الشرق الأوسط في 2022… الاتكال على الذات


يعي فريق عمل بايدن أن عودةً سريعة لسياسات أوباما لن تكون سهلة لأسباب عدة

وليد فارس الأمين العام للمجموعة الأطلسية النيابية @WalidPhares

وإذ انطلق العام 2022 من غبار وشظايا 2021، يتساءل المهتمون بالسياسة الخارجية الأميركية، سواء كانوا في المنطقة أم في واشنطن والعواصم الغربية، عن عناوين المرحلة التي بدأت هذا الشتاء بالنسبة إلى الاتجاهات التي ستتخذها الأطراف الإقليمية، وبنوع خاص حلفاء وشركاء الولايات المتحدة تجاه أمن واستقرار الشرق الأوسط، إثر اتخاذ إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن قرارين أساسيين في العام المنصرم، غيرا الخريطة الجيوسياسية للمنطقة، وهما الانسحاب من أفغانستان وتسليمها لحركة طالبان والعودة إلى الاتفاق النووي مع نتائجه الميدانية في عدد من الدول بما فيها العراق واليمن وسوريا ولبنان.

هذه التطورات في 2021 قلبت السياسة الأميركية التي كانت قائمة في 2020 تحت إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، وغيرت مسارها لتعود إلى سياسة الرئيس الأسبق باراك أوباما ولكن إدارة بايدن تخطتها، وأدى ذلك إلى وضع ضغط كبير على شركاء واشنطن الشرق أوسطيين، بخاصة التحالف العربي وإسرائيل والمعارضات للمحور الايراني.

وكما كتبنا في نهاية العام المنصرم فإن التغيير في سياسة واشنطن تجاه المنطقة خلال العام الأول من فترة بايدن الرئاسية أدى إلى بروز تحديات عند حلفاء أميركا العرب والإسرائيليين معاً، أهمها كيف يمكن التوفيق بين موجبات التحالف مع الولايات المتحدة وواجب الالتزام بالأمن القومي لهذه الدول؟ فالتحالفات التاريخية بين هذه الدول وواشنطن قديمة وثابتة وقائمة على تبادل متين في مجالات التسليح والتدريب وتبادل المعلومات الاستخبارية والتجارة ومكافحة الإرهاب وغيرها من ساحات عمل مشترك، فمرت الأشهر خلال السنة الأولى من رئاسة بايدن ودول المنطقة توازن بين تنسيقها التقليدي مع أميركا والأخطار المتزايدة الزاحفة باتجاهها من طهران وحلفائها ومن القوى “الإسلاموية” المقاتلة.

واجب “المصلحة المشتركة”

سواء كانت إسرائيل أو التحالف العربي أو المعارضات الوطنية ضد إيران والتكفيريين، فكل هذه الأطراف سعت ولا تزال إلى التنسيق والتشاور والتفاهم مع إدارة بايدن ومع أكبر عدد ممكن من أعضاء الكونغرس للوصول إلى موقف واحد، أو إلى تفاهم بحد أدنى في ما يتعلق بالأزمة مع إيران، وفي الملفات المتعلقة بمواجهة التكفيريين و”الإسلامويين الراديكاليين” في دول عدة في المنطقة، وواجهت الدول ذاتها تقريباً تحديات شبيهة خلال عهد أوباما بين عامي 2009 و2016، فقد شكلت سياسة دعم الإسلامويين، بخاصة “الإخوان” عبر “الربيع العربي”، مادة تباعدية بين قوى الاعتدال في المنطقة العربية وإدارة أوباما – بايدن، وكان ذلك واضحاً في مصر وليبيا وتونس.

