التجدد الفلسطيني


كيف يمكن إرساء نظام سياسي جديد بعد هجوم إسرائيل على غزة؟

خالد الجندي 

بعد 10 أسابيع من شنهم حرباً وحشية على قطاع غزة، يستمر القادة الإسرائيليون في التشديد على أن حملتهم ستتواصل حتى القضاء على “حماس”. لكن يبقى عليهم توضيح ما الذي سيعنيه ذلك عملياً، أو أن يوضحوا ماذا ومن يرونه قادراً على ملء فراغ الحوكمة الذي قد ينتج من عمليتهم العسكرية. إذ إزاء غياب الرؤية الواضحة في شأن خاتمة الحرب، ليس ثمة قصور في التكهنات تجاه ما سيحصل حين يتوقف انهمار القذائف. وطرحت سلسلة متفاوتة من السيناريوهات المتعلقة بـ”اليوم التالي” [لوقف الحرب]، وتراوحت بين خيال أمنيات عن وصاية عربية على غزة، إلى دعوات صريحة مقلقة، صادرة في الغالب من إسرائيليين، تتحدث عن ترحيل معظم سكان غزة أو جميعهم إلى مصر. وحددت إدارة بايدن من جهتها ملامح رؤيتها المتعلقة باليوم التالي للحرب، فتضمنت، بين أمور أخرى، استبعاد تشريد الفلسطينيين من غزة، أو احتلال القطاع مجدداً من إسرائيل. وعبرت إدارة بايدن إضافة إلى هذا، عن رغبتها في أن ترى عودة لـ”سلطة فلسطينية” “متجددة” إلى غزة، وتمثل السلطة الفلسطينية الكيان الفلسطيني الذي يسيطر شكلياً على أجزاء من الضفة الغربية. وكذلك تذكر هذه الإدارة الآن، بالتناقض مع مواقفها خلال السنوات الثلاث الماضية، أنها جدية تجاه عملية سياسية تتوج بحل الدولتين، مع دولة فلسطينية ذات سيادة تقوم إلى جانب إسرائيل.

لكن من المرجح أن تواجه الرؤية المتفائلة للإدارة الأميركية بعض الحقائق الصعبة، وتتمثل إحدى هذه الحقائق بأن لا أحد يعرف متى وكيف ستنتهي الحرب، وأي مقدار سيبقى من غزة والغزيين حينما يتوقف القتال. وذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن إسرائيل لن تسمح بعودة السلطة الفلسطينية لغزة، واعداً بإبقاء القوات الإسرائيلية هناك إلى أجل غير مسمى، ووضع خطط لـ”منطقة عازلة” دائمة داخل القطاع من شأنها تقليص مساحة الأرض المتاحة للفلسطينيين. وأكد نتنياهو لشركائه في الائتلاف الحكومي بأنه الزعيم الوحيد الذي يمكنه منع قيام دولة فلسطينية ذات سيادة.

وباتت الحوادث على الأرض تسلك بالفعل اتجاهات خطرة. ويصعب تخيل الحجم الهائل للدمار والموت في غزة. وبحسب وزارة الصحة في القطاع، قتل الهجوم الإسرائيلي حتى الآن 18,800 شخصاً في الأقل، معظمهم مدنيون (من بينهم 8200 طفلاً). واقتلعت العملية العسكرية 80 في المئة من سكان غزة الذين يبلغ عددهم 2,3 مليون نسمة، وحولت شمال القطاع إلى منطقة غير صالحة للسكن. وأدت القيود الإسرائيلية الصارمة على إمدادات الطعام والمياه والوقود المخصصة لسكان غزة، إلى تفشي الأمراض والجوع على نطاق واسع، الأمر الذي وصفته الأمم المتحدة بأنه “كارثة إنسانية كبرى” استدعت تحذيرات أطلقها مسؤولون أمميون ومراقبون آخرون من احتمال وقوع إبادة جماعية. يضاف إلى ذلك أن استخدام التجويع وانتشار الأمراض كسلاح، بالتوازي مع الانهيار شبه التام للنظام الصحي في غزة، والقصف المتواصل على سكان محشورين في مساحات تستمر في التقلص، بات يسهم يوماً بعد يوم في زيادة احتمال اضطرار بعض سكان غزة الأكثر هشاشة، أو جميعهم، إلى عبور الحدود باتجاه مصر. وتتوافق هكذا نتيجة في الواقع مع رغبة نتنياهو في رؤية “ضمور تدريجي” في عدد سكان القطاع.

