كيف السبيل إلى إنقاذ الديمقراطية التركية؟

البلاد بحاجة إلى يسار نابض بالحياة يكبح جماح أردوغان

خليل كارافيلي

بالنسبة إلى الديمقراطيين الأتراك، كان من المفترض أن يكون الربيع الماضي لحظة انتصار. فبعد أكثر من عقدين من الحكم الاستبدادي المتزايد، بدا أن رجب طيب أردوغان، رئيس تركيا، على وشك فقدان منصبه. فقد انتهت فترة النمو الاقتصادي المتين والمطرد التي لطالما اعتدّ بها أردوغان. وانهارت الليرة التركية إلى حد جعل الكثير من السكان غير قادرين على شراء السلع الأساسية. ومن ثم، تسبب زلزال مدمر في فبراير (شباط) 2023 في مقتل عشرات الآلاف من الأشخاص، وفشل أردوغان في الاستجابة على نحو ملائم. وكانت استطلاعات الرأي قد أشارت إلى أن الانتخابات الرئاسية في مايو (أيار) ستشهد منافسة محتدمة ونتائج متقاربة، وسيخرج زعيم المعارضة كمال كليتشدار أوغلو منتصراً.

ولكن للأسف، لم يفعل. فبدعم من وسائل الإعلام المتملّقة التي حجبت أي أخبار سيئة، حلّ أردوغان في المركز الأول خلال الجولة الأولى من الانتخابات ثم هزم كليتشدار أوغلو بسهولة في جولة الإعادة. وهكذا، فاز حزب أردوغان وحلفاؤه بغالبية ساحقة في البرلمان التركي، ويعزى الأمر جزئياً إلى القوانين الانتخابية الجديدة التي جعلت المجلس التشريعي يعطي الأفضلية للحزب الحاكم. نتيجةً لذلك، يبدو أردوغان اليوم أقوى من أي وقت مضى.

لقد ترك هذا الانتصار القوى المؤيدة للديمقراطية في تركيا في حالة من اليأس، إذ إن منتقدي أردوغان فشلوا في إزاحته على رغم أنهم اتحدوا خلف مرشح واحد (وهو أمر عجزت المعارضة عن القيام به لفترة طويلة) وذكّروا الأتراك بالوضع الاقتصادي الخطير. وفي الواقع، قلة قليلة من الديمقراطيين ترى طريقة لإنهاء ولاية أردوغان. وقد رضخ كثيرون منهم لفكرة انتظار تقاعد الحاكم الذي طالت فترة حكمه.

ولكن هناك مسار لم تجربه المعارضة قادر ربما على إحداث تغيير، وهو مسار توضحه هزيمة كليتشدار أوغلو أكثر فأكثر. على رغم أن كليتشدار أوغلو يرأس حزب الشعب الجمهوري CHP الاشتراكي الديمقراطي، فقد سعى إلى هزيمة أردوغان من خلال خوض الانتخابات بصفته مرشحاً يمينياً، والتنافس وفق شروط سياسية حددها الرئيس. اعتنق كليتشدار أوغلو السياسات الاقتصادية النيوليبرالية واتخذ موقفاً مناهضاً للمهاجرين. ووعد بالحفاظ على سياسات النظام المتشددة ضد النواب الأكراد المنتخبين. فلا عجب إذاً أنه هُزِمَ أشدّ هزيمة؛ فهو لم يقدّم قط بديلاً أيديولوجياً لمواطني البلاد المحبطين.

إذا كانت المعارضة تريد استعادة الديمقراطية التركية، فعليها أن تبدأ في رسم صورة مناقضة. هذا يعني أنها بحاجة إلى تبني القضايا التقدمية عوضاً عن شنّ حملات حول القضايا المحافظة، وبناء حركة عمالية مجدية. بعبارة أخرى، من أجل مواجهة نظام أردوغان، يتعيّن على المعارضة التركية التحول بحزم نحو اليسار.

سيكون إحياء اليسار السياسي في تركيا تحدياً صعباً، إذ يواجه اليساريون الأتراك اضطهاداً شديداً من الدولة، وسيجدون صعوبة في التغلب على سياسات الهوية الدينية والقومية التي أعطت اليمين اليد العليا. لكن معارضي أردوغان يمكنهم الاستفادة من نجاحات الماضي. في مطلع سبعينيات القرن الماضي، وقف اليساريون في وجه حكام تركيا العسكريين وأعادوا الديمقراطية إلى البلاد. وقد فعلوا ذلك من خلال الضرب مباشرة على وتر الأيديولوجية الطبقية، داعين إلى تحقيق العدالة الاجتماعية من أجل تجاوز الانقسامات العرقية والطائفية.

