الطائفية عائق أم مسهل في النظام الانتخابي اللبناني؟


سيطرة إيران على فئة رئيسة تجعل التصويت شكلياً والديمقراطية ستاراً

طوني فرنسيس إعلامي وكاتب ومحلل سياسي لبناني

منذ استقلاله عن الانتداب الفرنسي في منتصف الحرب العالمية الثانية، تمتع لبنان بنظام برلماني ديمقراطي سمح له، على رغم توترات المنطقة وانعكاساتها المباشرة، بالاستمرار في عملية تداول للسلطة على مستوى رئاسة الجمهورية والمؤسسات الدستورية الأخرى في مجلس النواب والحكومة.

وطوال 79 عاماً هي عمر البلد المستقل، تكرست تقاليد انتخابية سمحت بتقديم لبنان بلداً متميزاً في محيطه، حيث وقعت الأنظمة السياسية ضحية للانقلابات العسكرية ما قضى على احتمالات التطور الطبيعي لعدد من البلدان العربية الأساسية ودفعها إلى مسالك القمع والديكتاتورية.

أدى هذا المسار الانقلابي إلى خراب عميم في العراق وسوريا، ونسف تجربة حرية واعدة في مصر، ولم يسفر ما سمي “الربيع العربي” في زمن لاحق سوى عن تشدد إضافي وبلدان ممزقة استحالت عليها تلبية حاجات شعوبها إلى مزيد من الحرية والازدهار والكرامة.

وعلى رغم الحروب الداخلية والاجتياحات الخارجية، صمد النظام السياسي اللبناني وكان إنجاز اتفاق الطائف (1989) على يد مجلس نواب ممدد له بسبب الاقتتال لمدة 17 عاماً، إشارة إلى مرجعية هذا المجلس كسلطة شرعية وحيدة، استمرت على رغم سطوة ميليشيات الحرب وتعدد انتماءاتها وإعلاناً صريحاً أن هذه الميليشيات عاجزة عن الاتفاق وإنهاء الحرب.

يقوم المجلس النيابي المنتخب وطنياً والموزع مناصفة على الطوائف المسيحية والإسلامية بانتخاب رئيس للجمهورية مرة كل ست سنوات. وعلى رغم الصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية، التزم المجلس بواجبه هذا منذ الاستقلال وحتى عام 2007 على رغم الوجود الفلسطيني المؤثر ثم الاحتلالين السوري والإسرائيلي. فخلال حرب العامين 1975 – 1976، انتخب المجلس الياس سركيس رئيساً قبل ستة أشهر من نهاية ولاية سليمان فرنجية، وفي نهاية عهد سركيس انتخب المجلس وضمن المهلة الدستورية بشير الجميل رئيساً وعندما اغتيل هذا الأخير سارع إلى انتخاب شقيقه أمين رئيساً، وحصل الفراغ الأول عندما منع “قادة المسيحيين”، نتيجة طموحاتهم وعداواتهم، انتخاب رئيس جديد وسلموا الحكم إلى ميشال عون قائد الجيش في حينه. إلا أنه بعد اتفاق الطائف، عادت الأمور وانتظمت بإشراف سوريا وبتوجيهاتها، فانتخب رينيه معوض، وعندما اغتيل بعد أسابيع التأم مجلس النواب على الفور واختار الياس الهراوي للرئاسة الذي تم التمديد له ثلاث سنوات قبل أن يؤتى بإميل لحود رئيساً لست سنوات، أضيفت إليها سنوات ثلاث أخرى.

كان التمديد بداية مقصودة للتلاعب بالدستور الذي سيصبح بعد الخروج السوري في أبريل (نيسان) 2005 ألعوبة في أيدي فرقاء محليين، يقودهم “حزب الله” ومن ورائه إيران. لكن ذلك ليس الصورة كاملة.