وإلى جانب الوقائع التي يفرضها الإسرائيليون على الأرض، سيعتمد مستقبل غزة أيضاً على تطورات تحصل داخل الساحة السياسية الفلسطينية. إذ ذكر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أن الفلسطينيين ينبغي أن يكونوا “في مركز” كل حديث يتناول مستقبل غزة. لكن كي يحصل هذا الأمر، لن يحتاج الفلسطينيون إلى إحياء مؤسسات الحوكمة والأمن وحسب، بل عليهم أيضاً، على نحو أكثر إلحاحاً، إحياء السياسة والحياة السياسية. ويرجع ذلك إلى أن غياب القيادة السياسية الفاعلة سببه تحلل المؤسسات السياسية الفلسطينية، لاسيما “السلطة الفلسطينية”، و”منظمة التحرير الفلسطينية”، المؤسسة الأكبر التي تمثل ظاهرياً مختلف الأطراف المنضوية في الحركة الوطنية الفلسطينية.

وبالتالي، وفق ما يتضح اليوم، فإن الانقسام والركود اللذين أصابا المؤسسات السياسية الفلسطينية على مدى الأعوام الـ16 الماضية كانا كارثيين ليس على الفلسطينيين وحسب، بل أيضاً على الإسرائيليين والمنطقة بأسرها. وبالفعل، وفق ما حذر محللون كثر (من بينهم كاتب هذه السطور) منذ زمن، فقد تحول الانقسام المدمر بين “حماس” و”فتح”، وهما الفصيلان السياسيان الفلسطينيان الأكبر اللذان تقاتلا للسيطرة على غزة عام 2007، إلى مصدر دائم للعنف وعدم الاستقرار. وعلى رغم أن جزءاً كبيراً من سبب هذا القصور السياسي الفلسطيني كان ذاتياً (أي فلسطيني داخلي)، إلا إن إسرائيل عملت بفاعلية على إشاعة الضعف والانقسام بين الفلسطينيين بغية استدامة سيطرتها على الأراضي المحتلة، إلى أجل غير مسمى. إذ إن مبدأ “فرق تسد” المعتمد تجاه الفلسطينيين تجسد بسياسة نتنياهو الخبيثة التي ترى أن دعم “حماس” في غزة سيحول دون تحقيق حل الدولتين. وقضت حوادث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) على هذا التوجه السياسي.

واستناداً إلى ذلك، إن كل نقاش في مسألة “اليوم التالي” ينبغي أن يستند إلى تشجيع إرساء قيادة سياسية فلسطينية موحدة ومتماسكة. وفي هذا الإطار، سيكون على القادة الفلسطينيين تنحية التزاماتهم الفئوية واستبعادها، وسيتوجب على إسرائيل والولايات المتحدة التخلي عن الفكرة غير الواقعية أبداً، القائلة باستبعاد “حماس” نهائياً من المسرح السياسي الفلسطيني. إذ لن يسهل إقناع الفلسطينيين والإسرائيليين وحلفائهم الأميركيين بذلك الأمر. وعلى الأرجح، سيعني فشلهم في اعتماد هذه التسويات أن الأحوال الإنسانية والأمنية في غزة لن تتحسن، وستبقى التسوية السياسية بعيدة المنال.

