نهاية الشرق الأوسط


 لا تزال السياسة الخارجية الأميركية مقيدة بخريطة شرق أوسطية أضيق من الخريطة السياسية الفعلية. وهي خريطة صارت متقادمة. فالخريطة القديمة لا تلم بالواقع الجديد

منال نحاس صحافية @manalnahas

الشرق الأوسط يتغير، ولكن مقاربة شؤونه السياسية لا تزال تحتكم إلى أوضاعه السالفة. وتناولت فورين أفيرز في نيسان (أبريل) 2022 هذه التغيرات مسلطة الضوء على دور أربع دول شرق أوسطية في نزاع أهلي أفريقي، بين طرفين إثيوبيين هما أديس أبابا وتيغراي، في ديسمبر (كانون الأول) 2021. ومن علامات انقلاب أحوال هذه المنطقة افتتاح تركيا في الأعوام الأخيرة 40 قنصلية في بلدان أفريقية متفرقة، وتشييدها قاعدة عسكرية كبيرة في الصومال، وإعلان إسرائيل عن “عودة إلى أفريقيا”، وإنشاء أحلاف جديدة توازن الضغوط المتعاظمة عليها والناجمة عن احتلالها الضفة الغربية. وتشتري دول عربية أراضي واسعة في بعض بلدان القارة السوداء حماية لأمنها الغذائي.

وذهب مارك لينش كاتب المقالة إلى أن هذا التشابك لا يقتصر على أفريقيا. فعمان ترى نفسها بلداً من بلدان المحيط الهندي. وبلدان الخليج تربطها علاقات قوية بأفغانستان وباكستان. وتركيا منخرطة على نحو عميق في شؤون آسيا الوسطى، وشنت عملية عسكرية في أذربيجان. وكل دول الخليج قوت روابطها، أخيراً، بالصين وبدول آسيوية أخرى.

وفي الأثناء، لا تزال السياسة الخارجية الأميركية مقيدة بخريطة شرق أوسطية أضيق من الخريطة السياسية الفعلية. فمنذ أعوام الحرب الباردة الأولى، حملت الإدارة في واشنطن الشرق الأوسط على العالم العربي- أي دول الجامعة العربية (ما عدا استثناءات جغرافية مثل جزر القمر وموريتانيا والصومال)-، وإليها إيران وإسرائيل وتركيا. وهو شرق أوسط الأقسام الجامعية، ويتسم بالاتصال الجغرافي، والقرابة التاريخية، وبداهة النظر.

والحق أن معظم الدول الإقليمية اليوم فاعلة وضالعة في دوائر تقع خارج الخريطة التقليدية. وتدور خصومات كثيرة وراء الحدود التقليدية. والبنتاغون على دراية بالأمر منذ زمن بعيد. فالمنطقة التي تراقبها القيادة الوسطى الأميركية كانت تتضمن إلى مصر، إيران والعراق ودول الخليج، وأفغانستان وجيبوتي وإريتريا وإثيوبيا وكينيا وباكستان والصومال والسودان. ومجموعة الدول هذه تخالف شرق أوسط وزارة الخارجية وتتجاوزه.

وسلط لينش الضوء على هذا التباين قائلاً، “الخريطة السابقة تعرقل محاولات مواجهة التحديات الحالية الكبيرة، ومعالجة أزمات اللاجئين، والتصدي للانتفاخات الإسلاموية، إلى مشكلة تجذر النظام التسلطي. والتقيد بالخريطة الضيقة يعمي الاستراتيجية الأميركية ويحرفها عن فهم الدينامية الفعلية التي ترسم ملامح المنطقة”.

