تحدّيات التضخم ورفع الفائدة العالمية.. كيف تسعى السعودية لمواجهتها بسياسات نقدية متطورة وتحقيق الاستقرار الاقتصادي وهل ستنجح بهذا الاختبار؟

“رأي اليوم” ـ من إسراء عبيدات:

يمر العالم بفترة اقتصادية صعبة ومليئة بالتحديات، حيث يواجه الكثير من الدول تداعيات رفع الفائدة المستمر من قبل الفيدرالي الأمريكي والتضخم العالمي المتزايد.

وفي ظل هذا الوضع، تتخذ الدول إجراءات مختلفة لحماية اقتصاداتها وتحقيق الاستقرار المالي والنقدي، حيث تعتبر الاستجابة بسرعة ومرونة للتحديات الاقتصادية أمراً حاسماً لنجاح الدول في هذه الظروف الصعبة.

وتحديداً، تتخذ السعودية سياسات نقدية متطورة لمواجهة التضخم ورفع الفائدة، بغية الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي وتحقيق النمو المستدام.

في هذا السياق، يمكن دراسة السياسات النقدية السعودية وتحليلها لفهم كيف تعمل السعودية على مواجهة هذه التحديات الاقتصادية العالمية بطرق مبتكرة ومؤثرة.

السياسة النقدية التي تعتمدها السعودية

تشهد العديد من الدول، بما في ذلك المملكة العربية السعودية، تطورات هائلة في القطاع النقدي والمصرفي خلال الربع القرن الماضي، وذلك بفضل التطورات السريعة في مجالات مثل الاتصالات وتقنية المعلومات والحوسبة، والتنافس المتزايد في تقديم الخدمات المصرفية والمالية المتنوعة، وسرعة نقل رؤوس الأموال وفتح الأسواق المالية، وتبني المعايير الدولية للرقابة والشفافية. استجاب القطاع المصرفي السعودي بشكل إيجابي لهذه التغييرات، واستفاد من استكمال البنية التحتية للاقتصاد السعودي، وتفعيل دور القطاع الخاص في التنمية، وتطوير السوق المالية للأسهم والأوراق المالية الحكومية، وزيادة الوعي المصرفي لدى الأفراد والمؤسسات. يلعب القطاع المصرفي والنقدي دورًا مهمًا في دعم الاقتصاد المحلي من خلال تقديم الخدمات الحديثة والشاملة.

وتتبنى السعودية سياسات نقدية متطورة لمواجهة التحديات الاقتصادية العالمية الراهنة، حيث تركز على تعزيز الاستقرار الاقتصادي وتحقيق النمو المستدام من خلال اتخاذ مجموعة من الإجراءات الاقتصادية والمالية. وتشمل هذه الإجراءات زيادة التحفيز النقدي والتخفيض من معدلات التضخم، وذلك عن طريق تعزيز قدرة المصارف على منح القروض وتخفيض تكاليف الاقتراض، وتعزيز الصادرات، وتحفيز الاستثمارات الداخلية والأجنبية.

تعتمد السياسة النقدية في المملكة العربية السعودية على ربط قيمة الريال السعودي بالدولار الأمريكي بشكل ثابت، مما يسمح للبنك المركزي السعودي بالحفاظ على استقرار سعر الصرف وتفادي تدهور قيمة العملة. كما يسعى البنك المركزي إلى دعم وتعزيز النظام المصرفي من خلال اتخاذ إجراءات مثل تخفيض الفوائد التي تحصل عليها المصارف على الودائع الحكومية، وتوفير التمويل المؤقت للبنوك عن طريق عطاءات الإعادة الشرائية. ويهدف ذلك إلى دعم النمو الاقتصادي وتحقيق الاستقرار المالي في المملكة.

تتخذ السعودية إجراءات لمواجهة التضخم، مثل زيادة إنتاج النفط وتخفيض الضرائب والتعرفة الجمركية، وتشجيع الإنفاق الحكومي والاستثمارات الخاصة. كما تعمل الحكومة السعودية على تنويع الاقتصاد وتحويله إلى اقتصاد متنوع المصادر الدخل، ليس فقط على النفط. يتضمن ذلك الاستثمار في الصناعات الأخرى والتكنولوجيا والسياحة والخدمات المالية، وكذلك تطوير البنية التحتية وتعزيز التجارة الدولية. تهدف هذه الإجراءات إلى تحقيق الاستقرار المالي ودعم النمو الاقتصادي في المملكة العربية السعودية.