كارثة أخرى

الحوادث التي تجري في غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) لها طبيعة تاريخية وتتساوى مع لحظات كارثية أخرى في التاريخ الفلسطيني، مثل نكبة عام 1948، التي أخرج أثناءها بالقوة من ديارهم، أو أجبر على النزوح وحرم من العودة، قرابة 800 ألف فلسطيني، أي نحو ثلثي السكان العرب في فلسطين تحت الانتداب البريطاني. وينطبق وصف مشابه على “حرب الأيام الستة” عام 1967، حين سيطرت إسرائيل على الأجزاء المتبقية من فلسطين التاريخية، أي الضفة الغربية وقطاع غزة، وطردت وشردت 300 ألف فلسطيني إضافي. ومثلما حصل في عامي 1948 و1967، من المرجح أن تبدل حرب غزة الراهنة مسار السياسات الفلسطينية بطرق يستحيل التنبؤ بها.

صورة التقطت من رفح تظهر الدخان يتصاعد فوق خان يونس في جنوب قطاع غزة أثناء قصف إسرائيلي في 26 ديسمبر 2023 خلال المعارك بين إسرائيل ومقاتلي حماس

صورة التقطت من رفح تظهر الدخان يتصاعد فوق خان يونس في جنوب قطاع غزة أثناء قصف إسرائيلي في 26 ديسمبر 2023 (أ ف ب)

ومنذ الآن، بات الهجوم المستمر على قطاع غزة يمثل أحد الحوادث الأكثر دموية، وواقعة النزوح القسري الأضخم في التاريخ بالنسبة إلى الفلسطينيين. وعلى غرار ما سيشعر به الإسرائيليون لسنوات عدة إزاء الهجوم الفظيع الذي قامت به “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، فإن جسامة الخسائر البشرية والمادية التي ألحقتها إسرائيل بغزة ستترك لأجيال قادمة بصمة لا تمحى في الوعي الفلسطيني. وتتخطى الصدمة الجماعية تجاه ما يحصل في غزة اليوم، مثلما حصل جراء النكبة، حدود القطاع وتسود في أوساط الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية وإسرائيل والشتات، وحتى على نطاق العالم العربي، وستشكل تلك الصدمة الوعي السياسي للجيل القادم من القادة الفلسطينيين.

في الأثناء، تتمثل الحقيقة الصعبة لكن الحتمية بأن هدف إسرائيل المعلن بالقضاء على “حماس” كقوة سياسية وعسكرية، لا يمكن تحقيقه، بل يشكل، بصراحة تامة، وصفة لدوامة موت ودمار لا تنتهي. لذا، كلما تصالح المسؤولون الإسرائيليون والأميركيون بصورة أسرع مع هذه الحقيقة، يضحي الجميع في حال أفضل. ولم يستطع شهران من القصف الوحشي والتدمير لأجزاء كبيرة من البنية التحتية في قطاع غزة، حتى مجرد إخراج “حماس” من سلطتها [على غزة] أو ضرب قدراتها العسكرية على نحو ملحوظ، بما في ذلك قدرتها على إطلاق الصواريخ، وكذلك فإنهما لم يحققا سوى قليل في عرقلة أنظمة قيادتها وسيطرتها. وأظهرت صفقة تبادل الرهائن بالأسرى، على رغم قصر مدتها، استمرار قوة “حماس”، وأن ليس أمام إسرائيل سوى خيار التعامل معها. وتشير دراسة حديثة أجرتها “مجلة +972” إلى أن إسرائيل قد تلحق عمداً إصابات ومعاناة كبيرة بالمدنيين على أمل دفع الغزاويين للانقلاب على “حماس”، لكن ما من دليل واضح يشير إلى إمكان حصول هذا الأمر. وفي الحقيقة، من الأكثر ترجيحاً أن يكون القصف والاجتياح الإسرائيلي لغزة حققا تأثيراً معاكساً، فأسهما في تقريب فلسطينيين كثر من “حماس”، على نحو ما أظهرت استطلاعات حديثة أجراها “المركز الفلسطيني للأبحاث السياسية واستطلاعات الرأي”.