ويمكنهم فعل ذلك مرة أخرى. صحيح أن أردوغان أنشأ كتلة هائلة من الناخبين المتدينين المحافظين، بيد أن معظم سكان تركيا لا يزالون ينتمون إلى الطبقة العاملة، وكثير منهم يشعرون بخيبة أمل من سياسات عدم التدخل الاقتصادية التي تتبعها الحكومة. كذلك، تُعدّ البلاد موطناً لأقليات وشعوب مهمشة أخرى وقعوا ضحايا القومية اليمينية الإقصائية التي انتهجها الرئيس. بعبارة أخرى، تتوافر هناك جميع المكونات اللازمة لتشكيل دائرة انتخابية قوية وتقدمية.

ولكن من أجل حشد الناخبين بهذه الطريقة وتشكيل تحدٍ خطير لنظام أردوغان، سيتعيّن على المعارضة التركية أن تتوقف عن التموضع وسطياً بين اليمين واليسار، وعليها عوضاً عن ذلك أن تتبنى رسالة اقتصادية تقدمية وموحدة. وسيؤدي تقاعسها عن فعل ذلك إلى ترك تركيا في مواجهة حكم استبدادي لا هوادة فيه.

فلاش باك في الذاكرة

للوهلة الأولى، قد يبدو الوقت الحالي غير ملائم تاريخياً لإحياء اليسار التركي. ففي استطلاعات الرأي، يقول غالبية الناخبين إنهم يمينيون. ومن بين أعضاء البرلمان التركي الذين يبلغ عددهم 600، يصف 404 منهم على الأقل أنفسهم بأنهم من المحافظين القوميين. في المقابل، من بين الذين ليس لهم ميول يسارية، هناك 130 فحسب ينتمون إلى حزب الشعب الجمهوري CHP الاجتماعي الديمقراطي، فيما ينتمي 6 لا غير إلى الأحزاب الاشتراكية.

وفي الواقع، إن سلطة اليمين لا تحدّها نتائج الاستطلاع فحسب. كما هي الحال في عدد من البلدان الأخرى، شهدت عضوية النقابات انخفاضاً حاداً على مدار العشرين عاماً الماضية. وحرصت الحكومة على اعتقال القادة والسياسيين التقدميين. كذلك، أقام السياسيون المعارضون الرئيسيون في البلاد صلات وثيقة مع الأحزاب اليمينية. ومن المؤكد أن المحافظين في البرلمان التركي المنتخب حديثاً يدينون بالكثير لأردوغان، لكن الفضل في حصولهم على الأكثرية يعود في جزء منه لدور حزب الشعب الجمهوري، إذ إنه تنازل طوعاً عن 40 مقعداً في البرلمان إلى حلفاء يمينيين غير مهمين من الناحية الانتخابية مقابل دعمهم في انتخابات مايو.

ليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تهميش اليسار التركي، بما في ذلك عديد من أنصار الديمقراطية التركية. في الستينيات من القرن الماضي، صوت أكثر من 70 في المئة في البلد لمصلحة الأحزاب المحافظة. في عام 1971، نظّم كبار المسؤولين في القوات المسلحة انقلاباً غير دموي. لكن اليسار تمكن من تجاوز هذه العقبات. وفاز بولنت أجاويد، وهو ديمقراطي اشتراكي قاوم الانقلاب، بقيادة حزب الشعب الجمهوري في عام 1972 وتبنى القضايا التقدمية. في عام 1973، تحت قيادته، أصبح حزب الشعب الجمهوري أكبر حزب في البرلمان وشكّل حكومة ائتلافية، مما أنهى الحكم العسكري. في عام 1977، فاز الحزب فوزاً ساحقاً، إذ حصل على 42 في المئة من الأصوات، وهو هامش كبير وفقاً لمعايير النظام البرلماني في البلاد آنذاك. ولا تزال تلك النتيجة هي أفضل نتيجة انتخابية حققها حزب الشعب الجمهوري على الإطلاق.

قد يبدو الوقت الحالي غير مناسب تاريخياً لإحياء اليسار التركي.

