أعادت واشنطن المساعدات الفلسطينية حتى لا تفقد تأثيرها الأخلاقي ونفوذها السياسي
طارق الشامي صحافي متخصص في الشؤون الأميركية والعربية
بعد ما أعاد إرسال المساعدات الأميركية إلى الفلسطينيين التي أوقفها الرئيس السابق دونالد ترمب، تعهد الرئيس الأميركي جو بايدن بالضغط من أجل إحلال السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين عبر إعادة فكرة حل الدولتين إلى مركز السياسة الأميركية بعد تحولات درامية شهدتها السنوات الأربع الماضية، لكن السؤال الذي تطرحه دوائر التأثير والقرار في واشنطن هو: هل يستطيع بايدن بعد هذه الخطوات المهمة التوسط من جديد لإحلال السلام بين الجانبين، وهل تتوافر لديه الرغبة والقدرة على تنفيذ ذلك الهدف؟
نهج مختلف
لم يكن إعلان الخارجية الأميركية المساهمة بمبلغ 150 مليون دولار لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة (الأنروا) وهو إجراء نددت به إسرائيل، فضلاً عن مساعدات اقتصادية وتنموية أميركية بقيمة 75 مليون دولار للضفة الغربية وقطاع غزة و10 ملايين دولار أخرى لجهود بناء السلام، سوى تعبير واضح عن اعتقادها بأنها ستسلك نهجاً مخالفاً لنهج ترمب المساند لإسرائيل بقوة في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي الذي عزل الفلسطينيين، وجعل فرص السلام أقل احتمالاً، إيماناً منها بأنه عندما تتخلى الولايات المتحدة عن دورها ولا تشارك في الوكالات الدولية، فستفقد المعايير الأخلاقية وقدرتها على التأثير.
لكن هذا التغير في سياسة الولايات المتحدة كان متوقعاً كونه يتماشى مع تصريحات بايدن خلال حملته الانتخابية، ومع ذلك يتساءل كثيرون من النخبة السياسية في واشنطن حول طبيعة السياسة الأميركية حيال الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وما إذا كانت إدارة بايدن راغبة وقادرة على تحريك مسار المفاوضات من جديد.
عودة الأمل
ولا شك أن الخطوات الأميركية الأخيرة ستمحو صفحة من الاستفزازات التي زرعتها إدارة ترمب بما يعيد ضبط العلاقة الأميركية – الفلسطينية ويبعث بقدر من الأمل حول إمكانية إحياء مسار السلام بعد إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن عام 2018 ورفض قيادة السلطة الفلسطينية التعامل مباشرة مع السفارة الأميركية في إسرائيل التي نقلها ترمب من تل أبيب إلى القدس.
الحقيقة المحزنة
لكن الحقيقة المحزنة بحسب كثير من المنخرطين في هذا الملف داخل العاصمة الأميركية، هي أن الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي يشعران بخيبة أمل كبيرة من الجهود الفاشلة التي بذلتها الإدارات الأميركية المتعاقبة لإنهاء الصراع الذي يتطلب حله وقتاً وصبراً، بخاصة وأن إدارة بايدن تعود من جديد إلى الحديث عن حل الدولتين الذي يستند إلى اتفاقات أوسلو، التي لم يعد هناك سوى القليل من معاصريها في موقع سلطة باستثناء الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بينما اغتيل رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحق رابين، أحد شركائه الإسرائيليين قبل 25 سنة، وتوفي الرئيس الإسرائيلي السابق شيمون بيريز في عام 2016، كما رحل صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين قبل أشهر (10 نوفمبر 2020)، وهو الذي كان يؤمن بعملية تدريجية تظهر فيها دولة فلسطينية مستقلة لتعيش بسلام إلى جانب دولة إسرائيل.
وحينما يقرر محمود عباس البالغ من العمر الخامسة والثمانين مغادرة منصبه وقد يكون ذلك قريباً، لأسباب سياسية أو صحية أو شخصية، فسيكون آخر مهندس لعملية أوسلو قد ترك السلطة، وربما تنتهي معه حقبة سادها التفاؤل في البداية حين حصل الفلسطينيون على حكم ذاتي في غزة وأريحا، والذي امتد إلى 40 في المئة من الضفة الغربية أثناء مفاوضات الوضع النهائي قبل أن تسود خيبة الأمل وانعدام الثقة بين الجانبين وتطغى اتهامات الإرهاب وعمليات التوسع الاستيطاني على الدبلوماسية.