تشكل “حماس” مكوناً أساسياً في السياسة الفلسطينية ولها جذور عميقة في المجتمع ومناصرون كثر داخل الأراضي المحتلة وخارجها. وعلى رغم بشاعة بعض أفعالها وربما بعض أفكارها، فمن المرجح أن تبقى “حماس” جزءاً من المشهد السياسي الفلسطيني في المستقبل المنظور. وعلى نحو مماثل، إن استمرار ظروف الاحتلال والحصار وغيرها من مظاهر العنف الإسرائيلي البنيوي في قطاع غزة، يترافق مع استمرار بعض مظاهر المقاومة العنيفة، من “حماس” أو غيرها من الفصائل.

العودة إلى غزة           

بسبب متانة “حماس” وأسباب أخرى، من غير الواقعي توقع أن يتمكن منافسو هذه الحركة في السلطة الفلسطينية من الانقضاض ببساطة على غزة والسيطرة على القطاع. ومن غير المرجح أن تعود السلطة الفلسطينية، في الأقل في الشكل الذي هي عليه الآن، لغزة ضمن أي وقت قريب، على رغم أفضلية ذلك بالنسبة إلى الولايات المتحدة وقوى غربية أخرى. في المقابل، عبر ائتلاف نتنياهو الحاكم عن رفضه الشديد لهذا الاحتمال. لكن حتى لو جرى إقناع القادة الإسرائيليين بتبديل موقفهم هذا، فإن السلطة الفلسطينية ترى في احتمال عودتها للسيطرة على المناطق المنكوبة (في غزة) بمثابة كأس مسموم. ولا يود أي مسؤول فلسطيني أن ينظر إليه قادماً إلى غزة على متن الدبابات الإسرائيلية، خصوصاً إن كان في حال ضعف سياسي شديد وترد في الشعبية، كحالة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. وذكر الأخير صراحة أن السلطة الفلسطينية لن تعود لغزة إلا إذا جرى وضع مسار واضح لإرساء دولة فلسطينية.

وفي المقابل، يبقى ذلك الأمر [دولة فلسطينية] يبقى بعيد الاحتمال مع وجود حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية التي تفضل أطراف فيها ضماً كاملاً للأراضي الفلسطينية، ومع السجل الحافل لإدارة بايدن في علاقتها بالشرق الأوسط، الذي يتضمن التمنع عن ممارسة الضغط على إسرائيل. كذلك فإن السلطة الفلسطينية بالكاد تسيطر على المناطق القليلة الخاضعة لولايتها، وتعاني حال انهيار بطيء، وليس ثمة رغبة عند عباس في وراثة المشكلات الإنسانية والأمنية الجسيمة الناتجة من تدمير إسرائيل للقطاع. وعلى الأرجح، ثمة مشاعر متبادلة في هذا الشأن. ومن غير المرجح أن يكون الفلسطينيون في غزة متحمسين لاستقبال بيروقراطية عباس الفاسدة والعقيمة. وفي نهاية المطاف، إزاء انعدام الشعبية الطاغي التي يعانيها عباس، وإزاء حضور “حماس” المستعصي على الأرض، فإن أية عودة للسلطة الفلسطينية لقطاع غزة ستتطلب موافقة “حماس”.

تظاهرة لأهالي الذين اختطفهم مقاتلو حماس في 7 أكتوبر 2023، أمام مبنى وزارة الدفاع في تل أبيب بتاريخ 25 ديسمبر الجاري

تظاهرة لأهالي الذين اختطفهم مقاتلو حماس في 7 أكتوبر 2023، أمام مبنى وزارة الدفاع في تل أبيب بتاريخ 25 ديسمبر الجاري (أ ف ب)

