اصطدم الرئيس التركي بكل الجدران وتضررت مصالح بلاده فضعف الاقتصاد وانهارت الليرة
رفيق خوري كاتب مقالات رأي
لا شيء يتقدم على المصالح في ضبط العلاقات بين الدول، بما فيها التي تركز في الخطاب على المبادئ والقيم. لا النظام العالمي ولا القانون الدولي. وأكثر ما يفسر التبدلات السريعة في إدارة العلاقات من الصداقة إلى الخصام، ومن التحالف إلى العداء وبالعكس هو تقرير ما يخدم المصالح وما صار يؤذيها.
ولا فرق سواء كانت المصالح في المجال الحيوي للبلدان التعددية أو في الإطار الشخصي للحكام في البلدان السلطوية. والنماذج كثيرة وراءنا وأمامنا ومن حولنا في المنطقة والعالم. حتى الدول الكبرى، وفي طليعتها أميركا والصين وروسيا، فإن حساباتها الدقيقة المتعلقة بالمصالح الحيوية جداً لا تخلو أحياناً من طابع شخصي.
لكن، هذا الطابع الشخصي لا يدفعها إلى التهور وإغلاق الأبواب. فالرئيس الأميركي جو بايدن وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه “قاتل”، وردّ بوتين عليه بأنه يرى نفسه في المرآة، ثم بدأ التحضير لقمة تجمع الرئيسين للبحث في الخلافات بين بلديهما حول أمور أساسية واستراتيجية. والرئيس الصيني شي جينبينغ الذي اشتبك معه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في حرب تجارية، وسماه بايدن “السفاح” وقرر أن تكون أميركا “صارمة” مع بلاده، لم يتردد في المشاركة في قمة المناخ الافتراضية بدعوة من بايدن.
أما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فإنه سريع الغضب، يمارس سياسة “التزلج” بين التفاهم والتشاتم. يندفع في اتجاه ثم يكوّع في اتجاه معاكس. خلال سنوات قليلة انتقل من سياسة “صفر مشاكل” مع دول المنطقة التي نظّر لها أحمد داوود أوغلو قبل الاستقالة من رئاسة الحكومة ورئاسة حزب “العدالة والتنمية” إلى سياسة “مشاكل مع الجميع”. وها هو يعود إلى محاولات المصالحة مع الجميع من دون أن يفقد الرغبة في المعاكسة. فمحاولاته لحل مشاكله مع إدارة بايدن بعدما فقد دعم ترمب لم تمنعه من الرد على الرئيس الأميركي الذي اعترف بـ”الإبادة الجماعية” للأرمن على يد السلطنة العثمانية في مجازر أودت بحياة مليون ونصف المليون أرمني مدني في الحرب العالمية الأولى. لا بل إنه دافع عن المجازر التي وصفها بأنها “أحداث وقعت شرق الأناضول”، وعمل على تزوير الحقائق بالادعاء أن ما حدث عام 1915 هو أن “الدولة العثمانية قررت نقل 600 ألف أرمني وإسكانهم ضد تمرد قائم وليس ضد تهديد محتمل”.
ذلك أن تحولات أردوغان تبدو ظاهرة غير عادية. فهو ناصب مصر عداءً شديداً بعد إسقاطها نظام الإخوان المسلمين، واستقبل الإخوان وفتح لهم مجال العمل السياسي والإعلامي والأمني ضد مصر. واليوم يتودد للقاهرة ويبدأ حواراً أمنياً ودبلوماسياً معها على الطريق إلى قمة. ويقرر إسكات الإخوان ودفعهم إلى مغادرة تركيا.
وهو هاجم السعودية وحمل قميص جمال خاشقجي على طريقة “قميص عثمان” وحاول إجراء محاكمة في إسطنبول للمتهمين بالجريمة رافضاً المحاكمة التي جرت في الرياض. واليوم يقول مستشاره إبراهيم قالين إن السعودية “أجرت محاكمات في قضية خاشقجي، واتخذت قراراً ونحن نحترم ذلك”، ويدعو إلى تحسين العلاقات مع المملكة بعد مقاطعة شعبية ناجحة للبضائع التركية.
هو في “الناتو”، لكنه يشتري صواريخ “أس 400” الروسية ضد إرادة الحلف ونظامه العسكري، ثم يطالب بمعاملته عضواً في الحلف، وهو يقف مع روسيا وإيران في حرب سوريا.
دعا الرئيس إيمانويل ماكرون إلى “فحص قواه العقلية”، واقتربت السفن البحرية التركية قبالة ليبيا من الاصطدام مع سفينة فرنسية، ويريد اليوم علاقات حسنة مع باريس. شتم المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل وابتز الاتحاد الأوروبي في موضوع المهاجرين السوريين. واليوم يعكس الموجة تحت عنوان “زيادة عدد الأصدقاء وإنهاء حالات الخصومة”. هاجم الاتحاد الأوروبي واليوم يريد عودة التفاوض لدخوله.
من المفارقات أن يستفيق أردوغان اليوم على واقع بلاده الجيوسياسي- اقتصادي- استراتيجي بالقول: “تركيا الواقعة في قلب أفريقيا وآسيا وأوروبا لا تملك الرفاهية لإدارة ظهرها إلى الشرق أو إلى الغرب، وسنواصل صوغ علاقاتنا مع كل الدول: الولايات المتحدة، وروسيا، والاتحاد الأوروبي، والعالم العربي بما يتماشى مع مصالح تركيا وتطلعات شعبنا”.
لكن، سرعة التحولات في اتجاهات متعاكسة تطرح على المنطقة والعالم سؤالين: أين الصدقية في موقف أردوغان التصالحي، وما الذي يضمن أن لا ينقلب عليه غداً؟ ومن يصدق أن أردوغان يستطيع العيش بلا خصوم وهو يعمل لنقل تركيا من نظام ديمقراطي إلى نظام سلطوي؟
لا شيء اسمه “أردوغان جديد”. أردوغان الذي يخاصم ويصالح ويعود إلى الخصام وبالعكس واحد لا يتغير. ألم يقل الرئيس نيكسون إن الرئيس “يستطيع أن يعيش بلا أصدقاء، لكن ليس بلا خصوم”؟ ألم تأتِ تحولاته بعدما اصطدم بكل الجدران وتضررت المصالح وضعف الاقتصاد وانهارت الليرة في تركيا؟
المقالة تعبر عن راي كاتبها فقط