وضعت الدول الأوروبية الكبرى بالاتفاق مع السلطنة العثمانية، النظام الأساسي لمتصرفية جبل لبنان إثر المجازر الطائفية في الجبل عام 1860. وتضمن ذلك النظام انتخاب مجلس إدارة من 12 عضواً يمثلون مختلف الطوائف، يترأسه متصرف عثماني مسيحي تتفق عليه الدول الضامنة. كان على عضو مجلس الإدارة أن يترشح كممثل لطائفته لينال أكثرية مندوبي دائرته وهم من طوائف مختلفة. ومنذ تلك اللحظة اكتشف ممثلو الطوائف قدرتهم على التأثير في اختيار ممثلي طوائف أخرى. فعندما يتنافس مرشحان من طائفة واحدة على مقعد واحد، ينقسم ممثلو هذه الطائفة، فيرجح ممثلو الطائفة الأخرى الكفة لمصلحة مرشح محدد على حساب آخر، قد يكون نال أكثرية أصوات ممثلي بيئته ومذهبه.

تعود جذور النظام الانتخابي اللبناني الراهن، في مستوياته كافة، إلى ذلك التدبير الأوروبي العثماني الذي وضع لوقف الصراع الطائفي في جبل لبنان. وقد كرسه الفرنسيون خلال انتدابهم ووسعوا نطاقه ليشمل لبنان الكبير بحدوده الراهنة.

احتاج ممثلو الطوائف في ترشحهم لتمثيل دوائرهم إلى أصوات أبناء الطوائف الأخرى. وفي ظل تراجع الحياة السياسية الديمقراطية خلال الحروب، ازداد الانقسام الطائفي حدة وتراجعت ثقافة المواطنية لمصلحة تقدم الفئوية المذهبية وتحولت طوائف بأكملها إلى كتل ناخبة أو مقاتلة من أجل مصلحة قادتها، وإذا قيض لها راعٍ خارجي تحولت إلى رقم صعب يعوق أسس ومعاني الديمقراطية من أساسها، ويحول العملية الانتخابية إلى مدخل للتسلط والهيمنة وفرض التوجهات الخاصة وانتزاع مكاسب فئوية.

لبنان في المبدأ دولة مدنية، لكن نظام المحاصصة الطائفية زاد في الانقسام بين الطوائف خلال الأزمات، مما سهل التدخلات الأجنبية تارة باسم الحرص القومي (كما في حالة التدخل السوري)، وتارة باسم المذهب (كما في حالة إيران)، وطوراً باسم حماية الأقليات وتأمين مكاسب استراتيجية (كما في حالة إسرائيل). كل تلك الجهات أرسلت جيوشها إلى لبنان وتلاعبت بنسيجه الاجتماعي عبر الإمساك بخاصرته الطائفية الضعيفة. وفي الوضع الراهن، تبدو إيران الأقوى عبر إمساكها بشطر كبير من الطائفة الشيعية، فيما تراجع نفوذ الدول الأخرى إلى حدود كبيرة لجهة تأثيرها في خيارات الطوائف الأخرى.

في الانتخابات الرئاسية اللبنانية الراهنة، تكرر القوى المرتبطة بإيران سيناريو 2008 و2016 عشية وصول الرئيسين ميشال سليمان وميشال عون على التوالي إلى الرئاسة.

تلجأ تلك القوى التي تلتف حول “حزب الله” إلى تعطيل جلسات الانتخاب المتتالية بهدف الوصول إلى أمر واقع كما في المرتين السابقتين، وفرض رئيس تابع كلياً تكون أولويته حماية النفوذ الإيراني في لبنان تحت عنوان “حماية المقاومة”، وليس الإصلاح العام وإعادة بناء الدولة. هكذا تتكرر حالات تحكم فئة طائفية بالنظام العام، ويستعمل الانقسام المذهبي إلى الحد الأقصى في ضرب البنيان الوطني، لكن في الظروف الصعبة الراهنة، لا تقيم هذه الفئة حساباً حتى لمصلحة الطائفة في محيطها الوطني، وإنما تفعل ذلك خدمة غير مشروطة لمشروع إقليمي ينخر في الجسم العربي ويمعن فيه تمزيقاً وتخريباً بعد أن وضع بلاده نفسها على شفا حرب أهلية.