وعلى ضوء ضعف شرعية القيادة الفلسطينية الراهنة، يرى كثيرون داخل فلسطين وخارجها، أن إجراء انتخابات جديدة، لم تشهدها الساحة الفلسطينية منذ عام 2006، يمثل عنصراً ضرورياً لنظام ما بعد الحرب وعملية إعادة إعمار غزة، بعد ذلك. لكن فرص إجراء هذه الانتخابات تبقى ضئيلة للغاية. وتسببت الحملة الإسرائيلية على غزة بحال تهجير وتدمير ومعاناة هائلة، وتلك ظروف يرجح استمرارها لبعض الوقت. إنها ببساطة ظروف لن تسمح بإجراء انتخابات. ثم هناك التساؤل الدائم الذي لا مفر منه عن مسألة السماح لـ”حماس” بالمشاركة في الانتخابات. من شبه المستحيل تخيل أي ظرف من الظروف ستسمح فيه إسرائيل أو الولايات المتحدة لـ”حماس”، حتى أي صيغة إصلاحية معتدلة منها، بالمشاركة في انتخابات مستقبلية. إلا أن أي مسار انتخابي يستند صراحة على استبعاد “حماس” سيحرم الانتخابات من الشرعية المطلوبة، وقد يؤدي حتى إلى حرب أهلية جديدة. وباختصار، يمكن القول إنه من الصعب جداً رؤية طريق لمستقبل السياسة الفلسطينية بوجود “حماس”، لكن، وبمقدار الصعوبة نفسه، ليس ثمة طريق للمضي قدماً من دونها.

إحياء منظمة التحرير الفلسطينية          

ثمة طرق لتجاوز هذه المعضلة الأساسية، لكنها ستتطلب تفكيراً رصيناً وتواضعاً من جميع الأطراف. أولاً وقبل كل شيء، على المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين التصالح مع واقع أن “حماس”، بطريقة أو بأخرى، ستبقى قوة في السياسة الفلسطينية. وعليهم، إضافة إلى هذا، التخلي عن فكرة إن بوسعهم إعادة هندسة الواقع السياسي الفلسطيني كي يلائم المتطلبات السياسية الإسرائيلية (أو الأميركية)، وهي الفكرة المتعجرفة التي أسهمت في تقويض الشرعية المحلية للقادة الفلسطينيين منذ بداية مسار أوسلو عام 1993. في المقابل، وبدرجة لا تقل أهمية، على القادة الفلسطينيين من مختلف الأطياف السياسية، وضع اختلافاتهم الضيقة جانباً بغية مواجهة التحديات المصيرية الحقيقية التي باتوا يواجهونها الآن.

وبالفعل، يدرك فلسطينيون كثر ما الذي ينبغي فعله لتجديد واقعهم السياسي، أي فك ارتباط السلطة الفلسطينية بمنظمة التحرير الفلسطينية. وفي حين افترض من منظمة التحرير الفلسطينية أن تغدو العنوان الرسمي للحركة الوطنية الفلسطينية التي تمثل الفلسطينيين في كل مكان، فإن السلطة الفلسطينية أنشئت في الأصل عبر “اتفاق أوسلو” كمجلس حكم موقت يشرف على شؤون الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين. وفي هذا السياق، جرى عملياً إبطال منظمة التحرير وطي مصادرها المؤسساتية والبشرية وضمها في إطار السلطة الفلسطينية، وذلك ترقباً لقيام دولة فلسطينية في نهاية المطاف. ولم تبصر هذه الدولة النور أبداً. إلى هذا، فيما غدت السلطة الفلسطينية بحكم الواقع الجسم السياسي الفلسطيني المركزي، جرى تهميش منظمة التحرير وسمح لها بالضمور. إذاً، ينبغي أن يتمثل الهدف بعكس هذا المسار عبر إنقاص أهمية ودور السلطة الفلسطينية، والنهوض بمنظمة التحرير والعمل على تحديد الخطوط الفاصلة بينهما بشكل أكثر وضوحاً. من المستطاع تحقيق هذه العملية من تحديد الخطوط الفاصلة [بين المنظمة والسلطة] من خلال تشكيل حكومة تكنوقراط توافق عليها جميع الفصائل والأطراف، بمن فيهم “حماس”، من دون أن تضم الحكومة أعضاء من الفصائل. وينبغي من الحكومة المذكورة أن تكون انتقالية إلى حين تأسيس دولة فلسطينية فعلية، أو في الأقل إلى أن تسمح الظروف بإجراء انتخابات. ولأن هذه الحكومة لن تضم “حماس”، يمكنها تلقي المساعدات من المانحين الدوليين، وتأدية دور خدماتي، بدل أن تكون جسماً سياسياً.

