تجربة موسكو للتدخل في المنطقة ماثلة في تقييم مبادرات بكين
طارق فهمي كاتب وأكاديمي
أطلقت الخارجية الصينية مبادرة جديدة لحل الصراع القائم في الشرق الأوسط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ودعت للقاءات ستجري في بكين وفقاً لرؤيتها، وقد جاء ذلك على لسان مستشار الدولة ووزير الخارجية الصينية وانغ يي، الذي أكد أن حل القضية الفلسطينية وتحقيق حل الدولتين يمثلان أهم محك للعدالة والإنصاف في الشرق الأوسط، وأن الصين تدعم جهود الوساطة الحثيثة للمجتمع الدولي بهدف تحقيق ذلك. كما أكد دعم بكين لعقد مؤتمر دولي ذي مصداقية في حال نضوج الظروف، وكذلك حرص بلاده على الدفع إلى مراجعة القضية الفلسطينية في مجلس الأمن الدولي أثناء رئاستها للمجلس في مايو (أيار) المقبل.
والواقع أن الإشكالية الكبرى ليست في المبادرة أو الطرح التفاوضي والخطوات الإجرائية، إنما في تقبل الأطراف المعنية بما يطرح سواء من الجانب الفلسطيني أو الإسرائيلي، في ظل مناخ دولي معقد قد لا يسمح بتحرك الصين بصورة مباشرة.
وحافظت الصين على خطوط ثابتة في دبلوماسيتها في الاعتراف بحق الفلسطينيين بدولة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وحرصت على أن تقيم علاقات متميزة مع الجميع، وأن تظهر بمظهر الشريك المحايد. وهي تحظى بعلاقات مميزة مع إيران ولا تعتبر حركة “حماس” الفلسطينية و”حزب الله” اللبناني ضمن المنظمات الإرهابية.
قدرات جديدة
وفقاً للواقع السياسي الراهن، فإن الصين تتبنى سياسة الحراك الإقليمي والدولي في مواجهة ما يجري في المنظومة الدولية وتحجز لها دوراً مهماً في حل وتحليل الصراعات والنزاعات في العالم، وهو ما ينطبق على الشرق الأوسط ومواقع أخرى في أفريقيا بل وفي المنظومة الآسيوية المعقدة. وبالتالي، فإن التحرك الصيني يفهم في سياق عام وليس خاصاً بالشرق الأوسط، وقد سبق أن تقدمت الصين بمبادرة لحل القضية الفلسطينية أثناء استقبالها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الفلسطيني محمود عباس في مايو 2013، ورأت في هذه القضية جوهراً لكل قضايا الشرق الأوسط. ولقد طرح الرئيس الصيني وقتها شي جين بينغ الرؤية الصينية ذات النقاط الأربع حول تسوية القضية الفلسطينية خلال مباحثاته مع عباس.
كما أن تياراً نافذاً داخل الحزب الشيوعي الصيني يسعى بالفعل إلى إيجاد دور لبكين في حل الصراعات الدولية، وهو ما يدفعها للخروج من شرنقة الاقتصاد وتقديم مبادرات مثل “الحزام والطريق” وإلى لعب دور سياسي واقعي في إطار الحفاظ على المصالح.
ويشار إلى أن الصين كانت أولى الدول غير العربية التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية، ورفضت في الوقت نفسه الاعتراف بإسرائيل، على الرغم من اعتراف الأخيرة بها.
كما يبدو أن هناك سعياً للدخول في مناكفات سياسية حقيقية مع الولايات المتحدة وامتلاك الأوراق في مواجهة ما يجري، في ظل استمرار التحدي الأميركي للسياسة الصينية في العالم وعلى المستوى الثنائي. وهو ما برز بوضوح في البدايات الأولى لحكم الرئيس جو بايدن، الذي سيعمل على تصويب مسار العلاقات بين واشنطن وبكين من دون صدامات، مستعيناً باليابان والهند والاتحاد الأوروبي.