فشل إنعاش أوسلو
وظلت اتفاقات أوسلو تحت أجهزة الإنعاش في غرفة العناية المركزة منذ أن رفض الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، قبول المعايير المطروحة لحل الدولتين في عهد الرئيس الأميركي السبق بيل كلينتون في ديسمبر (كانون الأول) عام 2000، ومنذ ذلك الحين بُذلت جهود مختلفة لإحياء العملية السلمية لكنها فشلت كلها، وانهارت آخر مفاوضات للوضع النهائي الإسرائيلية – الفلسطينية التي أشرف عليها وزير الخارجية الأميركي جون كيري في أبريل (نيسان) 2014 حيث كان الطرفان متباعدين حول كل القضايا تقريباً من الحدود والأمن إلى اللاجئين والقدس بل والاعتراف المتبادل.
وحاولت “اتفاقية السلام” التي أعلنها ترمب في يناير (كانون الثاني) 2019، فرض حل على الفلسطينيين من دون التشاور معهم وانحاز بشكل سافر إلى جانب إسرائيل في جميع قضايا الوضع النهائي، ولهذا لم يكن من المستغرب أن يرفضها الفلسطينيون بشدة، كما رفضها أيضاً الجناح اليميني الإسرائيلي، على الرغم من أنها شملت ضماً إسرائيلياً أحادي الجانب لغالبية أراضي الضفة الغربية وجميع المستوطنات.
إحباط مسبق
وفي حين أن بايدن على دراية تامة بتصلب مواقف الجانبين بصفته كان نائباً للرئيس أوباما، وشارك في كل المشاورات الداخلية حول مبادرة جون كيري، إلا أنه لا يوجد لديه سبب للاعتقاد بأنه إذا حاول أن يفعل ما فعله الرؤساء السابقون منذ فشل كلينتون وحتى الآن، فإن النتيجة ستكون مختلفة.
ومع كل أولويات بايدن الملحة، بدءاً من القضاء على وباء كورونا إلى تنشيط الاقتصاد ومواجهة الصين، والبرنامج النووي الإيراني، سيكون من الصعب تصور انخراطه في إطلاق مبادرة جديدة لاستئناف مفاوضات الوضع النهائي الإسرائيلية – الفلسطينية، لكن ذلك لا يمنع بايدن من التزامه بالحفاظ على مفهوم حل الدولتين على قيد الحياة، لأنه يظل السبيل الوحيد لإنهاء الصراع.
إصلاح الضرر
ولهذا السبب كانت الأولوية الأولى لإدارة بايدن هي إصلاح الضرر الذي أحدثته إدارة ترمب عبر إعادة العلاقات مع منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، التي قُطعت في أعقاب قرار ترمب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وإحياء المساعدات الأميركية للمشاريع التي تقدم دعماً حيوياً للشعب الفلسطيني بينما يبقي على السفارة الأميركية في القدس، لكنه أيضاً قد يعترف بأن الفلسطينيين يتطلعون إلى القدس الشرقية كعاصمة لدولتهم. ويشمل إصلاح الضرر أيضاً إعادة تأكيد إدارة بايدن على المبادئ الأساسية لسياسة الولايات المتحدة تجاه حل النزاع، مثل قرار مجلس الأمن رقم 242، وعدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة، وضرورة الانسحاب الإسرائيلي إلى حدود عام 1967، فضلاً عن إدانة كل أشكال العنف والإرهاب والتحريض ومعارضة الأعمال الانفرادية، بما في ذلك الضم والتوسع الاستيطاني.
تمهيد الطريق
وقد يمهد كل ذلك الطريق أمام وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ليعلن عن استعداده من حيث المبدأ لدعم استئناف مفاوضات سلام مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولكن ذلك لن تبادر إليه الإدارة الأميركية بحسبما يقول مراقبون في واشنطن، إلا عندما يكون الطرفان على استعداد تام لقبول المعايير الأساسية لحل الدولتين على النحو المنصوص عليه في مبادرة كلينتون ومبادئ كيري.