إقصاء “حماس” من السياسة الفلسطينية تسبب بسنوات من العنف وعدم الاستقرار

واستكمالاً، على عكس معظم الأنظمة السياسية الأخرى، إذ تكون مهمات الحوكمة والقيادة السياسية عموماً بيد الجماعة نفسها، فإن واقع الاحتلال الإسرائيلي والترتيبات التي أنتجها “اتفاق أوسلو”، ترجمت بأن القائمين بمهمات الحوكمة في الساحة الفلسطينية ليسوا بالضرورة الجماعة نفسها التي تتولى قيادة الفلسطينيين. في الحقيقة، ثمة فرصة في هذا التمايز. وفي الوقت عينه الذي ستعمل فيه الإدارة التكنوقراطية الفلسطينية على منح الاستقرار لغزة وإعادة إعمارها، ينبغي من “منظمة التحرير الفلسطينية” أن تنهض كي تتمكن من تأمين قيادة سياسية فلسطينية موثوقة، متمتعة بدعم الشعب الفلسطيني وغطائه الشرعي. وعليها التوسع كي تضم “حماس” وغيرها من الفصائل الموجودة راهناً خارج مظلة منظمة التحرير، إضافة إلى ممثلي المجتمع المدني الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة وخارجها وفي بلدان الشتات. وجرى توضيح الصيغة الأساسية لهذا التوجه في اتفاقات مصالحة فلسطينية متعاقبة منذ عام 2011، لكنها لم تعتمد بسبب امتناع عباس عن قبول مشاركة السلطة، وعجز الولايات المتحدة وإسرائيل عن القبول بدور سياسي لـ”حماس”.

ومن دون شك، ستشعل فكرة تطبيع وجود “حماس” ضمن “منظمة التحرير الفلسطينية”، غضباً في إسرائيل والكونغرس الأميركي وأمكنة أخرى. إن هذا أمر مفهوم، لكنه ليس عقلانياً. إذ إن إقصاء “حماس” من السياسة الفلسطينية هو بالتحديد ما سمح للحركة أن تضحي لاعباً حراً ومخرباً، وتسبب بسنوات من العنف وعدم الاستقرار توجت بالسابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. في المقابل، إن ضم “حماس” إلى الهيئات الإدارية في منظمة التحرير، كالهيئة التنفيذية والبرلمان الذي طال سباته، والمجلس الوطني الفلسطيني، سيساعد في اعتدال هذه الحركة ويحد من قدرتها على التصرف بمفردها. وبالتالي، فلن تغدو قرارات الحرب والسلم، بما في ذلك قرار تنظيم سلاح “حماس”، لن تكون بيد فصيل واحد من الفصائل، بل ستمثل قضايا تتطلب قراراً فلسطينياً إجماعياً وتوافقياً. وعلى رغم من أن ذلك سيصعب تحقيق تسوية سياسية بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، إلا أن هكذا تسوية ستمتلك قدرة أكبر على الصمود. وفي الأحوال كلها، فإن السؤال عمن يمكنه الانضمام إلى السياسة الفلسطينية أو من لا ينطبق عليه ذلك، لا ينبغي أن يخضع بعد الآن للفيتو الإسرائيلي، وإلا، في المقابل، يجب أن يسمح للفلسطينيين أن يختاروا أي من الأحزاب يمكنها الترشح لانتخابات الكنيست. وبالتأكيد، يجب على أية قيادة فلسطينية فاعلة أن تكون قادرة على التصرف وفق المتطلبات والأولويات الوطنية الفلسطينية، وباستقلالية عن إسرائيل والولايات المتحدة اللتان أسهمتا بنفوذهما القسري طوال العقود الثلاثة الأخيرة، في تقويض شرعية القادة الفلسطينيين بنظر شعبهم.

