“لن تنطلق النهضة العربية إلا بالفهم الصحيح للأديان السماوية والابتعاد عن أسباب الصدام ونبذ روح التعصب”
مصطفى الفقي كاتب وباحث
عيداً من السياسة وأزماتها وكورونا ومعاناته، يعنّ لي اليوم أن أتطرق إلى موضوع له أهميته البالغة وأعني به ذلك التوجه الحضاري الجديد الذي تمضي فيه المملكة العربية السعودية لتجديد الخطاب الديني وتحديث رؤية المسلمين العميقة لكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم، فأنا ممَن يظنون أننا كبّلنا أنفسنا عبر القرون بما يؤدي إلى تعطيل حركة التقدم الإنساني في بلادنا ويربط ظلماً وافتراءً بين ديننا الحنيف وروحه المتسامحة التي جعلت التفكير فريضة فيه، فهجرنا العقل وابتعدنا عن صحيح الدين وبدأنا نردد أحاديث مهجورة ليست لها صفة التواتر ولا تحمل من حيث الشكل والمضمون ما يؤكد سلامتها واستسلمنا لمفهوم (العنعنة) الفردية بحيث لا نجد في النهاية المصدر الواضح عن رسول الإسلام ونبيّ الأمة، ولن أنسى السخرية التي واجهتها ذات يوم في لقاء فكري بالعاصمة البريطانية حول ما تردد عن إرضاع الكبير أو استكمال نكاح مَن فارقت الحياة أو الشطط في تصوير قداسة فضلات الرسول العظيم، لقد عزلنا أنفسنا – أيها السادة – عن روح العصر وحضارته وابتعدنا تماماً عن فلسفة الإسلام التي سبقت الدنيا بمئات السنين، وأنا أتذكر الآن ما قاله العاهل الأردني الراحل الحسين بن طلال: إننا لا نحاول الرجوع إلى صحيح الإسلام ولكننا نتقدم نحوه، فهو يسبقنا فكرياً وحضارياً وثقافياً وأخلاقياً، وما من ظاهرة حياتية أو قضية دولية إلا وقد حسمها الإسلام منذ خمسة عشر قرناً. ولنأخذ مسألة حقوق الإنسان بمفهومها الكوني لكي نكتشف أن الشريعة المحمدية قد حسمت الأمر بوضوح منذ بدايتها وقررت المساواة الكاملة بين البشر وفق منهج يقول: “لا فضل لحر قرشي على عبد حبشي إلا بالتقوى”، إنه الإسلام الذي أنصف المرأة وأعطاها حق التعليم والعمل وجعل منهن مقاتلات وشاعرات حتى ضربت بالدف ذات يوم امرأة أمام الرسول بعد انتصاره في إحدى غزواته فرحاً واحتفالاً، إلى أن ظهر عمر بن الخطاب، ففرّت من المجلس ولم يؤنبها النبي بل وفى بوعده واستمع إليها. إن الإسلام هو دين رفق ومحبة وسلام، وكل ما شابه من عنف وما طرأ عليه من خروقات، إنما هي أحداث تتصل بتاريخ الدولة الإسلامية لا بجوهر الإسلام ذاته، وحين يتصدّى ولي عهد المملكة العربية السعودية بشجاعة ووضوح لمناقشة القضايا المتصلة بالتفرقة بين الشريعة والفقه، وهو أمر نادى به مستنيرون كثر من علماء الأزهر الشريف بمَن فيهم الإمام الأكبر الحالي لأن الاعتقاد السائد بأن كل ما نُسب إلى محمد صلّى الله عليه وسلم، هو حقيقة مؤكدة نلتزمها بغض النظر عن صحة القول وسلامة المصدر، فأصبحنا أمام ركام كبير من الأحاديث المدسوسة والافتراءات التي يتحمّلها الإسلام ظلماً وعدواناً، وخلط الكثير من رجال الدين وأدعياء المعرفة بين شرع الله في كتابه الكريم وسنّة رسوله المؤكدة وبين اللغو الذي انتقل إلينا عبر العصور مدسوساً ومحرّفاً وزائفاً، بل وخضع بعد ذلك لعملية اختيار تحكّمي وانتقاء عبثي من أولئك الذين لا يفهمون فلسفة الإسلام أو جوهر دينه
وحان الوقت لأن نصحو للمرة الأخيرة من غفوة القرون ومسيرة الظلام التي عشعشت في العقول ووصمت الإسلام الحنيف بما ليس فيه وجعلته في العقل الغربي – على الأقل – نقيضاً للعلم الحديث والانفتاح الفكري والتسامح الإنساني، فرماه أعداؤه بالتخلّف والتعصّب والتزمّت على نحو استثمره كل الحاقدين عليه والكارهين له. ولعلي أطرح هنا بعض النقاط الجوهرية التي تتعلق بهذه النقلة النوعية التي بشّر بها ولي العهد السعودي لكي نبتعد عن الضلالات والخرافات والأحاديث الملفّقة والأكاذيب الموروثة، وأهم تلك النقاط ما يلي:
أولاً: إن التفرقة بين الشريعة السمحاء والفقه المنقول هي تفرقة بالغة الأهمية، فالشريعة هي جوهر ما جاء في الذكر الحكيم واكتمل بالسنّة الصحيحة المؤكدة عن رسوله الكريم. أما الفقه، فهو صناعة بشرية عادية تمثل اجتهاد الفقهاء وآرائهم، وحسناً فعل ولي العهد السعودي عندما قال إن لا عقوبة إلا بنصّ في القرآن أو قياس على فعل مؤكد جرى سنّة عن محمد صلى الله عليه وسلم، وهو بذلك وضع النقاط فوق الحروف وجعلنا أمام طريق صحيح لا خلاف حوله ولا مزايدة عليه. وإذ تأتي تلك الأطروحات العصرية الصحيحة من أرض النبوة ومبعث الوحي ومنزل الرسالة، فإن ذلك يكون مدعاة للمصداقية أمام العالم الإسلامي في قارات الدنيا، ولقد شهدت في حياتي الدبلوماسية وعملي في الخارج زخماً ضخماً من الخرافات التي يعيش بها الملايين، خصوصاً من المسلمين غير العرب، إذ تبدو الشريعة أمامهم غير واضحة في زحام التفسيرات المتداخلة والآراء المزدحمة، كذلك فإنهم يخلطون بين ما هو مؤكد في هذه الشريعة التي تطرّقت إلى حياة الإنسان بدءًا من الميلاد حتى الموت، مروراً بالزواج والطلاق والمواريث وصولاً إلى الدعوة المباشرة نحو إعمال العقل وإجراء المصالحة الرشيدة بين الحياتين الدنيا والآخرة، ولم يفطن كثير من الدعاة إلى فلسفة النص القرآني أو الحديث النبوي المؤكد، والتقطوا القشور من دون الغوص في فلسفة تلك النصوص وجوهر الفكر الذي حملته الدعوة الإلهية إلى عباد الله في كل مكان. ولقد جاء الوقت لكي يدرك المسلمون – بكل مذاهبهم وطوائفهم – أن الشريعة والسنّة المؤكدة هي ثوابت لا مساس بها. أما اجتهادات الفقهاء في مختلف العصور، فهي صناعة بشرية تحتمل القبول أو الرفض من خلال عملية تنقية تخضع للعقل المحايد والنظرة الموضوعية والمصلحة العليا لأتباع الدين الحنيف، مستلهمة روح الإسلام من دون الوقوف في عجز أمام الأحاديث المغلوطة والسيرة المشوهة. لقد مرّت جنازة أمام نبي الإسلام، فانتفض واقفاً احتراماً لجلال الموت، فقال له بعض الصحابة من حوله: لمَ يا رسول الله والجنازة ليهودي؟! فردّ عليهم بالنطق السامي والإلهام الإلهي: أليست الجنازة لنفس بشرية! فليعكف علماؤنا على ترجمة هذه الواقعة لأمم الأرض وشعوب الدنيا حتى يدركوا أن الدين لله وحده، والذين يضيفون البهارات البشرية والأوهام التاريخية، إنما يخطئون في حق الله ورسوله ودينه.
ثانياً: إن الفروق بين المذاهب الإسلامية والفرق الدينية يجب أن تبتعد عن المساس بجوهر الشريعة وأن تتوقف عن استثمار الأحاديث التي لا سند لها وأن ندرك جميعاً أن الإسلام دين العقل والحكمة والتسامح وشريعته أبعد ما تكون عن التعصب والتطرف والغلو، ولندرك جميعاً أن جوهر الدعوة المحمدية لا يقبل المتاجرة به أو المزايدة عليه، ويكفي الإسلام أعداءه أنه برزت في عصرنا ظاهرة “الإسلاموفوبيا”، تجسيداً لحالة العداء المكتوم تجاه الدين الذي توجهت عبارات كتابه المقدس – القرآن الكريم – إلى الناس كافة من دون المسلمين وحدهم، فقد جاء في الذكر الحكيم: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”.
ثالثاً: أدعو علماء الدين في كل المذاهب الإسلامية الصحيحة إلى التوقف عن الزجّ بالتفسيرات الفقهية أو اعتبارها مصدراً صحيحاً في الدين، فهي اجتهادات بشرية وتحليلات تحتمل الخطأ والصواب ولا يجب تلقّفها بكل شوائبها لتصبح عالقة في أذهان العامة ومصدراً للتضليل والتجهيل على حساب الشريعة الغراء والسنّة المؤكدة. كما أن اجتزاء النصوص وانتزاعها من سياقها التاريخي هو أمر يؤدي إلى تشويه صورة الإسلام، خصوصاً في أعين غير المسلمين، فالإسلام دين الفطرة والبساطة وهو الدين الذي يغوص في النفس البشرية ونوازعها المختلفة حتى إن آية الميراث في القرآن الكريم أوجزت في سطور قليلة ما عجز العلماء المعاصرون عن تحديده بهذه الكيفية وتلك الروعة، ولنتذكر ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي ملخصاً مبادئ الإسلام: “الدين يسر والخلافة بيعة، والأمر شورى والحقوق قضاء”.
إنني أحيي المبادرة السعودية وأدعو إلى دعمها من كل المراكز الدينية وحسناً فعل الأزهر الشريف – قبل هذه المبادرة وبعدها – من تأكيد جوهرها واحترام الرؤية الإسلامية الصحيحة التي تضعنا على أول الطريق، ولعلي أعطي الرئيس المصري الحالي ما يستحقه من تقدير وهو الذي نادى منذ بداية حكمه بضرورة تجديد الخطاب الديني على نحو لا يختلف عما طرحه ولي العهد السعودي وبدأ الأزهر الشريف ينادي به، فالنهضة العربية لن تنطلق إلا بالفهم الصحيح للأديان السماوية والابتعاد عن أسباب الصدام ونبذ روح التعصب وفهم منطق العيش المشترك واحترام الآخر، لأن الدنيا لنا ولهم ولغيرنا جميعاً… ولكل مَن خلق الله خليفة له في الأرض منذ النشأة الأولى!
المقالة تعبر عن راي كاتبها