غير مقبول أن يكون العنف والقتل والتفجير حتى داخل أماكن العبادة هو ما نقدمه لأنفسنا وللآخرين
رفيق خوري كاتب مقالات رأي
رحيل المفكر المصري حسن حنفي والمفكر المغربي محمد سبيلا يعيد تذكيرنا بالسؤال الذي طرحه الأمير شكيب أرسلان قبل أكثر من مئة عام: لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ سؤال أعاد فتح النقاش في مسائل مهمة بعد قرون من الانقطاع عن الأسئلة والاكتفاء بأجوبة جاهزة وثابتة عن كل شيء.
أيام الأسئلة المفتوحة والنقاش العميق شغلت القرون الثلاثة الأولى الذهبية بعد مجيء الإسلام، وتميزت بظاهرتين: الأولى هي نشوء تيارات فكرية مثل المعتزلة وإخوان الصفا الذين دعوا إلى “عقد اجتماعي وثقافي”، وركزوا على “إنسانية الإنسان” في تجاوز الطائفية والمذهبية والقبلية لتحقيق آمال البشرية.
والثانية ريادة مجموعة من المفكرين المبدعين الذين حملوا بتواضع أسماء “الأبناء” ابن خلدون، وابن رشد، وابن الهيثم، وابن سينا وسواهم. وأيام الأجوبة الجاهزة سادت بقية القرون وتميزت أيضاً بظاهرتين: سيطرة “العقل الجمعي القياسي” غير القادر على الإبداع، لأنه “عقل فقهي” كما قال المفكر محمد شحرور، الذي وضع معادلة “ثبات النص وحركة المحتوى”.
وانتشار حركات الإسلام السياسي، حيث التركيز على ثقافة الموت والادعاء بأن “الموت في الجهاد هو ما يبتغيه الله من المسلم”، وتمجيد القتلة الذين تكنوا بأسماء “الأبوات” وأبرزهم: أبو عمر البغدادي، أبو بكر البغدادي، أبو مصعب الزرقاوي، أبو محمد الجولاني، أبو سياف، أبو أسامة الشيشاني، أبو البراء التونسي وسواهم. واللقب الأكثر ملاءمة لكل منهم هو أبو عزرائيل.
لكن الأفكار الظلامية والتكفيرية خرقتها أضواء لامعة لكوكبة من المفكرين منذ نهايات القرن التاسع عشر حتى العشرين والحادي والعشرين: محمد عبده، وعلي عبد الرازق، وجمال الدين الأفغاني، ثم محمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وهشام جعيط، وحسن حنفي، ومحمد سبيلا، وحسين مرة، والطيب تيزيني، ومحمد شحرور، وسواهم. والكل ناقش بعمق “النقل والعقل”، “الأصالة والمعاصرة”، “البناء والغناء” و”الإيمان والعمل”.
الجابري ميز بين ثلاثة تيارات في التراث الإسلامي: البيان، والعرفان، والبرهان. وهو اعتبر أن البرهان شرط التقدم. محمد سبيلا انتقد التركيز على “الجوانب المظلمة من التراث المتشددة والداعية إلى العنف وطمس الجوانب المضيئة، بدل تقديم الجوانب المضيئة منه”.
محمد أركون قال إن “تحرير السماء بداية تحرير الأرض”، وكشف أن “الدين أُخضع للسياسة منذ التاريخ القديم، وليس العكس”. وحسن حنفي تجاوز الانقسام العمودي في الجدل بين التراث والمعاصرة، وقال: “التراث المفيد هو الذي يؤسس لرؤية عميقة تساعد في فهم العالم، وليس الذي يحبسك في حياة الأسلاف أو يحول حياتك كلها إلى التجوال بين القبور والمتاحف”.
وفي المقابل، فإن “النهوض الحضاري لن يتحقق إذا اكتفينا بمسايرة الحضارة القائمة والتعلم منها، ولن نستطيع الإسهام في الحضارة لمجرد التعلم منها. فنحن داخل الإطار التقني لحضارة الغرب، لكننا خارج إطارها الثقافي”.
غير أن الأجوبة والأفكار التنويرية لم تصبح تياراً واسعاً، ولا تمكنت حتى اليوم من ربح المعركة الثقافية مع حركات الإسلام السياسي التي تمارس الإرهاب، وتبقى ناشطة على الرغم من محاربتها بكل الوسائل العسكرية والأمنية والسياسية. فنحن نواجه عملياً موجة ارتداد إلى الوراء لم تهزمها تماماً بعد موجة التطور إلى الأمام.
والمشهد مخيف في الانتقال من إخوان الصفا إلى “القاعدة” و”داعش”. ومن المعتزلة إلى ولاية الفقيه. من الاهتمام بما في الرؤوس إلى الاهتمام بما فوق الرؤوس. ومن النقاش في مسائل أعمق من الفقه إلى تحريم النقاش حتى في الفقه. ومن مكتبة تمبكتو إلى الإرهابيين في مالي وبوكو حرام في نيجيريا و”طالبان” في أفغانستان.
وليس من المعقول أن نبقى أسرى “مَن تمنطق تزندق”. ولا من المقبول أن يكون العنف والقتل والتفجير حتى داخل أماكن العبادة هو ما نقدمه لأنفسنا وللآخرين بما سماه مؤسس “الإخوان المسلمين” الشيخ حسن البنا “أستاذية العالم”. وقديماً قال النفري: “العلم المستقر هو الجهل المستقر”.
المقالة تعبر عن راي كاتبها فقط