تأثير التضخم على الأسر السعودية وفقا لتقرير البنك الدولي

تثير الظاهرة الاقتصادية للتضخم حاليا جدلا واسعا بين الخبراء، فهناك من يرى أنها ستظل مجرد ظاهرة عابرة، في حين يعتقد آخرون أنها ستبقى جاثمة على الصدور. وتأتي توقعات الناس كأحد الأسباب التي يسوقها الخبراء لتفسير استمرار التضخم، فإذا كان الناس يتوقعون استمراره، فسيسعون بشدة لزيادة أجورهم بمعدلات تتجاوز التضخم، ما يؤدي في النهاية إلى تفاقم المشكلة. وهذا يتطلب سياسات نقدية متطورة لمواجهة تلك الظاهرة وضبط الاستقرار الاقتصادي في العالم.

ووفق تقرير المرصد الاقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الصادر عن البنك الدولي، في أبريل/نيسان 2023، بعنوان مخاطر السقوط في المعركة ضد التضخم، يرى التقرير أن مع استمرار البنوك المركزية في رفع معدلات الفائدة لمواجهة التضخم، يتزايد القلق بشأن تأثير هذه الخطوة على الاقتصاد العالمي.

فالتشديد في الشروط المالية يؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، وقد ينجم عنه تحديات اقتصادية طويلة الأمد تتطلب اتخاذ إجراءات فعالة من قبل صناع السياسات في الأمد القصير والطويل.

ينبغي أن يأخذ الفقراء في الاعتبار عند اتخاذ هذه الإجراءات، حيث إنهم هم الأكثر تضرراً من ارتفاع أسعار الغذاء وغيرها من المواد الأساسية، ويجب وضع برامج مؤقتة لحمايتهم في هذه الفترة الحرجة.

لذلك بالنسبة للسعودية ، أجرى المركز السعودي لاستطلاعات الراي  استبيان حول ما إذا كان القلق يسيطر على السعوديين أم لا ، وفقًا للاستطلاع، يشعر السعوديون بالقلق بشأن التضخم على الرغم من أن معدل التضخم لا يتجاوز 3%، ورغم أن الاقتصاد سجل نموًا بنسبة 9%. وعلى الرغم من أن نصف المشاركين في الاستطلاع لم يشعروا بأي زيادة كبيرة في أسعار الخدمات الطبية والعقاقير والتأمين وخدمات الاتصالات والإنترنت، فإن تسعة من كل عشرة أشخاص لاحظوا زيادة في أسعار الغذاء. يعزى هذا التصور الخاطئ إلى أن الناس يتسوقون لشراء الطعام بانتظام، بينما نادرًا ما يشترون خدمات أو سلعًا مثل التأمين. كما يدرك السعوديون أن بلادهم تعتمد بشكل كبير على واردات الغذاء، حيث تستورد حوالي 85% من غذائها، وأن الأسعار بدأت بالفعل في الارتفاع خلال الجائحة وازدادت فيما بعد.

وعندما تم استطلاع آراء السعوديين حول أسباب التضخم، أشاروا إلى عدة عوامل بما في ذلك الظروف الدولية والتجار والوسطاء والضريبة المضافة، وأيضًا جائحة كورونا التي يعتبرونها الأسباب الرئيسية للتضخم.

وهذا يعني ضمنيا أن السعوديين لا يعتقدون أن أي بلد وحده يمكن أن يضبط التضخم، بما في ذلك المملكة، وأنه يحتاج إلى التعاون بين أطراف المجتمع الدولي. ولم يتضح أن التجار يحصلون على أرباح كبيرة بما يكفي لتسبب التضخم، ولكن هذا الاعتقاد شائع في العديد من البلدان، وقد يعيق تنمية القطاع الخاص.

على الرغم من التضخم، إلا أن الغالبية العظمى من السعوديين لم يغيروا نمط استهلاكهم، إذ أفاد 62% من المشاركين في الاستطلاع بأنهم لم يتوقفوا عن شراء أي منتج أو الحصول على خدمة بسبب ارتفاع الأسعار.

ومع ذلك، فإن بعض السعوديين اضطروا إلى تقليص الإنفاق لتغطية نفقاتهم. وغالبا ما يتم التخلي عن الرفاهيات أولاً، حيث أشار 15% من المشاركين في الاستطلاع بأنهم قلصوا خروجهم لتناول الطعام في المطاعم والمقاهي.

 كما بدأ العديد من السعوديين في البحث عن مصادر إضافية للدخل، كما ذكر 6% منهم، و5% يفضلون شراء العلامات التجارية الأرخص والتسوق في المنافذ الرئيسية لتوفير نفقاتهم.