لكن ذلك يظل رهناً بعملية جادة وسريعة لبناء ثقة الجانبين في نوايا الطرف الآخر عبر استعادة التعاون الأمني، واستئناف تحويلات الإيرادات الإسرائيلية إلى الفلسطينيين، ووقف دفع الفلسطينيين أموالاً لشخصيات أُدينت بعمليات دموية ضد إسرائيل، إضافة إلى وقف توسيع المستوطنات، ونقل المزيد من أراضي الضفة الغربية إلى السيطرة الفلسطينية.
مناهج حل النزاع
والأهم من كل ذلك هو تشجيع الجانبين على إعادة التفكير في مناهجهما الأساسية لحل النزاع، حيث يرى دبلوماسيون أميركيون سابقون أنه يجب على الفلسطينيين إدراك أن استراتيجيتهم في تعطيل التطبيع مع إسرائيل إلى حين تلبية مطالبهم بالكامل، قد باءت بالفشل وسط سلسلة طويلة من الفشل الدبلوماسي ضمن عملية أوسلو، والفشل في عزل إسرائيل دولياً، والفشل في توحيد السياسات بين الفصائل الفلسطينية المتنافسة، وفشل المؤسسات الفلسطينية الديمقراطية.
ومن الواضح أن هناك حاجة إلى تطوير مقاربات جديدة، بدءاً من إعادة تقييم الدور الذي يمكن أن تلعبه الدول العربية التي تربطها علاقات بإسرائيل مثل مصر والأردن، في مساعدة الفلسطينيين على تحقيق أهدافهم السياسية.
وعلى الجانب الإسرائيلي، يجب على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إدراك أن الدول العربية الأخرى التي ربما تكون راغبة في السلام مع إسرائيل ستطلب تنازلات خاصة، سواء جاء ذلك في شكل تجميد الاستيطان أو إنهاء هدم مساكن الفلسطينيين أو منح المزيد من الأراضي إلى الفلسطينيين في الضفة الغربية.
مشكلة حماس
وعلى الرغم من توافر الرغبة لدى بايدن للعمل على حل نزاع استمر عقوداً طويلة، فإن الكرة تظل في النهاية في ملعب الطرفين المتصارعَين وعليهما زرع بذور التفاهم والتعاون قبل أن يحل وقت قطف ثمار السلام، وحينما تتوافر النية الصادقة، ستكون الإدارة الأميركية جاهزة لدفع الطرفين إلى طاولة المفاوضات. وإلى أن تأتي هذه اللحظة، تظل الأعين مفتوحة على الانتخابات التشريعية الفلسطينية المقررة في 22 مايو (أيار) المقبل، والانتخابات الرئاسية الفلسطينية في 31 يوليو (تموز)، والتي قد تتأجل مثلما حدث منذ عام 2006، إذ تضفي هذه الانتخابات قدراً من التوجس في دوائر التأثير الأميركية حول مَن سيفوز بها إذا تم إجراؤها. وستكون إعادة ضبط علاقة الولايات المتحدة مع القيادة الفلسطينية صعبة للغاية إذا كانت هذه القيادة تضم “حماس”، وهو أحد الاحتمالات القائمة بعد ما ناقشت كل من حركتي “فتح” و”حماس” في القاهرة التشارك في قائمة انتخابية من شأنها أن تضمن لـ”حماس” دوراً في حكومة السلطة الفلسطينية.
وفي كل الأحوال، إذا فازت “حماس” بدور مؤثر في المجلس التشريعي وسيطرت على بعض الوزارات، وإذا انضمت إلى منظمة التحرير الفلسطينية عقب الانتخابات التي ستجرى قريباً، فستكتسب الحركة التي تعارض اتفاقات أوسلو وحل الدولتين، النفوذ والسلطة في منظمة التحرير وفي السلطة الفلسطينية ما قد يعرقل تطور العلاقة الفلسطينية – الأميركية ويجعلها صعبة ومثيرة للجدل.
اندبندنت