كيف تمكّن النشطاء اليساريون من الإطاحة بالمستبدين في تركيا؟ باختصار، ركز معارضو النظام على إعادة توزيع الثروة الاقتصادية، وتوحيد أولئك الذين ليسوا من النخب، في حملة ركّزت على وضع حد لعدم المساواة والاستغلال. حشد أجاويد العمال، وصغار الفلاحين، والطبقة المتوسطة الدنيا في المناطق الحضرية، داعياً إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية والمساواة، وهي دعوة تجاوزت بنجاح الانقسامات الثقافية في تركيا، وكان خير دليل على ذلك انتصار أجاويد حتى في أكثر مناطق تركيا محافظة من الناحية الدينية. دافع أجاويد عن حقوق العمال وحارب نخبة رجال الأعمال، بما في ذلك من خلال الدعوة إلى اتخاذ مبادرات تتيح للعمال الإدلاء برأيهم مباشرةً في إدارة شركاتهم. إنها فكرة يتعيّن على الديمقراطيين الأتراك أن يحيوها اليوم، فهي تظهر أنهم يسعون إلى إجراء تغيير منهجي نيابة عن الجماهير الغفيرة من السكان، وليس مجرد إنهاء سلطة أردوغان الشخصية.

واستكمالاً، إن الانتصارات التي حققها أجاويد وضعت تركيا على نفس المسار الذي سلكته اليونان والبرتغال وإسبانيا، حيث أطاح الاشتراكيون الديمقراطيون أيضاً بالاستبداديين اليمينين في سبعينيات القرن الماضي ودفعوا بلدانهم نحو ديمقراطية أعظم. لكن في تركيا، لم ينجح اليسار قط في إبقاء القوات المسلحة والميليشيات اليمينية بعيدة من السياسة. فشل أجاويد في بسط سلطته على الدولة، وأثارت محاولاته الرامية إلى إدخال الديمقراطية التشاركية مقاومةً من نخبة رجال الأعمال. في عام 1980، تدخل الجيش مرة أخرى، وسحق التقدميين الأتراك في انقلاب جديد وهذه المرة عنيف. ولم تتمكّن القضايا والأفكار اليسارية من التعافي بشكل كامل من قمع الجيش.

لكن القوات المسلحة ليست السبب الوحيد وراء تهميش المعتقدات التقدمية في تركيا، فالسياسة العالمية أسهمت أيضاً في تنحية اليسار جانباً. طوال فترة التسعينيات، أبدت أحزاب يسار الوسط في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الديمقراطيون الاشتراكيون الأوروبيون، ميلاً إلى اليمين، ولم يكن الديمقراطيون الاجتماعيون في تركيا استثناءً. تبنى المفكرون اليساريون البارزون في البلاد معتقدات ليبرالية تتعلق بالسوق الحرة، عاقدين الأمل على أن تؤدي أجندة ملائمة للأعمال التجارية إلى جعل مرشحيهم أكثر استساغة وقبولاً [لدى جميع الأطراف]. حتى أن بعضاً منهم بدأ في دعم المحافظين الإسلاميين، الذين، خلافاً للمحافظين العلمانيين في تركيا، كانوا يعارضون الانقلابات الدورية للجيش وسعيه للاستيلاء على السلطة. نتيجة لذلك، دعم كثير من اليساريين البارزين أردوغان عندما ترشح لمنصب رئيس الوزراء في عام 2002 معتمداً نهجاً مؤيداً للديمقراطية، معتقدين أنه يجسد الآمال الليبرالية التي جاءت لتحديد حقبة ما بعد الحرب الباردة.

وكان ذلك رهاناً كارثياً. تمكّن أردوغان من إخضاع الجيش، لكنه فعل ذلك من خلال تحويله إلى أحد أركان نظامه. والجدير بالذكر أن النظام الرئاسي الذي صممه وتم إقراره في استفتاء عام 2017 يعزله عن تطلعات المجتمع الديمقراطية. ومن اللافت أنه استخدم سلطة الدولة لإخضاع الطبقة العاملة والحفاظ على نظام الاستغلال. وبطريقة موازية، عمد المسؤولون التابعون له إلى حظر الإضرابات بانتظام خلال عقدين من حكمه، بعد أن زعمت السلطات أنها تهدد “الأمن القومي”. وأدّى تعليق الحق في الإضراب بحكم الأمر الواقع إلى الحرص على إبقاء الأجور متدنية. في غضون ذلك، رفع أردوغان الضرائب على أصحاب الدخل المنخفض بينما قدّم لمالكي رؤوس الأموال إعفاءات ضريبية وسمح لهم بخفض معاشات العمال. في المقابل، تعرّض القطاع العام، الذي قدم للعمال ظروفاً أفضل، لهجوم واسع النطاق.

