كانت فضاءً ثرياً أنتج عبقريات كثيرة في جميع الميادين
أمين الزاوي كاتب ومفكر @aminzaoui1
لا أعتقد أن بلداً خرج من استعمار أوروبي في الشرق أو في أفريقيا وفي ملكيته رأسمال من العبقرية البشرية العابر للقارات وفي جميع المجالات، مثلما خرجت به الجزائر عام 1962، وهي تستعيد استقلالها الوطني بعد حرب تحريرية شرسة دامت سبعة أعوام.
صحيح أيضاً أن الجزائر المستقلة خرجت من استعمار همجي بجروح عميقة ومعممة، من الصعب رتقها.
بين جروح غائرة ورأسمال من العبقريات، وجدت الجزائر الجديدة نفسها تتساءل عن الطريق الذي يجب الذهاب فيه من أجل بناء دولة وطنية قادرة على المنافسة.
الآن، 60 عاماً مضت على الاستقلال، فما طبيعة هذا الرأسمال ذي الأصول الجزائرية من العبقريات العالمية؟ وما الذي جرى له؟ ولماذا لم يتم الاستثمار فيه بالشكل المطلوب بما يجعل البلد الجديد قادراً على القفز نحو مربع الدول المعاصرة والمتقدمة؟
كل شيء كان جاهزاً لأن تكون الجزائر بلداً أفريقياً من فصيلة أخرى ومن مصاف أخرى لو أن الطبقة السياسية الحاكمة آنذاك، أي في العشرية الأولى للاستقلال، كانت قادرة على قراءة التاريخ قراءة صحيحة، بعيداً من “حماسة أبي تمام” الوطنية !
بعد 60 عاماً من الاستقلال، يمكننا أن نفكك العقل الجزائري الذي تأسست عليه الدولة الجزائرية المستقلة والوطنية.
لقد تميّز النظام الذي وضع يده على مصير البلد الجديد، بهيمنة العقل الفلاحي المطبوع بمسحة عسكرتارية مناوراتية على دائرة القرار السياسي والاقتصادي والثقافي والتربوي. تاريخياً وفلسفياً، يتميّز العقل الفلاحي، بشكل عام، بالخوف من المغامرة والتوجس من الحداثة، والارتهان إلى الماضي كفضاء مريح، والارتكان إلى الشعبوية كخلاص لأي مشكل داخلي أو خارجي قد يهدد مصيره ومصير الطبقة الحاكمة.
كانت المجموعة الحاكمة خلال الربع قرن الأول من الاستقلال، مسكونة أساساً بهاجس تصفية “الأخ” الخصم، بالتالي المزايدة في الوطنية الشعبوية لتخوين الخصم السياسي، ذلك الأخ الذي كان هو الآخر في الصفوف الأمامية للثورة. ولتهييج صورة “الخائن”، كانت الطبقة الفلاحية المحافظة التقليدية التي تولّت مقاليد الحكم، تطلق النار على كل ما قد يحيل إلى زمن الاستعمار، لذا كان من الطبيعي جداً، وبالمنطق الفلاحي التقليدي للمجموعة الحاكمة، أن تقطع كل ما قد يلاقيها أو يجمعها بهذا الرأسمال البشري من العبقريات التي كانت تزخر بها المستعمرة. لقد فضّلت الطبقة الفلاحية العسكرتارية الاستثمار في الرأسمال الشعبوي والابتعاد عن الاستثمار في رأسمال العبقريات ذات الأصول الجزائرية.