وفيما يتعلق بالتوقعات المستقبلية، أظهر الاستطلاع أن المجتمع السعودي لا يعتبر التضخم مشكلة دائمة أو لا يمكن حلها. يعتقد نصف المشاركين في الاستطلاع أن التضخم سيعود إلى معدلاته الطبيعية في غضون ثلاث سنوات، ويتوقع 60% منهم أن الأيام القادمة ستكون أفضل. من خلال هذه النتائج، يمكن الاستنتاج بسهولة أن التضخم هو قلق كبير للمجتمع السعودي، ولكن السعوديين لا ينفرون أو يقلقون كثيرًا بشأنه.

أثر رفع الفائدة على القطاع العقاري في السعودية

يعتقد خبراء عقاريون وماليون أن رفع سعر الفائدة في السعودية لن يؤدي إلى خفض أسعار العقار، بل قد يؤدي إلى انخفاض الطلب وتخفيض المطورين العرض، مما يؤدي إلى تراكم الطلب وزيادة الأسعار عند تراجع التضخم وخفض الفائدة في المستقبل.

وكان البنك المركزي السعودي  قد رفع سعر الفائدة على اتفاقية إعادة الشراء  المعاكس (الريبو العكسي)، مما سيؤدي إلى تجفيف التدفقات المالية في الاقتصاد وتخفيض معدلات التضخم، ولكنه سيزيد من تكلفة المعيشة والاستحواذ على الأصول الثمينة مثل العقارات. قد يؤدي هذا إلى ارتفاع أسعار العقارات بسبب الندرة في الطلب وتكلفة الاقتراض وتوفير القيمة المالية للأصول، مساهماً في ارتفاع أسعار الأصول عموماً، وخاصةً العقارات.

أثر رفع الفائدة على أسواق المال وخاصة سوق الأسهم

عند ارتفاع سعر الفائدة، يتأثر الأسواق المالية وخاصة سوق الأسهم بشكل كبير؛ حيث ينتقل المستثمرون إلى الملاذات الآمنة مثل الودائع والأصول الثمينة، ويحافظون بذلك على قيمة رأس المال السابقة. ومع ذلك، فإن تأثير رفع سعر الفائدة على الاقتصاد بشكل عام يعتمد على قوة الاقتصاد ووجود قوة إنتاجية، حيث يمكن للتوسع الإنتاجي وارتفاع مستويات التوجه للعمل أن يحمي المجتمع والاقتصاد من الآثار السلبية لارتفاع سعر الفائدة.

أثر رفع الفائدة على قروض القطاع الخاص في السعودية

رغم رفع أسعار الفائدة في السعودية، أظهرت بيانات البنك المركزي السعودي “ساما” نمو نشاط إقراض القطاع المصرفي إلى القطاع الخاص خلال مارس الماضي بنسبة 11.8% على أساس سنوي إلى 2.4 تريليون ريال.

ومع ذلك، سجل تقرير “ساما” انخفاض صافي الموجودات الأجنبية للبنك المركزي السعودي في مارس مقارنة بفبراير بنحو 31.6 مليار ريال إلى 1.67 تريليون ريال، مما يشير إلى تأثير رفع الفائدة على النقد الأجنبي.

وفي الوقت نفسه، شهدت الودائع الزمنية والادخارية في البنوك السعودية قفزة بنسبة 38% على أساس سنوي حتى نهاية مارس لتصل إلى 698 مليار ريال، في حين تراجعت الودائع تحت الطلب 1.7% إلى 1.35 تريليون ريال خلال الفترة نفسها. ويرجع ذلك جزئياً إلى زيادة الفائدة التي تجعل الودائع الزمنية والادخارية أكثر جاذبية.

ارتفاع الفائدة يرفع أرباح البنوك السعودية إلى مستويات تاريخية

شهدت البنوك السعودية أرباحًا تاريخية خلال الربع الأول من العام الحالي، تجاوزت 17 مليار ريال، بفضل ارتفاع أسعار الفائدة التي استفادت منها البنوك المنكشفة على الشركات. وعلى الرغم من أن نمو الإقراض لم يكن قويا بسبب زيادة تكلفة التمويل وتراجع بعض الشركات عن طلب القروض، إلا أن البنوك حققت نموًا سريعًا وقويًا في أرباحها. ويرجع ذلك إلى أن أسعار الفائدة لقروض الشركات في أغلب الحالات متغيرة، مما جعل البنوك تحصل على عوائد أعلى. وقد لجأت بعض الشركات إلى زيادة رأس المال عن طريق المساهمين أو رسملة الأرباح، بدلاً من طلب القروض بسبب تكاليف التمويل العالية.