تصحيح مسار

لسوء الحظ، لم يتعلم اليساريون في البلاد أنه من الخطأ اللجوء إلى اليمينيين سعياً لتحقيق الخلاص الديمقراطي. منذ أن أصبح زعيماً للحزب في عام 2010، قاد كليتشدار أوغلو حزب الشعب الجمهوري نحو نزعة محافظة، بما في ذلك من خلال بذل جهود متواصلة من أجل احتضان اليمين الديني. في الحقيقة، يشكّل اكتساب أصوات الناخبين المتدينين تحدياً رئيساً للمعارضة. ويستخدم معسكر أردوغان الاستبدادي الحروب الثقافية لتقسيم الناخبين عن طريق منع المحافظين المتدينين والناخبين العلمانيين من توحيد صفوفهم. لكن اللعب على وتر العاطفة الدينية، كما فعل كليتشدار أوغلو، غير كافٍ. لم يدرك كليتشدار أنه من أجل التوفيق بين الناخبين الذين يتمتّعون بدرجات مختلفة (وأنواع مختلفة) من الإيمان، يحتاج إلى تطوير برنامج اقتصادي تقدمي يجذب الجميع.

عوضاً عن ذلك، فعل كليتشدار أوغلو العكس تماماً. لم يذكر زعيم حزب الشعب الجمهوري شيئاً عن إعادة توزيع الدخل أو الضرائب التصاعدية أو حقوق العمل خلال حملته الانتخابية. وفي الواقع، أعلن صراحة أنه لم يعد هناك أي فرق بين التقدميين والمحافظين، لأن اليمين “يرغب أيضاً في مساعدة الفقراء”. في مناطق أخرى، حاول إثبات نواياه بتحقيق ما تُجمع عليها الأغلبية، وذلك من أجل اجتذاب الشعبويين اليمينيين. فقد تعهد، على سبيل المثال، بترحيل اللاجئين السوريين من تركيا في غضون عام وقدّر بشكل خاطئ أن عددهم يصل إلى عشرة ملايين شخص (فيما يبلغ عددهم الحقيقي ثلاثة ملايين تقريباً)، ووعد بإقالة رؤساء البلديات المنتخبين الذين يدعمون الحقوق الكردية، كما يفعل البعض اليوم.

بيد أن التحول في هذا الاتجاه لم يساعد كليتشدار أوغلو. إنه يواجه الآن مطالبات باستقالته، وهي مطالبات يجب أن يراعيها. ولكن لا أحد من خلفاء كليتشدار أوغلو المحتملين يمثّل بديلاً يسارياً. فمنافسه الرئيسي، رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، يؤيّد نفس السياسات الاقتصادية القائمة على مبدأ عدم التدخل التي يدعمها أردوغان وكليتشدار أوغلو. وكذلك يفعل رئيس المجموعة البرلمانية لحزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزيل، المعروف عنه أنه يطمع في الحصول على المنصب القيادي.

من الخطأ اللجوء إلى اليمينيين سعياً لتحقيق الخلاص الديمقراطي.

ويملك بعض السياسيين البارزين في تركيا الفطرة السليمة والحدس الصحيح. أحدهم صلاح الدين دميرتاش، الزعيم الأسبق لحزب الشعوب الديمقراطي اليساري المؤيد للأكراد. جادل دميرتاش بأن المعارضة يجب أن تعمل على الجمع بين الأشخاص المهمشين اقتصادياً وأولئك المهمشين على أساس هويتهم العرقية أو الدينية أو الجندرية. من الناحية الانتخابية، من المفترض أن يُعتبر اقتراحه منطقياً. في الواقع، يعمل ما يقرب من 70 في المئة من القوى العاملة التركية في قطاعات البناء والخدمات والتصنيع، بالتالي يمكنهم الاستفادة من حماية العمالة وإعادة توزيع الثروة. بشكل أساسي، تضم هذه الفئة من الناخبين أعداداً كبيرة من الشعبين التركي والكردي. ويمكن لمرشح يساري يركز على معالجة المخاوف الاقتصادية أن يشجع كلا المجموعتين على بناء قضية مشتركة وتجاوز الانقسامات العرقية. إنها وسيلة للخروج من طريق الديمقراطية المسدود في تركيا.

وعلى رغم ذلك، فإن مناشدات دميرتاش لم تسفر عن أي تقدم. عوضاً عن ذلك، تتعارض فكرته عن اليسار التركي الجامع والشامل مع السياسات الاقتصادية التي ينتهجها حزب الشعب الجمهوري والأهداف الإثنية المرتبطة حصرياً باليساريين الأكراد. وهكذا، يبقى دميرتاش بلا موئل سياسي.