ما طبيعة هذا الرأسمال الجزائري العابر للقارات؟
كانت الجزائر المستعمرة فضاءً ثرياً أنتج عبقريات كثيرة في جميع الميادين، عبقريات في الأدب والإعلام والسينما والمسرح والموسيقى والرياضة والاقتصاد والطب والفلاحة، عبقريات تنتمي إلى اليمين وإلى اليسار، من المحافظين ومن الحداثيين، من ديانات مختلفة، من اليهود ومن المسيحيين، من إثنيات وأصول مختلفة، فرنسيون وإسبان وإيطاليون ومالطيون وألمان وكورسيكيون وغيرهم، وجميعهم ولد أجدادهم وآباؤهم على تراب المستعمرة، أحفاد الأقدام السوداء، بهذا المعنى فإنهم يعرفون الأرض معرفة جيدة. صحيح أيضاً أن بعضهم اختار معسكر الاستعمار في أعوام الثورة فكان معادياً لأي تعايش أو مستقبل مشترك متعدد، وبعضهم ظل متردداً، وبعضهم الآخر شارك وبكل شجاعة في صناعة الجزائر الجديدة المستقلة بالانتماء إلى الثورة، وبعضهم سقط فيها إلى جانب الثوار من الأهالي الوطنيين. وهذه الحال السياسية المتناقضة التي وجدت عليها الإثنيات الأوروبية ذات الأصول الجزائرية، لا تختلف عن حال الأهالي أنفسهم من المسلمين، فهناك من وقف إلى جانب الاستعمار، وهم من يُسمّون بـ”الحركى”، فصيل خان الثورة خيانة واضحة واختار الاستعمار جناحاً يراهن عليه، وهناك من ظل متردداً ينتظر ما ستسفر عنه الحرب، ولعل الكثير منهم ظهر بعد الإعلان عن توقيف الحرب، وهم الثوار الذين أُطلقت عليهم تسمية “ثوار إعلان توقيف إطلاق النار”، الذي كان في 19 مارس (آذار) 1962، وهناك من التزم الثورة منذ الإعلان عنها في بداية نوفمبر (تشرين الثاني) 1954.
إن النخبة التي صنعت فرنسا الفكرية والسياسية والإعلامية ما بعد استقلال الجزائر، هي نخبة إما ذات أصول جزائرية أو كانت مرتبطة بالقضية الجزائرية، من سارتر وسيمون دو بوفوار، مروراً بألبير كامو وجان سيناك، وصولاً إلى جاك ديريدا وجان دانييل وجان بيير القباش. وتُعتبر الثورة الجزائرية مدرسة حقيقية بالنسبة إلى هذه النخبة، وقد ظهر هذا التأثير فيها وفي شعاراتها في ثورة مايو (أيار) 1968 التي أسست لفرنسا الجديدة، فرنسا ما بعد “الزمن الكولونيالي”.
لقد صنعت النخب ذات الأصول الجزائرية فرنسا ما بعد الكولونيالية بكل أسئلتها السياسية الجديدة وأحلامها الاجتماعية والفنية البديلة.
إن العبقريات التي خرجت من المدن والقرى الجزائرية في زمن الاستعمار، هي التي مسكت بالشأن الإعلامي والجامعي والثقافي والفني والاقتصادي والمالي في فرنسا، أضف إليها العبقريات الجزائرية التي هربت من قمع النظام الجزائري بعد الاستقلال (محمد حربي وجمال الدين بن الشيخ…).
عشرات بل مئات الفلاسفة والمفكرين والجامعيين الذين ولدوا في الجزائر، ويعتبرون أنفسهم على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم السياسية والأيديولوجية من إنتاج هذه الأرض المعطاء، التي لم يستطيعوا الانقطاع عنها أو يقاطعوها، من أمثال هيلين سيكسوس وجاك بيرك وألتوسير وبيير رابحي وأليس شركي وأندري شوراكي وفرانتز فانون وبنجامين سطورا وجاك أطالي وغيرهم. ويمثّل جاك دريدا Jacques Derrida ابن حي الأبيار في مدينة الجزائر العاصمة، واحداً من رموز الفلسفة الإنسانية المعاصرة، وقد ظل يحلم بالعودة إلى الجزائر التي أحبّها حباً إلهياً، وقد كان لي الشرف أيضاً، وأنا على رأس المكتبة الوطنية الجزائرية، أن نظمت ملتقى دولياً حول شخصيته بعنوان “في أثر دريدا” يومي 25 و26 نوفمبر 2006، وهو الأول من نوعه الذي احتفل بهذه الشخصية كابن بلد وكمثقف دافع عن قيم الحرية للبلد الذي غادره وهو بعمر 19 سنة، وقد ظل الحديث عن دريدا من الطابوهات الفكرية والثقافية في الجزائر.