معدل التضخم في السعودية خلال الأربعة الأشهر الأولى من العام الجاري

واصلت  معدلات التضخم في المملكة العربية السعودية الاستقرار النسبي خلال الأشهر الأربعة الأخيرة، حيث سجل في شهري مارس وأبريل من العام الجاري 2.7%. يرجع ذلك إلى الاقتصاد القوي للمملكة والتدابير الحكيمة التي اتخذتها الحكومة للتصدي للتضخم. تشير هذه الأرقام إلى أن معدلات التضخم في المملكة تظل في حدود مقبولة ومتوازنة مقارنةً بمعظم دول العالم. وفي شهر أبريل من هذا العام، شهدت المملكة ارتفاعًا طفيفًا في معدلات التضخم بنسبة 2.7% مقارنةً بنفس الفترة من العام السابق، مما يؤكد استقرار الاقتصاد السعودي.

المركز الوطني لإدارة الدين في السعودية يبين الفترة التي ستظهر أثار رفع الفائدة على الاقتصاد السعودي

أوضح هاني المديني، الرئيس التنفيذي للمركز الوطني لإدارة الدين في السعودية، أنه قد يستغرق ما يتراوح بين 3 إلى 5 سنوات ليظهر تأثير رفع أسعار الفائدة على محفظة الدين السعودية، نظرًا لأن 85% من التمويل في المحفظة يتم بمعدلات فائدة ثابتة، ولكن الحكومة السعودية تسعى إلى رفع هذه النسبة إلى 90% خلال العام الجاري.

وأكد المديني أيضًا على أهمية السوق المحلية في دعم التمويل الحكومي في السعودية، وأوضح أن هناك استثمارات طويلة المدى تتم حاليًا لتطوير السوق الحكومي داخل المملكة بالتعاون مع الجهات المعنية. وأضاف أن المركز يتعاون مع هيئة السوق المالية والبنك المركزي السعودي لتعزيز سوق الدين المحلي وتلبية الاحتياجات التمويلية للحكومة، وتحويل السوق إلى قناة تمويلية داعمة للمصدرين من القطاعين العام والخاص.

السعودية تنتهج سياسة مالية توسعية لموازنة أسعار الفائدة المرتفعة

تهدف المملكة العربية السعودية إلى تحقيق التوازن بين السياسة النقدية المتشددة المستوردة من البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وتخفيف القيود المالية.

وتتمتع البلاد ببيئة مالية توسعية تعوض تأثير ارتفاع أسعار الفائدة، وهي تسعى لتحقيق توقعاتها للنمو لهذا العام والحفاظ على توسع الاقتصاد غير النفطي بوتيرة مماثلة أو أسرع من العام الماضي.

وتخطط الحكومة السعودية لتنفيذ خطط بعدة تريليونات من الدولارات لتنويع الاقتصاد وتحويل المملكة إلى مركز رئيسي للاستثمار والسياحة، مما يدعم تحول المملكة إلى اقتصاد قائم على مصادر متعددة.

في النهاية، يظل السؤال حول مدى قدرة السعودية على مواجهة التحديات المالية التي تواجهها، ومن بينها مواجهة التضخم ورفع الفائدة. فمن جهة، تبدو السعودية قادرة على تنفيذ خططها الطموحة لتنويع الاقتصاد وتعزيز النمو غير النفطي، وهو ما قد يعزز مكانتها كمركز للاستثمار والسياحة.

ومع ذلك، فإن اضطرابات سوق النفط والتحديات الاقتصادية العالمية المستمرة تجعل الأمر صعباً على السعودية، وربما تتطلب تحركات أكثر جرأة وتدابير استثنائية لتفادي التضخم ومواجهة التحديات المالية.

بالتالي، يبدو أن الأمر ليس واضحاً تماماً، وقد يثير المزيد من التساؤلات والجدل في المستقبل حول ماهية استمرار السعودية في مواجهة هذه التحديات المالية كالتضخم ورفع الفائدة  فهل ستستمر السعودية في الطريق نحو تحقيق أهدافها الاقتصادية الطموحة، أم ستضطر إلى تغيير استراتيجيتها في ظل التحديات الاقتصادية الدولية المتزايدة؟ هذه التساؤلات والجدل لن ينتهي قريباً، وسنتابع باهتمام تطورات الأحداث في المستقبل.