وبصفته رجلاً سياسياً، لدى دميرتاش بعض العيوب. وللأسف، فإن حقيقة كونه من خلفية زازية [شعوب الظاظا أو الزازا في شرق الأناضول في تركيا] وكردية تجعل قدرته على كسب التأييد الجماهيري أكثر صعوبة وتعقيداً. لكن زعيم المعارضة الذي يختار لفت الانتباه إلى حالة عدم المساواة المستمرة والعميقة في البلاد سيشكل تحدياً خطيراً للحكومة.

في الواقع، تسود في تركيا درجة كبيرة من عدم المساواة. وفقاً لتقرير اللامساواة في العالم لعام 2022 الذي أعده مختبر اللامساواة العالمي ومقره باريس، فإن نسبة الخمسين في المئة الذين يكسبون الدخول الدنيا [فإن النصف الأدنى من الكاسبين للدخل] في تركيا يمتلكون 4 في المئة فحسب من ثروة البلاد، في المقابل يستأثر الـ10 في المئة الأغنى بنسبة 67 في المئة من تلك الثروة. وما من دلائل تُذكر توحي بأن هذا الرقم سوف يتغير، بخاصة أن معدلات التنظيم النقابي قد تراجعت. عندما عُيّن أردوغان رئيساً للوزراء للمرة الأولى في عام 2003، كان 58 في المئة من القوة العاملة في البلاد منتسبين إلى نقابات. أما اليوم، فيبلغ معدل النشاط النقابي حوالى 14 في المئة.

كان اليساريون الأتراك في حالة خمود عميق من قبل.

توضح المستويات المنخفضة من النشاط النقابي أنه على رغم الظروف الاقتصادية السيئة، فإن المرشح اليساري يحتاج إلى العمل بكدّ من أجل بناء قاعدة سياسية صلبة. وسيتعين على مثل هذا المرشح أيضاً، بالطبع، التغلب على النظام الاستبدادي في تركيا، الملتزم بشكل خاص بإبقاء اليسار تحت السيطرة. هناك سبب وراء اعتقال أردوغان لدميرتاش بتهم إرهابية ملفقة في عام 2016، فيما بقي كليتشدار أوغلو حراً طليقاً.

بيد أن حقيقة أن حكومة أردوغان مهتمة جداً باليسار هي شهادة على مدى تهديد التقدميين للنظام. كان اليساريون الأتراك في حالة خمود عميق من قبل. وعلى رغم أنه كان في وضع ميؤوس منه في السبعينيات، إلا أن اليسار في البلاد عمل على حشد العمال وجعل من الممكن لأجاويد أن ينهض ويخترق الحكم العسكري. وعلى رغم أن نقابات تركيا قد تكون أصغر الآن مما كانت عليه عندما تولى أردوغان السلطة للمرة الأولى، لا يزال هناك ملايين الأشخاص في المنظمات العمالية يتخطّون الانقسامات العرقية ويستطيعون الاحتشاد والتحرك لمصلحة مرشح تقدمي. تماماً كما حدث في السبعينيات، يمكن لاتحاد النقابات العمالية التقدمية، وهو عبارة عن منظمة جامعة تمثل عدداً من المجموعات العمالية المنظمة، أن يلعب دوراً حاسماً في محاولة تنظيم العمال ضد أردوغان. وقد ساعد أردوغان المنظِّمين بالتأكيد في قضيتهم تلك من خلال تنفيذ تدابير تقشف قاسية من شأنها أن تحرض على النضال العمالي.

بالتالي، فإن أكبر عقبة أمام اليسار لا تأتي من القمع الاستبدادي التركي أو من الانقسامات العرقية، على رغم أن كليهما يمثل عقبة خطيرة، ولا تنبع من كاريزما أردوغان الشخصية، لا سيما بالنظر إلى أن حزب العدالة والتنمية الحاكم فاز بأدنى نسبة تصويت له منذ 20 عاماً، بل هي نتيجة انهزامية التقدميين الأيديولوجية. وعوضاً عن التحسر، يحتاج الديمقراطيون الأتراك إلى إدراك أن التحدي الذي يشكّله اليسار يمكن أن يقلب نظام أردوغان الاستبدادي. وخلافاً لذلك، سيستمر الاستبداد اليميني في الهيمنة على البلاد طالما أن أردوغان في الرئاسة، وحتى بعد رحيله.

خليل كارافيلي هو زميل بارز في المركز المشترك لمعهد آسيا الوسطى والقوقاز وبرنامج دراسات طريق الحرير، وهو مؤلف كتاب “سبب الاستبداد في تركيا: من أتاتورك إلى أردوغان” Why Turkey Is Authoritarian: From Ataturk to Erdogan

ترجمة عن فورين أفيرز، يوليو (تموز) 2023

المقاله تعبر عن راي كاتبها

اندبندنت