خرائط الحرب الباردة

ويفتقر الفهم الأميركي للشرق الأوسط إلى أساس تاريخي. وطوال قرون كانت الولايات العربية في شمال أفريقيا والمشرق جزءاً من السلطنة العثمانية وشعوبها الكثيرة. وكانت لجماعات السكان الخليجية الساحلية روابط عضوية مع القرن الأفريقي على ضفة البحر الأحمر الأخرى. ووصلت الشبكات الإسلامية بين مصر وشمال أفريقيا بأعماق أفريقيا جنوب الصحراء. وبديلاً عن النظر البعيد هذا، تبنت الولايات المتحدة صيغة للشرق الأوسط اشتقتها من مصدر حديث هو الاستعمار وسياسة دول أوروبا الكبرى في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. فالإرث الاستعماري الفرنسي، والترتيب العرقي، هما العاملان اللذان فصلا أفريقيا الفرنسية السوداء عن مغرب العرب والبربر الفرنسي. وهذه العرقية هي التي رفعت حاجزاً صلباً بين سكان متشابهين ثقافياً، ويقيمون في حوض المتوسط وجنوب أوروبا البيضاء، وبين شعوب الشرق الأدنى التي تقيم وراء البحر في شمال أفريقيا وفي شبه جزيرة العرب.

وفي أثناء القرن التاسع عشر، بلورت المشروعات الإمبراطورية، الفرنسية والبريطانية، فكرة منطلقة متميزة تجمع شمال أفريقيا والمشرق، وسمى البريطانيون المنطقة “الشرق الأدنى”، للدلالة على توسطها الطريق إلى مصالحهم الاستعمارية في الهند و”الشرق الأقصى” أو آسيا. وغداة افتتاح قناة السويس، تعاظمت أهمية المنطقة، وجمعت المصالح الإمبراطورية البريطانية شبه جزيرة العرب إلى مصر والمشرق، وميزت شمالها وشرقها وجنوبها. وثبتت السيطرة البريطانية، ودوامها إلى 1971، الحدود الاستعمارية القديمة وقتاً طويلاً بعد بروز قوى جديدة، ومباشرتها رسم ملامح الشرق الأوسط.

معظم الدول الإقليمية اليوم صارت فاعلة وضالعة في دوائر تقع خارج الخريطة التقليدية

وغداة الحرب العالمية الثانية، في خضم الحرب الباردة، تبنت وزارة الخارجية الأميركية المفهوم البريطاني- الفرنسي عن المنطقة، وكيفته مع غاياتها: المحافظة على الوصول إلى النفط، وحماية إسرائيل، والإبقاء على الممتلكات البريطانية والفرنسية في شمال أفريقيا خارج دائرة النفوذ السوفياتي.

وفي الأعوام 1950 و1960، أسهمت الأولويات الاقتصادية والسياسية الأميركية في تكريس هذه الخريطة في الدوائر الجامعية والسياسية. ووجه قانون 1958، وهو يتناول التربية على الدفاع الوطني، الموارد الاتحادية نحو دراسات إقليمية تخدم أولويات الحرب الباردة. وقسمت النظرة الجديدة العالم إلى مناطق أو أقاليم على حدة، والشرق الأوسط أحد هذه الأقاليم. ولم يتوقع التقسيم هذا أن يلم الاختصاصيون بأحوال جنوب الصحراء الأفريقية، أو أفغانستان وباكستان، بالغاً ما بلغت أهمية هذه البلدان في ميزان الموضوعات التي يعالجونها.       

الشرق الأوسط الأميركي رسمته طرق النفط والتاريخ الاستعماري

أسهم الرئيس المصري جمال عبدالناصر، في تقديم الشرق الأوسط في صورة وحدة ثقافية وسياسية غير مصطنعة. وأدت القضية الفلسطينية ومعارك التحرر من الاستعمار إلى توحيد العالم العربي وتحريكه. وفصلت المواقف العرقية، في مصر وفي بلدان شمال أفريقيا، الشرق الأوسط عن سكان جنوب الصحراء، إثنياً وثقافياً. وسوغ دمج شطر كبير من آسيا الوسطى في الاتحاد السوفياتي استبعاد بلدان مثل أذربيجان وكازاخستان وتركمانستان من منطقة كانت مسرحاً للحرب الباردة وتنافسها.