ووفق ما يعلم الفلسطينيون جيداً من تاريخهم المؤلم، فإن أموراً سيئة كتك التي تحصل اليوم تميل لأن تحصل تحديداً في لحظات لا يكون لديهم فيها قيادة سياسية موثوقة. وبالتأكيد، تمثل اللحظة الراهنة إحدى تلك اللحظات، على ما تدرك القيادة الإسرائيلية اليوم، من دون شك. في المقابل، حتى لو أن من شأن قيادة فلسطينية مذعنة وغير فاعلة، تخدم مصالح إسرائيل على المدى القصير، إلا إنها ستشكل عامل زعزعة استقرار للمنطقة بأسرها، وتضر باحتمالات التوصل إلى تسوية سياسية. وبالتالي، تتطلب التحديات التي تنتظر الفلسطينيين قيادة قوية من النوع الذي لم ولن يستطع عباس تأمينه. وعلى رغم أنه لا ينتظر من عباس تبني هكذا إصلاحات من تلقائه، إلا أن دولاً عربية أساسية لها مصلحة في استقرار المنطقة وتحقيق التطلعات السياسية للفلسطينيين، كمصر والأردن والمملكة العربية السعودية، بوسعها استيعابه إلى حين مجيء الوقت الذي تتمكن فيه قيادة أكثر موثوقية من الانبثاق.

في الإطار نفسهن من المستحيل تخيل مسار في إعادة إعمار غزة أو ترسيخ استقرارها من دون قيادة فلسطينية موثوقة وشرعية وموحدة. وبالتالي، يتطلب الأمر نفسه إحداث تجدد حيوي للسياسات المؤسساتية الفلسطينية، خصوصاً منظمة التحرير الفلسطينية. وتوخياً لحصول ذلك، يتوجب على الأميركيين، والإسرائيليين على نحو خاص، التخلي عن الأفكار الخطرة التي تفترض أن بوسعهم التحكم بالسياسة الفلسطينية وهندستها كي تلائم حاجاتهم السياسية أو الإيديولوجية الخاصة، أو أنهم قادرون على إرساء سلام مع مجموعة واحدة من الفلسطينيين، فيما يطلقون حرباً بالتزامن مع ذلك، على مجموعة أخرى. من الصعب أخذ الدعم الكلامي الأميركي لدولة فلسطينية مستقلة على محمل الجد إذا كانت الولايات المتحدة غير مستعدة حتى للسماح للفلسطينيين بالتحكم في سياستهم المحلية. وسيمثل تطبيع “حماس” ضمن سياق إعادة الروح للسياسة الفلسطينية كأساً مراً ينبغي تجرعه، لكن البدائل عن ذلك، كالاستمرار في الإصرار على تدمير “حماس”، ومحاولة جر السلطة الفلسطينية العقيمة والفاقدة للشرعية إلى غزة، أو فرض انتخابات في أجواء مضطربة ومثقلة بالأزمات، ستأتي على الأرجح بنتائج عكسية على غرار ما فعلته في الماضي.

* خالد الجندي باحث بارز ومدير “برنامج فلسطين والشؤون الفلسطينية – الإسرائيلية في معهد الشرق الأوسط”. وضع كتاب “نقطة مخفية عن الأنظار، أميركا والفلسطينيين، من بلفور إلى ترمب”

مترجم من فورين أفيرز، نوفمبر (تشرين ثاني) / ديسمبر (كانون الأول) 2023

اندبندنت عربيه

المقالة تعبر عن راي كاتبها