قال أرسطو إن “الدولة جماعة مواطنين عاقلين أحرار لا جماعة مؤمنين”
رفيق خوري كاتب مقالات رأي
ليبيا محكومة من جديد بأن تبدأ من الصفر بعد مسار صعب من السلطة الأبوية، والتيه الأيديولوجي، والصراع الميليشياوي. الملكية الناعمة في ظل آل السنوسي، وتوحيد الأقاليم الثلاثة، برقة وطرابلس وفزان، كانت قصيرة العمر بما لم يسمح بتركيز دولة الاستقلال. و”جماهيرية” معمر القذافي الانقلابية التي دامت أكثر من 40 سنة هدمت ما بناه السنوسيون من أسس الدولة، وتاهت في كل الاتجاهات العربية والأفريقية. تدخلت في كل مكان متاح، وانشغلت بهلوسات القذافي عبر “الكتاب الأخضر”، و”النظرية الثالثة”، من دون أن تبني أي شيء، سوى كتائب عسكرية يقودها أبناء القذافي تحت عنوان جيش، وتحمي سلطة فردية باسم السلطة للجماهير.
بعد ثورة فبراير (شباط)، ومصرع القذافي، أشرفت الأمم المتحدة على خطوات واعدة كشفت عبر الانتخابات عن وجود نخبة ليبية جيدة، ثم انقلب الوضع إلى حرب أهلية وصراع ميليشيات وقبائل وجهات وقوى إقليمية ودولية تدخلت، حيث إن النفط والغاز جائزة كبرى، وتعدد الموفدون الدوليون الذين عينهم الأمين العام للأمم المتحدة، وبينهم اللبنانيان طارق متري وغسان سلامة، لترتيب تسوية شهدت محاولات متعثرة منذ “اتفاق الصخيرات”، حتى حدثت المعجزة أخيراً في جنيف، حيث جرى جمع ممثلين للشعب الليبي انتخبوا مجلساً رئاسياً وحكومة لخلافة مجلس رئاسي فضفاض وحكومة برئاسة فايز السراج في طرابلس وحكومة برئاسة الثني في بنغازي.
ولا حدود للتحديات أمام المجلس الرئاسي الجديد برئاسة محمد المنفي والحكومة برئاسة عبد الحميد الدبيبة. تحديات مرحلة انتقالية حتى خريف العام الحالي لإجراء انتخابات نيابية ورئاسية واستفتاء على دستور جديد، ومسار في حقل ألغام من كل الأنواع، فبين عامي 2011 و2021 جرى القفز فوق الثورة وتبديد الثروة على أيدي ميليشيات وأمراء حرب برعاية جهات وقبائل ودول تدخلت لدعم هذا الطرف، أو ذاك، ومع الانفصال بين بنغازي وطرابلس، لمع نجم مصراتة والزنتان والتبو، ووجد تنظيم “داعش” فرصة لإقامة ملحق لـ”دولة الخلافة” الداعشية في الشرق وسرت قبل إلحاق الهزيمة به، وكانت ميليشيات الإسلام السياسي تمارس السلطة في الشارع في الغرب وتحمي حكومة السراج التي نصبتها المنظمة الدولية. وكان الجيش الذي يقوده المشير خليفة حفتر في الشرق يقاتل الإرهاب ويحمي المجلس النيابي المنتخب برئاسة عقيلة صالح.
وكل ذلك في ظل أدوار إقليمية ودولية على المسرح؛ فتركيا أرسلت قواتها وعدداً كبيراً من المرتزقة الذين عملوا معها في حرب سوريا لدعم السراج، وروسيا أرسلت مرتزقة “فاغنر” لدعم حفتر. تركيا اصطدمت بفرنسا التي اختلفت مع إيطاليا، ولعبت ضد مصر والإمارات العربية، وكانت قطر قريبة منها في دعم الميليشيات المتشددة.
ومن الصعب الحديث عن خريطة طريق جاهزة أمام سلطة انتقالية تتكدس عليها المهام في حقل ألغام، من سحب المرتزقة والقوات الأجنبية إلى ترتيب حل يرضي الميليشيات، ومن معالجة الصراعات الجهوية إلى إجراء مصالحات بين القبائل التي تقاتلت على خلافات قديمة وجديدة، من تنظيم جيش موحد ومحترف ومهني إلى توحيد المؤسسات الحالية على الطريق إلى بناء الدولة، ومن إجراء الانتخابات النيابية والرئاسية والاستفتاء على الدستور إلى تأمين الخدمات للناس من كهرباء وماء وبقية البنية التحتية ومحاربة الهدر والفساد، فضلاً عن الالتفات إلى الاقتصاد لاستعادة الحد الأدنى من النمو وإعادة تنظيم القطاع النفطي، ثم تنويع مصادر الدخل.
وكل ذلك يحتاج إلى مواجهة التحدي الأكبر، وهو بناء مؤسسات دولة ديمقراطية، فالانتخابات “ليست النهاية، بل جزء من العملية الديمقراطية”، كما يقول دانيال هنتر، الاستراتيجي في “حركة الشمس الشارقة”، التي تعمل على أساس أن “الإصلاحات المهمة في أميركا لم تحدث بالانتخابات، بل بقوة الحركات الاجتماعية”، وما كشف عنه ستيفين ليفيتسكي ودانيال زيبلات من جامعة هارفرد في كتاب “كيف تموت الديمقراطيات” هو سهولة هذا الموت، أما بناء الديمقراطية، فإنه عملية صعبة ومعقدة وبطيئة، وخصوصاً في البلدان التي تتحكم بها الولاءات القبلية والطائفية والإثنية. وقديماً قال أرسطو “الدولة جماعة مواطنين عاقلين أحرار لا جماعة مؤمنين”.