الاتفاق بين بكين وطهران سيتحول إلى واقع وحقيقة تاريخية بحجم حقبة الحرب الباردة
وليد فارس الأمين العام للمجموعة الأطلسية النيابية
مع الإعلان خلال الأسبوع الماضي عن توقيع اتفاق تعاون استراتيجي واقتصادي وأمني بين إيران والصين، لمدة 25 عاماً، انقلبت موازين القوى في الشرق الأوسط، بين ليلة وضحاها، وهذا الانقلاب ولو كان فقط على الورق حتى الآن، فإنه سيتحول إلى واقع تدريجياً، رويداً رويداً، يوماً بعد يوم، شهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة، حتى يصبح حقيقة دامغة تاريخية بحجم حقبة الحرب الباردة، ويطول عمرها كعمر الإمبراطوريات التاريخية. هذا إن لم تتحرك الولايات المتحدة والمنطقة لتواجه نتائج ما حدث.
لنستعرض هذا الاتفاق- الزلزال ونتائجه، وتأثيره على الاتفاق النووي وكيف يمكن التعاطي معه.
الاتفاق الصيني-الإيراني
بعد مرحلة طويلة من المحادثات بين بكين وطهران، لا يعرف أمدها بالضبط أحد، أعلنت وزارتا خارجية البلدين عن توقيع اتفاق تعاون وتنسيق مشترك لربع قرن، شبيه بالاتفاقات بين الاتحاد السوفياتي وكوبا ودول أوروبا الشرقية. اتفاق يشمل قطاعات واسعة، اقتصادية ودفاعية ودبلوماسية، بحسب ما تم إعلانه حتى الآن.
أولاً، تتعهد الصين بشراء كميات هائلة من النفط والغاز الإيراني بحجم يعيد لطهران مستوى في التصدير لم تشهده منذ عقود، وذلك لقاء ثمن منخفض، يوفر احتياطاً واسعاً لبكين، وسيولة كبيرة للنظام الإيراني، وستتحدى الصين الحصار الاقتصادي الأميركي من دون أي تفاوض مع واشنطن.
ثانياً، تقوم الصين باستثمارات في الاقتصاد الإيراني بحوالى 400 مليار دولار لسنوات، أي أكثر من ضعفي حجم صفقة الاتفاق النووي، مما سيربط الاقتصادين بعرى قصوى، تتحدى أي عزل مالي من الغرب، إضافة إلى ربط العملة الإيرانية بالعملة الصينية القوية.
ثالثاً، ستمد الصين شبكة الإنترنت التابعة لها إلى عموم إيران، وتحميها من الاستهدافات السيبرانية، وتساعدها في منع اختراقها.
رابعاً، سيتم تبادل معلومات استخبارية بين الحكومتين حول خصومهما المشتركين في المنطقة وعالمياً، مما يعني حماية إضافية للنظام الإيراني عبر قوة عظمى تتمتع بقدرات واسعة.
خامساً، سيتم تعزيز التنسيق الدبلوماسي بين الطرفين دولياً وفي الأمم المتحدة، مما سيوفر فيتو صينياً مستمراً ضد أي قرار غربي، إضافة إلى الفيتو الروسي. أي عملياً وضع طهران تحت المظلة الدبلوماسية الصينية -الروسية.
سادساً، وربما الأهم استراتيجياً، إقامة تعاون عسكري صيني- إيراني يشمل تصدير أسلحة متطورة إلى إيران، من طائرات حربية تضاهي النماذج الغربية، ودبابات متقدمة وصواريخ وأعتدة وأنظمة إلكترونية حديثة، أضف إلى ذلك تحديث المطارات والقواعد العسكرية الإيرانية والموانئ.
نتائج الاتفاق استراتيجياً
نتائج هكذا معاهدة، وإن كانت لا تزال على الورق، كبيرة جداً على الصعيدين الإقليمي والدولي، فالصين ستنقذ النظام الإيراني مالياً عبر عملية الشراء الواسعة للنفط والغاز، وستوفر سيولة جارفة لطهران التي ستتمكن من تمويل أجهزتها بما فيها الحرس الثوري والباسيج، وبالطبع الميليشيات المرتبطة بإيران من العراق إلى سوريا إلى لبنان فاليمن.