كذلك لم يكن هناك توافق بين الكتلة العربية وواشنطن وقتها حيال التقارب بين الإدارة الأميركية والنظام الإيراني الذي أدى إلى التوقيع على “خطة العمل الشاملة المشتركة” (JCPOA) في عام 2015. أما الاختلاف الأكبر فكان بين حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو والبيت الأبيض خلال عهد أوباما في ما يخص الملف الإيراني، إلا أن الاختلاف العربي مع أوباما حول “الإخوان” وإيران والخلاف الإسرائيلي مع إدارته حول إيران، لم يمنع العلاقات المميزة العربية – الأميركية والسعودية – الأميركية بخاصة من النمو والتطور في كل المجالات الأخرى، وكذلك الأزمة بين إسرائيل وفريق أوباما – بايدن لم تهز العلاقات العميقة بين البلدين، فالعلاقات التاريخية بين حلفاء استراتيجيين متجذرة في الشعوب ويصعب كسرها بسهولة، فهي تمر في مراحل أعلى وأقل علواً لكنها تتطور، وهذا صحيح أيضاً بين الحلفاء الأطلسيين، مثل الحرب السياسية بين فرنسا وألمانيا من جهة وإدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش من جهة أخرى حول العراق في عام 2003، وقد تلاقى الجانبان حول ضرورة سحب قوات الرئيس السوري بشار الأسد من لبنان في عام 2005، فحتى للحلفاء أجندات مختلفة تصر عليها وتمليها غالباً المصالح الاقتصادية، إلا أنه في حال محور الاعتدال العربي وإسرائيل والمعارضات الوطنية في المنطقة، هناك مصلحة استثنائية في الحفاظ على متانة العلاقات مع أميركا، بخاصة في خضم المواجهة مع الإرهاب الإقليمي. ولواشنطن أيضاً مصلحة كبيرة في الحفاظ على حلفائها الإقليميين كي لا تخسر مواقعها أمام منافسيها العالميين، لذا تملي “الواجبات المتبادلة” بين الطرفين التواصل الدائم والتطمين المستمر بينهم.

“الاتكال على الذات” إبان فترة أوباما

إلا أنه في طبيعة العلاقات الدولية تأتي مصلحة الأمن القومي أولاً والمصالح الحيوية الاقتصادية ثانياً والصداقات الديبلوماسية ثالثاً. إدارة أوباما اختارت الشراكة مع أخصام دول الاعتدال، أي مع إيران والإسلامويين، وأبقت على التواصل الطبيعي مع العرب وإسرائيل، وهكذا فعل حلفاؤها أيضاً على الرغم من إعادة التموضع في واشنطن، فعلى طول السنوات الثمانية اختارت الدول والقوى غير الحكومية الشرق أوسطية أن تلجأ إلى “الاتكال على الذات” في مسألة سيادتها القومية أو حماية الشعوب من دون الانتقال إلى محور دولي آخر، فهي أعادت تموضعها لتتأقلم مع إعادة تموقع إدارة أوباما، وبدأ “الاتكال على الذات” في مصر عام 2013 عندما التحم الشعب والجيش لينتفضا ضد حكم الإخوان ونجحا في ذلك، وصولاً إلى إجراء استفتاءات وانتخابات.

ودعمت المملكة العربية السعودية تحرك الشعب المصري على الرغم من اعتبار فريق أوباما التحرك “انقلاباً”، وأعلنت الإمارات عام 2014 عن أطول لائحة للإرهاب شملت منظمات وميليشيات إيرانية و”الإخوان المسلمين”، على الرغم من دعم فريق أوباما لهم، وذهبت أبوظبي إلى وضع تنظيم إخواني أميركي يحمل اسم “كاير” (CAIR) على اللائحة، وكذلك انطلق “الجيش الوطني الليبي” بقيادة المشير خليفة حفتر واعترف به البرلمان المنتخب ضد ميليشيات طرابلس الإسلاموية التي اعتبرتها واشنطن وقتها “شريكة ثورية”.

ومن أهم قرارات “الاتكال على الذات” القرار السعودي ومعه تحالف عربي وإسلامي واسع في التصدي “للميليشيات الإيرانية” في اليمن، كما دعمت المعارضة السورية ضد نظام الأسد، واستمرت في التنديد بسيطرة “حزب الله” على لبنان.

ولأن لا خيار آخر لديها واصلت المعارضة الإيرانية جهدها ضد حكم الملالي وتواصلت مع الكونغرس الأميركي ومع الحزبين الجمهوري والديمقراطي، أما اسرائيل فاتبعت خطاً مناقضاً لإدارة أوباما بشكل علني وصل إلى ذروته عندما طرح نتنياهو خطة ضرب “السلاح النووي الإيراني” من على منصة الأمم المتحدة، بينما كان البيت الأبيض يحتفل بإنجاز الاتفاق النووي.

