هل الإنسان حر؟ (الجزء الثاني)


جهم بن صفوان كان من المتكلمين القائلين بالجبرية وروادها الأوائل في تجريد الإنسان من الحرية كلياً

عماد الدين الجبوري كاتب @imadjubouri

تناولنا في الحلقة الأولى فلاسفة اليونان، وتعريف سقراط إلى الحرية، بأنها “قدرة الإنسان على فعل الأفضل”. وعلى نهجه سار أفلاطون، الذي نظر إلى الحرية من منطلق مدني تسوده القوانين والاستقرار. إلا أن أرسطو نقد ثنائية الخير والمعرفة عند سقراط وأفلاطون، فالإنسان الحر هو القادر على اختيار فعلاً إرادياً من خلال معرفة عقلية واضحة به. 

الجهمية

كان جهم بن صفوان (78-128 هـ/696-746 م) من المتكلمين القائلين بالجبرية، بل هو زعيمها، ومن روادها الأوائل في تجريد الإنسان من الحرية كلياً. فعلى الرغم من قوله بإيجاب المعارف بالعقل، لكن ليس للإنسان القدرة والإرادة والاختيار في فعل أو حركة أي شيء، مستند اً إلى الآيات القرآنية التي يدل ظاهرها على الجبر. مثل: “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا”. (التوبة: 51). “إنا هديناهُ السبيل إما شاكراً وإما كفوراً”. (الإنسان: 3). “والله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب”. (البقرة: 212). وغيرها الكثير. فالإنسان، بحسب تصور جهم، مثل الريشة في مهب الريح، ليس له قدرة ولا إرادة ولا اختيار، فأفعاله وحركاته مخلوقة لله كأي شيء آخر. أننا إذ نسند إلى الإنسان أفعال ذاته، فإنما يكون ذلك منا على سبيل المجاز لا الحقيقة، وشأننا في هذا كشأننا عندما نسند إلى الأشياء أفعالاً ليست لها إرادة فيها، فنقول مثلاً، أثمرت الشجرة وجرى الماء وأمطرت السماء وزالت الشمس… إلخ. وإنما فعل ذلك بالشجرة والماء والسماء والشمس الله سبحانه، إلا أنه خلق للإنسان قوة كان بها الفعل وخلق له إرادة للفعل واختياراً له ينفرد به، كما خلق له طولاً ولوناً ينفرد بهما. فلا خالق إلا الله. فإذا جعلنا الإنسان خالقاً لأفعاله أشركنا إلهاً آخر، وقلنا بخالقين في الكون، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. (الملل والنحل، ج 1، ص 86). 

وهكذا، فالإنسان مجبر على أفعاله وحركاته تماماً وليس مخيراً فيها قط، وبذلك وفق مفهوم جهم، لا يمكن وصفه بالاستطاعة على الفعل، وإنما هو مجبور بما يخلقه الله من الأفعال على حسب ما يخلقه في سائر المخلوقات والموجودات. وأن حقيقة ما ينسب من فعل إلى الإنسان إنما هو بطريق المجاز لا أكثر، كما يقال جرى الماء وطلعت الشمس وتغَّيمت السماء إلى غير ذلك. 

وعلى الرغم من إن الدافع الرئيس الذي جعل جهم بن صفوان يقر بالجبر يتعلق بعقيدة التوحيد المطلق، لكن دفعه ذلك إلى إنكار أسماء وصفات الله أيضاً. إذ لا يجوز تسمية الله بالحكيم والعليم والعزيز ونحوها، كما جرّد الله من صفات السمع والبصر والكلام وغيرها، لأن الأسماء والصفات تدل على التعدد، و “كل ما يشعر بالتعدد في ذات الله فهو عند الجهم شرك. فإذا قلنا إن لله صفات دل ذلك على شيئين في الأقل: ذات الله من جهة، وصفاته من جهة أخرى. والصفات في ما بينها متعددة أيضاً. فالسمع غير البصر، غير القدرة، غير الإرادة وهلم جراً. وبما أن القرآن صريح في دلالته على وحدانية الله، فمن الضروري إنكار الصفات والتوحيد بينها وبين الذات. وفضلاً عن ذلك، لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة بها خلقه لأن ذلك يقضي تشبيهاً”. (المصدر السابق، ص 86-87). 