وعشرات بل المئات من السينمائيين الذين مثّلوا رأس الأفيش السينمائي وتربّعوا على عالم السينما الفرنسية والأوروبية، صناعة وإخراجاً وتمثيلاً ولا يزالون وهم ينزلون من تراب الجزائر، ويمكن التذكير ببعض هؤلاء من باب التمثيل لا الحصر: إيزابيل عجاني وفرانسواز فابيان وروجي هانان وغي بيدو وديديي بوردون وروبير كاستيل وبير لييدو ويمينة بن قيقي وألكسندر أركادي ودانييل أوتوي وجون لوك أزولاي وغيرهم، عشرات بل آلاف الإعلاميين من أمثال جون بيير القباش وألان عياش وبيير بن يشو وجان مارك ليفي وبول عمار وغيرهم. ويمثّل جون دانييل Jean Daniel مؤسس مجلة “النوفيل أوبس” واحداً من الذين ساندوا الثورة الجزائرية وهو ابن مدينة البليدة، وقد كان لي شرف دعوته في مايو عام 2007 لإلقاء محاضرة في المكتبة الوطنية عندما كنت مديراً عاماً على هذه المؤسسة. كانت المحاضرة عن صديقه ألبير كامو، ابن مدينة الطارف في الشرق الجزائري، الذي كبر في حي بلكور بالعاصمة.
كما أعطت الجزائر كثيراً من رجال ونساء الفن من أمثال المصمم العالمي إيف سان لوران، ابن مدينة وهران، وعشرات الموسيقيين والمغنين من أمثال رينات الوهرانية وموريس المديوني وهنريكو ماسياس وليلي بونيش وباتريك بروييل، ورجال المال والأعمال مثل ألان أفلوللو، الذين يصنعون الحدث العلمي والاقتصادي والبنكي والإعلامي في فرنسا وفي أوروبا وأميركا هم من رحم الجزائر.
أتساءل لو أن الطبقة السياسية عشية الاستقلال كانت على قدر من الشجاعة القادرة على وضع المسافة المطلوبة ما بين الحس الشعبوي والحماسة الوطنية، المبررة آنذاك من جهة، وفلسفة بناء الدولة الحديثة من جهة ثانية، بالاعتماد على هذا الرأسمال من العبقريات البشرية بمنظور وطني استقلالي جديد، لكان من الممكن بناء دولة عصرية قائمة على التنوع والتعدد وقادرة على الجلوس المبكر في مربع الكبار من دول أوروبا وآسيا وأميركا.
صحيح لم يكُن العائق أمام الاستثمار في مثل هذا الرأسمال الجزائري، أو ذي الأصول الجزائرية، من العبقريات العابرة للقارات والتخصصات يكمن، فقط، في العقلية الفلاحية والشعبوية السياسية التي كانت عملة رابحة بالنسبة إلى النظام السياسي الجزائري في الجزائر المستقلة، الذي اعتمدها فلسفة للحكم، إنما كان يعود أيضاً إلى الضغط الذي مارسته قوى فرنسية نيوكولونيالية كانت تكنّ كراهية وعنصرية لكل مستقبل متقدم للجزائر المستقلة والوطنية، وهي من كانت تزيد من إشعال فتيل ثقافة الكراهية كي تبعد الطبقة الحاكمة من التفكير في الاستثمار الإيجابي في هذا الرأسمال البشري من العبقريات التي ظلت، أو على الأقل الكثير منها، يحمل “نوستالجيا” لمسقط الرأس ومرابع الشباب والطفولة.
صحيح فالتاريخ لا يولد مرتين ولكن مع ذلك، يظل درساً في التأسيس لمستقبل يمكنه أن يتجاوز الأخطاء بشجاعة، وهذا هو رهان المستقبل المشترك في بناء علاقة إيجابية بين جزائر الغد وفرنسا الغد.