إدارة أوباما اتجهت نحو إيران والإخوان للدفع باتجاه ما اعتقدته مصالح قومية وقتها. الشركاء الشرق أوسطيون حاولوا اقناع واشنطن حينها أن مصالحها هي مع حلفائها وليس مع أعدائها، ولكن الطواقم التي هندست الاتجاهات الجديدة استمرت في أجندتها، فقام الشركاء بعد استحالة التغيير في واشنطن وقتها بالبقاء ضمن إطار العلاقات الجيدة (Cordial Relations)، ولكن مع تنفيذ الأهداف القومية بحزم كما شرحنا.

ترمب و”الاتكال المتبادل”

مع انتخاب ترمب بدأت السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط تتغير، وباتت تلتقي مع دول وقوى الاعتدال في المنطقة، فانوجدت سياسة “الاتكال المتبادل” بين الإدارة والحلفاء التقليديين بوجه الأخطار و”التحديات المشتركة”، وبعد أن أعلن ترمب نيته الانسحاب من الاتفاق النووي وضرب “داعش” وإنهاء جغرافيته، قدم له عرب الاعتدال هدية تاريخية كانت بالفعل تقدماً مشتركاً ومصلحة متبادلة، وهي قمة تاريخية فريدة في الرياض في مايو (أيار) 2017، حضرها رؤساء الدول العربية والإسلامية، وتم الاتفاق خلالها على أهداف كبيرة، بما فيها تأليف قوة مضادة للإرهاب ومركز لمواجهة التطرف وتنسيق اقتصادي، والمفارقة أن ترمب ذهب أبعد مما انتظره التحالف العربي، فطلب هو من حلفائه “أن يخرجوا التكفيريين والإرهابيين والمتطرفين من أراضيهم”، والتزم بحماية المنطقة والخليج من “الخطر الإيراني”، وقامت فوراً سياسة الاتكال المتبادل بين الشركاء والولايات المتحدة.

انسحب ترمب من الاتفاق النووي ووضع “الحرس الثوري” على لائحة الارهاب، وعزز وجود القوات الأميركية في الشرق الأوسط، وصعد العقوبات وعزل النظام وصولاً إلى قصف الميليشيات وحتى تصفية أهم قائد أمني إيراني، كما تمكنت القوات الأميركية تحت إدارته من إزالة مناطق سيطرة “داعش” بما فيها عاصمتي “الخلافة المقاتلة” في الرقة والموصل، وقبل نهاية فترته الرئاسية وضع ترمب الحوثيين على لائحة الإرهاب، وتوسع التحالف العربي ونشط على كل جبهات المواجهة مع التطرف.

أما بالنسبة إلى إسرائيل فقدم لها ما لم يقدمه رئيس أميركي سابق من اعترافات قانونية أزعجت بعض العرب بتوقيتها أو شكلها، وصعدت إسرائيل عملياتها ضد المواقع والميليشيات الايرانية في المنطقة.

ترمب صنع التحالف الشرق أوسطي على قاعدة “الجميع يشارك في البناء والتخلي عن الحلفاء ممنوع”.

عودة “الاتكال الذاتي” مع بايدن

هكذا، “فللاتكال على الذات” سوابق في الشرق الأوسط إبان رئاسة أوباما، وقد تشكل فترة هذه الأخيرة خريطة طريق للعقيدة الديبلوماسية نفسها في الفترة الراهنة، فالتموقع الذاتي الشرق أوسطي أو الصمود الناعم استمر ثماني سنوات قبل انتخاب ترمب، ويبدو أنه عائد بعد سنة من رئاسة بايدن، فمع دخول الأخير إلى البيت الأبيض كما سبق وأكدت في كتابي “الخيار” The Choice الذي نُشر في سبتمبر (أيلول) 2020، سيعود طاقم أوباما للشؤون الخارجية وينفض الغبار عن الملفات التي اعتمدت قبل فترة ترمب، وهكذا حدث بالفعل.