وبحسب رأي ابن صفوان، أن الآيات سواء التي تفيد بالاختيار أو التي تثبت الصفات الإلهية، فيجب تأويلها بما يتفق وعقيدة التوحيد، ولا يتعارض مع التنزيه الإلهي، وصرفها على المجاز. فكما إننا ننسب إلى الأشياء أفعالاً ليست لها، فكذلك القرآن ينسب إلى الله صفات إنسانية لتقريبه إلى أذهان البشر، ولا يجوز أبداً حملها على ظاهرها. فاللغة لها مقتضيات وأحكام تمنع في كثير من الأحيان من أخذ الالفاظ بمعانيها الحرفية.

إن مفهوم المجازية عند جهم يمتد للقول، “إن الناس يُضاف إليهم الأفعال على المجاز”. لأن الحقيقة الثابتة إنه “لا فاعل إلا الله عز وجل”، ولذلك يرى الإنسان مسلوب الحرية تماماً. وأن الثواب والعقاب والتكليف جبرٌ كما أن أفعال العباد جبرٌ. وذهب إلى القول، بأن الجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلهما إليهما، وبذلك فالمخلدون فيها تنقطع حركاتهم، لأنه لا يتصور حركات لا تتناهى أولاً، فكذلك لا يتصوّر حركات لا تتناهى آخراً. أما عن الآية الكريمة “خالدين فيها أبداً” فحملها على المبالغة بالنعيم والعذاب من دون التخليد الأبدي، مستدلاً بقوله تعالى: “إلا ما شاء ربك”. فلو كان مؤيداً بلا انقطاع لما استثنى. 

وكذلك رأى جهم، أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، والكفر هو الجهل به. وبما أن الإيمان هو المعرفة أو التصديق، فلا يلزم مع الإيمان عمل، ولا يضر معه معصية. ومن هنا، نفى جهم أن تكون الأعمال من الإيمان، وجعل كل من صدق فهو كامل الإيمان. كما أن الإيمان عقدٌ بالقلب من غير التلفظ باللسان. أي حتى وأن تلفظ الشخص بالكفر، فلا يضر معه الإيمان بشيء. ولذلك أشار إلى أن الإيمان “لا يتبعض ولا يتفاضل أهله فيه، وأن الإيمان والكفر لا يكونان إلا في القلب من دون غيره من الجوارح”. (مقالات الإسلاميين، ص 132). 

وهناك من تأثر بالجبرية ودافع عنها، مثل جرير الذي خصها في كثير من قصائده، وكذلك أبو تمام الطائي المتأثر بالجهمية تحديداً، إذ يقول في أحد أبياته الشعرية ما يلي:

عَمريُّ عُظم الدين جهمي الندى
ينفي القويَّ ويثبت التكليفا

إلا أن السواد الأعظم من العلماء المسلمين من المتكلمين والسُّنة وأهل الحديث وغيرهم، وقفوا ضد جهم بن صفوان ومذهبه الجبري، لأنه بالقدر الذي يسلب فيه الحرية الإنسانية، يدعو إلى الخمول والركون إلى القدر، وإبطال التكاليف الشرعية بمجابهة الظلم والجور، علاوة على تأويله الآيات القرآنية بطريقة يخرجها من سياقها. 

وهكذا أخذت أفكار جهم بشكل خاص والجبرية بشكل عام بالتراجع والتقلص حتى توارت من المجتمع الإسلامي، خصوصاً أن تجريد الإنسان من الحرية كانت لها دوافع سياسية أكثر منها دينية، بل حتى مقتل جهم كانت لأسباب سياسية اتخذت من الدين ذريعة، فهو ساند ثورة الحارث بن سريج في خراسان، التي أخفقت فدفع الثمن تجاه خصمه اللدود مقاتل بن سليمان المضاد له فكرياً، فالأخير من أصحاب التشبيه والتجسيم (أي أن الله جسم لحم ودم). كما أن الدولة الأموية نفسها استخدمت عقيدة الجبر لتمرير أساليب حكمها. ولكن هذا لا يمنع من القول إن تأثير جهم بن صفوان استمر لفترة زمنية في الفكر الإسلامي، لا سيما في المعتزلة والأشاعرة، فاستمرت معهم مشكلة حرية الاختيار أيضاً.