عوامل التغيير في العالم المعاصر


جاء الوقت لكي ندرك أن الحرب مأساة والذين يتشدقون بأنها مرحلة من تطور حياة الإنسان واهمون

مصطفى الفقي كاتب وباحث 

يلعب عنصر الزمن دوراً فعالاً في تحديد قيمة كل حدث وارتباطه بفترة زمنية معينة، فالتغيير ليس قضية مطلقة، ولكنه مسألة نسبية تربط بالمقارنة بين ما كان قائماً من قبل وما طرأ على الحياة من بعد، ويتحكم في هذا الأمر عدد من العوامل التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، لذلك فإن معدل التطور الإنساني لا يمضي على وتيرة واحدة، بل وفقاً لعهود معينة وعصور بذاتها تركت بصمات أكثر من غيرها على وجه الإنسانية، وبدت لكل من يتابعها كأنها حفريات غائرة في وجه الزمن.

فاختراع العجلة والطباعة كانتا مرحلتين جديدتين في حياة البشر، كما أن اختراع الكهرباء نقل البشرية من مرحلة إلى أخرى، وقس على ذلك عشرات الاكتشافات والاختراعات التي غيرت معالم البشرية وأحدثت تحولاً جذرياً للحياة على كوكب الأرض، ولو تأملنا القرون العشرين الماضية لوجدنا أن لكل عصر سماته ولكل أوان آثاره، وأنا مقتنع بالمقولة التي ترى أن “معدل التطور على الكوكب خلال الخمسين عاماً الماضية يكاد يعادل ما تم في 500 عام سابقة عليها، وأن ما تم في تلك الـ500 عام يعادل ما تم في الخمسة آلاف التي سبقتها أو يزيد”.

وهكذا فالحياة في تطور دائم يكاد يمضي بمتوالية هندسية لا عددية، ذلك لأن زيادة مساحة المعلوم تعني تلقائياً زيادة مساحة المجهول أيضاً، وكلما تحقق للبشرية كشف علمي أو اختراع تقني فإن ذلك يحمل في طياته تلقائياً مساحة جديدة من الغموض الذي يحرض على التفكير ويدعو إلى مزيد من البحث في المستقبل، وليس صحيحاً على الإطلاق أن البشرية كلما قطعت أشواطاً إلى الأمام فإنها تزيد مساحة المعرفة وتؤدي إلى توسيع دائرة الضوء على طريق المستقبل، لكن الأصوب هو أن الاكتشافات والاختراعات تمثل مبرراً للتساؤل ودافعاً للتحريض على أفكار جديدة، فقد كان الجهل بمثابة وهم يعيش فيه البشر متصورين في كل مناسبة أنهم حققوا ما حلموا به، وإذا أردنا اليوم التصدي لعوامل التغيير في التجمع البشري المعاصر فإننا نرصدها في عدد من المحاور على النحو التالي:

أولاً: محور التكنولوجيا والتقدم العلمي والأبحاث الطبية، وهي أمور أحدثت انقلاباً كبيراً في حياة البشر ونقلتنا إلى الذكاء الاصطناعي وعصر الروبوت الذي ينافس الإنسان في ما يفعل، ويجعله مقبلاً على عصر جديد وفتوحات حقيقية لتصبح الحياة أكثر يسراً، ولكنها أيضاً أكثر تعقيداً، كما تؤدي إلى شعور بأن البشرية تقفز خطوات واسعة لم تكن في الحسبان، بل إن بعض الاختراعات العلمية الحديثة لا تأخذ نصيبها في التطبيق التجاري لأن تطوراً آخر يلاحقها وقد يسبقها على نحو يجعل السباق الحقيقي بين الإنسان والزمن، وليس بين الإنسان والإنسان فقط، فالمنافسة محكومة بعامل الزمن على نحو غير مسبوق.

ثانياً: محور الحروب والنزاعات المسلحة، وهو يترك آثاراً غائرة على وجه الزمن وبصمات عميقة في حياة الشعوب، وليس صحيحاً على الإطلاق أن الحرب شر لابد منه، فلقد عرفت البشرية قروناً من الهدوء والسكينة وفي ظل تنافس متوقع يأتي في إطار الصراع البشري المعتاد، وإذا كان العالم قد عرف في القرن الماضي حربين عالميتين، فإن ذلك لا يبرر استمرار المعاناة التي تلحق بالأبرياء وقطاعات معينة من البشر يكون وقودها الحقيقي ملايين المدنيين ومنهم نساء وأطفال وكبار العمر، ولقد جاء الوقت لكي ندرك أن الحرب مأساة، والذين يتشدقون قائلين بأن الحروب تمثل مراحل من التطور في حياة الإنسان هم واهمون، فقد تكون الأفكار الكبرى والأطروحات الجديدة أكثر تأثيراً من حرب كبرى أو نزاع مسلح مهما كانت مبرراته والدوافع إليه.