خلال أول شهر من الرئاسة الجديدة تم رفع الحوثيين عن لائحة الإرهاب، وبعد ذلك تم إحياء مفاوضات الدوحة مع “طالبان” ومن ثم تحريك محادثات فيينا للعودة إلى الاتفاق النووي، إلى السماح لبعض الدول بتحويل بعض الأموال الإيرانية المجمدة، إلى الانسحاب من أفغانستان الذي أدى إلى كارثة استيلاء “طالبان” على الأسلحة المصنوعة في أميركا، إلخ.

كما وضعت واشنطن ضغطاً على الحكومة الجديدة في إسرائيل كي لا تشن حرباً عسكرية على إيران قبل استنفاد كل السبل لاقناعها بالعدول عن المماطلات، ولكن فريق عمل بايدن كان يعرف أن عودة سريعة لسياسات أوباما لن تكون سهلة لأسباب عدة، فانتهج أداء إعلامياً حذراً، إذ أعلن أن “الوصول إلى نتائج سيكون أمراً صعباً” وأن “كل الاحتمالات واردة”، وطمأن مبعوثو إدارة بايدن الحلفاء العرب وإسرائيل لوقوف واشنطن إلى جانبهم في حال حدوث اعتداءات إيرانية، وندد المسؤولون الأميركيون بالقصف الحوثي داخل اليمن وعلى المملكة مما حافظ ولو بالشكل على التضامن الأميركي – الشرق أوسطي التقليدي.

ولكن ادارة بايدن كإدارة أوباما لم تغير مسارها عن مشاريعها الأساس حيال استيعاب المارقين في المنطقة، وظهر ذلك واضحاً مع الانسحاب من أفغانستان وتسليم السلطة إلى “طالبان” والانسحاب الأقل ضجة من العراق قبل حل الميليشيات الإيرانية، والاستمرار من دون هوادة في المفاوضات مع طهران، ويبدو أن حلفاء واشنطن عادوا إلى ممارسة عقيدة الاتكال الذاتي بانتظار أن تجري الإدارة إعادة تقويم قد تحصل بعد انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، إذا تغيرت الأكثرية.

حلفاء المنطقة قرأوا السطور نفسها وباتوا على دراية بآلية تحرك السياسة الخارجية الأميركية، لذا فبدلاً من مناطحة الاتفاق النووي في العلن، تركوا فريق بايدن يحاول أن يصل إلى مكان ما من دون تعقيد الأمور أمامه، ولكنهم في الوقت ذاته يقفزون إلى المقدمة لحماية أمنهم القوي ومصالحهم الاستراتيجية، بانتظار تطور السياسات في واشنطن، فإسرائيل صعدت ضرباتها على الأهداف الإيرانية من سوريا إلى العراق إلى الداخل الإيراني، وتتهيأ علناً لشن حملة شاملة ضد السلاح النووي والصاروخي في إيران والمنطقة. السعودية والتحالف صعدوا ضد الحوثيين وحققوا تقدمات مختلفة على الأرض. مصر تستمر بحملاتها على الإرهاب بلا هوادة، وحتى الأطراف الداخلية لبعض الدول التي يتخذ منها الإرهاب قواعد تتحرك لتثبت مواقعها حتى تنجلي السياسة الأميركية، فالجيش الوطني الليبي لا يتراجع، والمعارضة اللبنانية لـ “حزب الله” تتشدد سياسياً وحتى ميدانياً، وفي العراق تستمر الجبهة المعارضة للميليشيات في نهجها،

والمفارقة هي أن أطراف “معاهدة إبراهيم” يعملون على تمتينها وتطوير العلاقات الثنائية، مما يجلب دعماً في الرأي العام الأميركي لها كشكل من أشكال “الاتكال على الذات” لتوسيع رقعة السلام.

كل ذلك يدل على أن حلفاء أميركا قرروا الصمود على مواقفهم المرتبطة بأمنهم القومي من دون التدخل بسياسات واشنطن ومبادرات إدارتها، وقد تكون هذه الاستراتيجية الشرق أوسطية رابحة لأن الولايات المتحدة لا تريد خسارة حلفاء بهذا الوزن، لما سيكون لذلك من تأثير في الرأي العام الداخلي، وعلى رصيدها الدولي في خضم سباقها مع الصين وروسيا.