المعاهدة ستكون شبيهة بمعاهدات الدفاع والصداقة السوفياتية إبان الحرب الباردة التي ربطت الكتلة الأوروبية الشرقية وكوبا وفيتنام الشمالية وكوريا الشمالية، وحتى بعض الدول الأفريقية، بموسكو عبر “الكوميكون”، وقد تتحول هذه المعاهدة مع الوقت إلى رابط شبيه بـ “معاهدة وارسو”، والفرق أن العمود الفقري لهذا المحور لن يكون العقيدة السياسية، لانتفائها بين الماركسية والخمينية، بل التلاقي على بقاء هذه الأنظمة المتشددة ومصالحها الاقتصادية.
المعادلة الفعلية للمعاهدة هي الطاقة الرخيصة للصين، في مقابل استمرار النظام الإيراني، وأضف إلى ذلك تمدد نفوذ بكين باتجاه الخليج والمتوسط، وهذا يطرح السؤال الأبعد: ماذا بالنسبة إلى العرب وأميركا؟
التحالف العربي
المعادلة الجديدة، إن تجسدت، تأتي مع تطورين متناقضين. أولاً ستصل القوة العسكرية الصينية إلى إيران، كما وصلت القوة الروسية إلى الأسد في سوريا، وتجعل أي تهديد حربي للنظام أصعب وأعلى كلفة على أي طرف إقليمي ودولي، ومن هنا ستتحرك طهران على أساس أن وراء ظهرها قوة خارقة، أي أيضاً أن ينتشر المستشارون الصينيون في إيران، وفي المرافئ العسكرية ومنصات الصواريخ والقواعد الجوية، وأن تتموضع قوات خاصة صينية في طهران والمدن الأخرى. هذا بالطبع ليس خبراً ساراً لدول التحالف العربي إذا استفادت منه إيران.
ولكن بكين ستكون أسرع مما يعتقده البعض، فهي ستصل إلى إيران على متن المعاهدة، ولكنها ستعرض على دول الخليج عروضاً باهرة للتهدئة والتعاون الاقتصادي، فقد أعلن وزير خارجيتها أن حكومته ستعرض على السعودية ومجلس التعاون سلسلة اتفاقات اقتصادية وتجارية حول النفط والنقل البحري، و”جعل الخليج منطقة آمنة للجميع”، وكأن بكين تقول للجزيرة العربية إنها ستحمي إيران، لكن بإمكانها أن تحمي العرب من طهران أيضاً!
أميركا الخاسرة؟
إذا تحقق ذلك، هل تكون الولايات المتحدة الخاسر الأكبر من التقدم الصيني في المنطقة؟ نظرياً نعم، فإداراتها المتتالية تلهّت في ملفات كثيرة وامتنعت عن حسم ملف الانفلات الإيراني في المنطقة العربية منذ حرب العراق، فاتحة ثغرة هائلة للصين وجزئياً لروسيا، فبعد أن سيطرت على العراق في 2003، فتحت إدارة جورج بوش الابن ثغرة لإيران سمحت لجماعاتها المسلحة أن تنتشر في البلاد، وجاءت إدارة باراك أوباما وفتحت باباً واسعاً لطهران لدخول كل المنطقة عبر الاتفاق النووي، أما إدارة دونالد ترمب فقد وقفت في وجه إيران، لكنها لم تتحرك إلى الأمام بينما الوقت يداهم.
لم تساعد على الحسم في اليمن، ولم تساعد حلفاءها في العراق، وترددت في سوريا، ولم تواجه “حزب الله” في لبنان. هل خططت لذلك في الفترة الرئاسية الثانية؟ ممكن، ولكن التأخير أدى إلى إعطاء الفرص لإيران، بما فيها المعاهدة الجديدة.
الموضوع الآن بين يدي إدارة بايدن، وهي بتقديرنا أخطأت أيضاً في تعاطيها مع الملف الإيراني، فمنذ وصولها إلى البيت الأبيض وهي تعلن أنها راجعة إلى الاتفاق النووي، وتتخلى عن التضامن مع شركائها في ملفاتهم الدقيقة، مثل السعودية والإمارات في اليمن، أو المجتمعات المدنية في العراق ولبنان في مواجهة الميليشيات، مما أقنع طهران بأن إدارة بايدن لن تكون حاسمة مثل إدارة ترمب، فارتمت مع الصين كلياً.
التأخر الأميركي في الشرق الأوسط أدخل بكين إلى المنطقة عبر الأخصام مثل إيران، ولكن أيضاً وربما عبر الأصدقاء، بسبب الأداء الأخير في اليمن، فهل تصحح الإدارة مسارها وهي في سباق مع الوقت، أم أن الصين دخلت المنطقة لتبقى؟