استثمار العلاقات
ويمكن القول، إن هناك رغبة لدى الصين في استثمار العلاقات مع الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني. فالمعروف أن بكين ترتبط بعلاقات اقتصادية واستثمارية كبيرة مع تل أبيب، حيث تتولى أكبر عملية تحديث للطرق الإسرائيلية والموانئ إضافة إلى التعاون الصناعي والعسكري. وهو أمر سبق أن رفضته الإدارات الأميركية بما فيها إداراتا ترمب وبايدن، طالبة تحجيم الدور الصيني اقتصادياً وعسكرياً وصناعياً في الداخل الإسرائيلي، إذ تعد بكين أكبر شريك تجاري لإسرائيل في آسيا وثالث أكبر شريك تجاري لها في العالم. ولهذا السبب تقتضي المصلحة الإسرائيلية تعزيز العلاقة مع الصين، بعكس الولايات المتحدة.
ويمكن الاعتبار أن الصين تملك القدرة على التأثير في الجانب الإسرائيلي، إن قبل بالتفاوض مع الجانب الفلسطيني وفق لرؤية صينية أو من خلال الدعم الرباعي، الذي دشن مرحلة جديدة، أخيراً، باستئناف الاتصالات المعطلة منذ سنوات والبحث في خطوة حقيقية لبدء التفاوض بين الجانبين.
نائب الرئيس الصيني وانغ كيشان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال جولتهما في قمة الابتكار الإسرائيلية في القدس في 24 أكتوبر 2018 (أ ف ب)
أما الجانب الفلسطيني، فليس لديه أي قيود أو تحفظات على الوساطة الصينية أو العمل من خلالها، بخاصة أن العلاقات الصينية الفلسطينية جيدة، وإن كان التحفظ الحقيقي يتمثل في أن السلطة الفلسطينية اختبرت فعلياً وسطاء آخرين وفشلوا مثل موسكو التي طرحت فكرة عقد مؤتمر موسكو للسلام في الشرق الأوسط، ومثل فرنسا التي عقدت مؤتمر باريس للسلام في الشرق الأوسط، وقامت إسرائيل والولايات المتحدة بتقويض أعماله وفعالياته. وبالتالي، فإن الإشكالية الرئيسة لن تكون من الصين وتطلعاتها للعب دور حقيقي وجاد في المفاوضات المقترحة في الشرق الأوسط، بل في الأطراف الأخرى التي لا تريد لها أن تدخل السياسة من باب الاقتصاد، وهو ما يمكن أن يؤثر على نمط التحرك الصيني.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن العامل الأيديولوجي احتل الموقع الرئيس في تكييف السياسة الخارجية الصينية تجاه الصراع العربي– الإسرائيلي، فهذه السياسة لم تتبلور، إلا منذ انعقاد مؤتمر “باوندونغ” عام 1955 وحتى قيام الثورة الثقافية عام 1965. وفي عام 1978، أكدت الصين أنها على استعداد للاعتراف بإسرائيل شرط تخليها عن الأراضي التي احتلتها عام 1967.
الصمت الأميركي
في ظل صمت أميركي وعدم اكتراث حقيقي بالعمل على مسار الاتصالات الفلسطينية الإسرائيلية، بل وعدم تعيين مبعوث للسلام في الشرق الأوسط، كما كان قائماً في إدارات سابقة وكما جرى في التعامل مع الملفين اليمني والإيراني، قد تتحرك الصين بشكل عاجل لملء الفراغ استثماراً لعلاقاتها ونقل رسالة إلى الإدارة الأميركية بأنها ستعمل بمنظور مختلف بصرف النظر عن قدرات واشنطن، التي قد تسعى إلى إفشال مخطط بكين الذي يتميز بسرعة الحركة وبرز في تحركات وزير الخارجية الصيني في زيارته لدول المنطقة وبدء اتصالات حقيقية قد تمتد إلى ملفات أخرى.
في المقابل، ترفض واشنطن صعود أدوار أطراف أخرى ومنها روسيا وفرنسا، وهو ما تدركه الصين جيداً، بخاصة وأن تحركاتها سياسياً سريعة ومباشرة ويمكن أن تدخل في مسارات أخرى في الأمم المتحدة وبالتنسيق مع روسيا، وهو أمر ستضعه الولايات المتحدة في اعتباراتها الراهنة ليس في الشرق الأوسط فحسب، إنما في بقاع أخرى في المنظومة الدولية.