وأغفل هذا المفهوم قوى اجتماعية وسياسية كثيرة تخطت الحدود الجغرافية الوطنية والإقليمية وتجاوزتها. فأجمع سياسيون ومراقبون من مشارب متفرقة على أن عمليات 11 سبتمبر (أيلول) هي ثمرة أمراض الشرق الأوسط العربي. وتجاهلت التحليلات التي لا تحصى، وفسرت التيار “الجهادي” بالثقافة العربية، صعود التطرف الإسلاموي، وأشكال أخرى من التطرف الديني في أفريقيا وجنوب آسيا وفي بلدان ومناطق أخرى من العالم. وافتراض أن المسلمين يميلون، على الدوام، إلى أنظمة إسلاموية راديكالية يغفل من إخفاق السياسة الأميركية في مساندة إصلاح سياسي حقيقي.

وبررت السياسة الأميركية اجتياح العراق بعزمها على تجديد صياغة الشرق الأوسط، و”تطهيره” من التسلط والعنف الطائفي. وحملتها أفكار من هذا الصنف إلى الغفلة عن استباق موجة الانتفاضات الشعبية التي اجتاحت العالم العربي في 2010- 2011. وبدا في وقت أول، أن انتشار حركات الاحتجاج من تونس ومصر إلى أرجاء أخرى، دليل على وحدة المسرح الجيوسياسي الشرق أوسطي. ولم ينتبه إلى أن الدول التي تعاظم تأثيرها، في مطاف هذا الفصل، هي إيران وإسرائيل وتركيا، والدول الثلاث غير عربية. ورأت الجماعات الحاكمة المحلية في تضامن سكان دولها خطراً يتهددها.

والأرجح أن الحدود التقليدية بين دول المنطقة وبلدانها افتقرت تدريجاً إلى المعنى والدور. وتدل الثورة السودانية في 2018، والانقلاب العسكري القريب (2021)، وتشابك الدور المصري ودور الاتحاد الأفريقي، على أن البلد يقع بين دائرتين تتقاسمانه. وانتقل مركز الثقل السياسي في الأعوام الأخيرة، من شمال أفريقيا إلى بلدان الساحل، وتغذي الحرب الأهلية الليبية أمواج الهجرة، وتهريب السلاح والمخدرات، عبر أفريقيا الوسطى. فاضطر المغرب إلى رعاية نفوذه الديني وتوسيعه في غرب أفريقيا، وانخرطت الجزائر في عمليات أمنية بمالي. وهذا قرينة على خروج الشرق الأوسط الفعلي من نطاق تعريفه التقليدي. ونفوذ تنظيم داعش عالمي فوق ما هو إقليمي. ولم يقتصر دعم اليمن ضد الحوثيين على دول الجوار، بل تعداها إلى إريتريا وباكستان والسودان.

وخلطت موجات الهجرة الواسعة السكان. وربطت بين مناطق كانت متباعدة، مثل المحيط الهندي والخليج. واضطلع الإعلام بدور راجح في بناء الجسور. وكذلك وسائط الاتصال الاجتماعية والإلكترونية. واستثمرت بلدان ثرية في أسواق المال العالمية، وتحولت بعض هذه البلدان إلى مراكز رأسمالية دولية، ولم تبق مراكز إقليمية. وضعفت أهمية قضايا سياسية كانت تتولى توحيد القوى المحلية، شأن القضية الفلسطينية. وكان الشرق الأوسط، طوال 75 عاماً، ثمرة أولويات أميركية غلبت على سياسات المنطقة. وأصاب الضعف، في الأثناء، مكانة الولايات المتحدة، وخسرت المنطقة تماسكها الجيوسياسي. وسعت واشنطن في الانسحاب منها، بينما بادرت دولها إلى إثبات تصوراتها وخططها: فمالت دول الخليج إلى خريطة مركزها المحيط الهندي، وأعطت الصدارة دول شمال أفريقيا خريطة على جهتي الساحل [جنوبه وشماله]، ومدت إيران شبكاتها إلى دول لبنان وسوريا واليمن المتصدعة. فبرزت الدول الإقليمية، واختلفت أدوارها، في علاقاتها بالصين مثلاً، عن الدور الأميركي أو الأدوار الأوروبية. وأدخلت الصين بدورها، عوامل جديدة على السياسات الإقليمية. فتوسطت، من باب الاقتصاد والبنى التحتية والتجارة والنفط، بين إيران والدول العربية.