ثالثاً: محور اجتياح الأوبئة، ونعني به تلك الفيروسات المنتشرة التي صنعت قدراً كبيراً من الشكوك في التفسير التآمري، بأن هناك قوى معينة تسعى لتقليل عدد سكان البشرية بعد صدمة الوصول إلى المليارات الثمانية في عدد سكان الكوكب أخيراً، وعلى رغم أنني لا أتحمس للتفسير التآمري للتاريخ، فإنني أعترف بوجود المؤامرة في التاريخ البشري في كل الأحوال، ويشفع لي في ذلك المصرع الغامض للرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي عام 1963، والنهاية المأسوية لأميرة القلوب ديانا أم ملك بريطانيا المقبل، عام 1997، وغيرها من الأمور الغامضة والأحداث مجهولة التفسير التي لا نستطيع إلا أن نقرر أنها جاءت بترتيب بشري مسبق، ويفسر ذلك إلى حد كبير الملابسات التي أحاطت بوباء كورونا مثلاً، والتي امتد تأثيرها حتى الآن.

رابعاً: محور تغيير المناخ، وذلك يهدد البشرية في صميم وجودها، ويعطي إحساساً بأن المقبل قد لا يكون هو الأفضل، وأن ما مضى قد لا يعود، إذ إن تآكل اليابسة وانهيار شواطئ البحار والمحيطات وارتفاع درجة حرارة الكون وغير ذلك من الظواهر الوافدة إلى حياتنا تعطي في مجملها إشارات تنذر بالمشكلات المحتملة والأزمات المقبلة، إن العالم لن يكون في أعوامه المقبلة مثلما كان في أعوامه الماضية فضلاً عن مشكلات أخرى تتعلق بندرة الموارد في مواجهة التزايد الضخم للاحتياجات، إضافة إلى تطور أسباب الرفاهية وظهور اكتشافات واختراعات تدفع إلى مزيد من التطلعات الاستهلاكية ولا تؤدي بالضرورة إلى تزايد في الإنتاج، والكل يلاحظ أن مظاهر الحياة الحديثة جاءت معها بإجراءات واسعة في المأكل والملبس والمسكن بصورة لم تعرفها البشرية من قبل، وهو ما يفسر ظهور الاختناقات في أنواع الوقود المختلفة والاندفاع المحموم نحو مظاهر الاستهلاك العصرية.

خامساً: محور الندرة في الطاقة والمياه، وهنا تقف البشرية أمام أكبر التحديات التي تواجهها في المستقبل القريب عندما تشرع المجتمعات في تنظيم موارد المستقبل، فنجد أن أزمة الطاقة تسيطر على المناخ البشري العام، خصوصاً إذا اقترن الأمر بصراعات مسلحة أو حروب موضعية مثلما هو الأمر في أوروبا حالياً بين روسيا وأوكرانيا، وخطورة هذه الحال أن الصدام يجري في قلب المعمورة وليس على أطرافها مما ينذر بخطر داهم، ويكفي أننا نذكر هنا أنه ولأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يجري التلويح باستخدام السلاح النووي، وهو أمر لم يكن وارداً في أجندة مستقبل العلاقات الدولية المعاصرة، أما موضوع المياه فحدث ولا حرج، فالشرق الأوسط على سبيل المثال يتعرض لأزمة قاسية بسبب محاولات التحكم في منابع الأنهار سواء في تركيا الفرات أو إثيوبيا النيل وغيرها من التهديدات التي تضرب السلم والأمن الدوليين وتؤدي إلى تفاقم الصراعات واشتعال النزاعات بين دول مجرى النهر الواحد.

هذه قراءة لكف المستقبل لا أدعي أنها تقدم جديداً، لكنني أدعي أنها تجمع شتاتاً متناثراً من شظايا الأحداث الجسام والمخاطر الناجمة من التطورات التي حملها القرن الحادي والعشرون منذ بداياته بواقعة 11 سبتمبر (أيلول) 2001 في الولايات المتحدة الأميركية عندما اقتحمت طائرات معادية مبنى برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك، وما نجم من ذلك من تأويلات وصراعات أدت إلى توحش ظاهرة الإرهاب وما يلحق بها على نحو نعانيه نحن العرب أكثر من غيرنا، فنحن الضحية الأولى وفي الوقت ذاته نحن المتهم الأول أيضاً، وتلك كلها أمور تلوح في الأفق وتعطي إحساساً بأن ما هو مقبل قد لا يكون متوقعاً حتى لدى غلاة المتشائمين، هذه جولة موجزة حول تغيير العصر وأحزانه القائمة وأوجاعه المقبلة.