجاه الآخر في العالم نحو الحضارة الإنسانية أكثر من قول سيغموند فرويد “أول إنسان رشق بشتيمة بدل حجر، كان مؤسس الحضارة”.