ويشار هنا إلى أنه منذ رحيل ماوتسي تونغ وشوآن لاي، بدأت الصين تنظر إلى منطقة الشرق الأوسط ضمن مفهوم إستراتيجي جديد يتلاءم مع عدائها للاتحاد السوفياتي، وهو ما حاولت الولايات المتحدة تشجيع بكين عليه، فقد تركز الموقف الصيني، أساساً، على الفرص التي تنتجها لتقليص الدور السوفياتي في الشرق الأوسط، لا على تأثيرها في الأوضاع العربية عموماً، وهو ما يتغير بطبيعة الحال في الوقت الراهن.
وهناك تصور صيني (أكاديمي/ سياسي) يرى أنه من الصعب إيجاد حل لكثير من القضايا المهمة إقليمياً مثل القضية الفلسطينية من دون مشاركة الولايات المتحدة وتأييدها. وفي الوقت نفسه، يرى بعض الخبراء الصينيين أن الولايات المتحدة سبب من الأسباب التي تؤدي إلى اضطرابات وتوترات واستمرار الصراعات في الشرق الأوسط.
مسارات للتحرك
من الواضح أن الصين تبحث عن مساحات جديدة للتحرك إلى جانب الأدوار الأميركية والروسية، بما قد يشبهه البعض بحرب باردة مستجدة، بخاصة أن بكين تدخل الشرق الأوسط سياسياً استكمالاً لحضورها الاقتصادي الكبير في المنطقة، وبصرف النظر عن حجم الإنجاز الذي يمكن تحقيقه في مسألة الصراع العربي الإسرائيلي، في ظل تمسك تل أبيب بالطرف الأميركي وحده في إدارة التفاوض، ما يؤكد أن الصين بالفعل تواجه طرفاً عازفاً عن العمل، خصوصاً أن أولوية إسرائيل الراهنة ليست استئناف الاتصالات مع الجانب الفلسطيني، بل حسم مسألة إيران أولاً، إضافة إلى أن نتائج الانتخابات الإسرائيلية الحالية قد تدفع تل أبيب إلى مزيد من حالة عدم الاستقرار لحين تشكيل حكومة جديدة.
ويبدو مسار تعامل الصين مع الرباعية الدولية مهماً للغاية، بخاصة أن دولاً مثل الأردن، ومصر، وفرنسا، وألمانيا تتحرك وفق “مسار برلين” التفاوضي إضافة إلى تحرك لجنة المتابعة العربية وغيرها، وبالتالي فإن الصين قد تذهب إلى خيار دمج المسارات خارج الدائرة الأميركية والعمل معها في إطار صيني عربي/ صيني/ أوروبي، ما قد يدفع الجانب الأميركي للتحرك.
كم أن الصين لديها حسابات دقيقة مع الجانب الإسرائيلي ولن تتنازل عنها بسهولة، وهو ما سيدفعها للعمل على المسار والبديل، بخاصة أن تل أبيب تدرك أن الصين قادرة على طرح مقاربة مصلحية، وفق ما طرح في كتابات صينية متخصصة عن رعاية ودعم مسار السلام السياسي والاقتصادي، أي أنه سيكون ممولاً ومشاركاً في طرح وتنفيذ بعض المشروعات في الشرق الأوسط لتهيئة الأجواء للانخراط في مسار المفاوضات الحقيقية وحسم التباين القائم في وجهات النظر.
الخلاصات الأخيرة
لن تكتفي بكين بالوجود في الشرق الأوسط انطلاقاً من طرح مبادرة أو القيام بزيارات دبلوماسية، فالصين الراهنة ليست كما كانت في سنوات سابقة والمخطط للتعامل في الشرق الأوسط مختلف تماماً. ولكن الإشكالية الحقيقية قد تبقى في مواقف الآخرين ومسعاهم إلى إفشال التحركات الصينية، بخاصة أن الإدارة الاميركية ما تزال ممسكة بقوة بأوراقها في كافة مناطق العالم، وما تزال تبحث عن مصالحها الاستراتيجية الممتدة، بما في ذلك الصراع العربي الإسرائيلي.
كما أن طبيعة العلاقات الصينية الاسرائيلية قد تدفع في هذا الاتجاه، حيث يمكن اعتبار هدف الصين المركزي من هذه العلاقة، كما صرح نتنياهو، هو التكنولوجيا، بينما هدف إسرائيل هو تنويع أسواق تصدير بضائعها واستثماراتها الخارجية.