صنعه النحات الفرنسي بارتولدي بديلا عن حلمه المصري المجهض
إبراهيم العريس باحث وكاتب
على الرغم من أن التمثال الذي نصبه عند المدخل البحري لمدينة نيويورك يعتبر منذ أكثر من قرن ونصف القرن تقريباً أشهر تمثال على وجه الكرة الأرضية، فإن النحات الفرنسي بارتولدي كان يقول خلال السنوات الأخيرة من حياته إن الشيء الوحيد الذي يحزنه أنه لم يتمكن خلال تلك الحياة من أن يحقق حلمه الأكبر؛ كان الحلم الأكبر لصانع تمثال الحرية أن يقيم تمثالاً في مصر، وبالتحديد عند المدخل الشمالي لقناة السويس التي شقها صديقه ومواطنه فرديناند دي لسبس. لقد سعى بارتولدي سنوات طويلة لتحقيق ذلك المشروع، وهو إذ أخفق في تنفيذه ظل يقول إن المجد الذي حققه له النصب النيويوركي الكبير ظل ناقصاً.
من سرق من؟
صحيح أنه ليس لبارتولدي في تاريخ فن النحت الفرنسي مكانة رودان أو مايول، لكنه مع ذلك أكثر شعبية منهما، وأعماله الكبرى لا تزال تعيش أمام أنظار الملايين، حتى وإن كان من الصعب على هذه الملايين أن تعرف اسم صانعها أو هويته. بل هل يمكن أن يصدق “الجمهور العريض” مثلاً أن تمثال الحرية الذي يعتبر أول ما تطالعه أعين القادمين بحراً إلى الولايات المتحدة عن طريق نيويورك، هو من نحت المهندس الفرنسي فردريك أوغست بارتولدي؟ حسبنا للإجابة عن هذا السؤال أن نذكر بحكاية ذلك الصحافي الأميركي الذي خلال جولة سياحية له في باريس فوجئ بـ”نسخة” من تمثال الحرية نفسه مقامة وسط جسر بوغرينيل في الدائرة السادسة عشرة الباريسية فغضب، وحين عاد إلى بلاده كتب مقالاً عنيفاً يتهم فيه الفرنسيين بسرقة تمثال الحرية! مثل هذا الصحافي ما كان في إمكانه أن يصدق أن تمثال الحرية الضخم الذي يعتبر رمزاً لنيويورك هو في الأصل تمثال فرنسي أهدته فرنسا إلى الشعب الأميركي.
في صف السياسات التقدمية
ولد بارتولدي عام 1834 ورحل عن عالمنا في 1904. وخلال السبعين عاماً التي عاشها، حقق العديد من المشاريع العمرانية والنصب الكبيرة، كما شارك في الحياة السياسية والعسكرية، حيناً في ركاب غاريبالدي وآخر في ركاب غامبيتا، وفي كل الأحوال استوحى بعض أفضل أعماله من تلك المشاركة.
ولئن كان بارتولدي خص الولايات المتحدة الأميركية متطوعاً أول الأمر بواحد من أعظم المنحوتات التي صنعها “تمثال الحرية”، فإنه إنما استوحى الفكرة وصمم المشروع انطلاقاً من إيمانه بالأسس التقدمية والديمقراطية التي قام عليها بلد كان بالنسبة إليه رمزاً للحرية. ويروى أن فكرة التمثال جاءت بارتولدي حين كان يقوم بزيارة نيويورك، وهو مشغول البال بمشروع يريد أن يقدمه لهذا البلد. وما إن وصل إلى آبرباي جنوب مانهاتن، بالقرب من جزيرة “إيليس” التي كان المهاجرون الجدد القادمون إلى الولايات المتحدة يُحجرون فيها أربعين يوماً، حتى استوحى الفكرة، واجتذب لنفسه مناصرين عملوا على توفير الأموال اللازمة لصنع التمثال، الذي يكاد اليوم يعتبر أشهر تمثال في العالم، وإن كان من الصعب اعتبار صاحبه أشهر النحاتين.
مدرسته منحوتات الفراعنة
ذلك أن بارتولدي اعتبر، على الدوام، حرفياً ذا نزعة طبيعية وتضخيمية في أعماله، أكثر من اعتباره فناناً مبدعاً. والحال أن كل الأعمال التي نفذها تنم عن ذلك الأمر. فبارتولدي حين كان يصنع منحوتاته، كان يتعامل معها وكأنها بنى هندسية، متأثراً في ذلك، بما كان تعلمه في مصر التي زارها يافعاً وشاهد بافتنان وذهول منحوتات الفراعنة العملاقة فيها، فقرر أن يصنع منحوتاته منذ ذلك الحين وصاعداً على منوالها. والحال أن المنحوتات المصرية قد أثرت في بارتولدي تأثيراً كبيراً، حيث إنه ظل حتى آخر أيامه يهذي بها ويتساءل عما إذا كان حقاً قد تمكن من أن يفعل ما يضاهيها. ولقد وصل إعجابه بمصر أنه من خلال صداقته مع فرديناند دي لسبس، قرر أن يتبرع بمنحوتة كبيرة تنصب عند مدخل قناة السويس على شكل منارة تهدي القادمين. غير أنه لم يحقق هذا الحلم. وقال مرة، إن تمثال الحرية في نيويورك إنما كان، بالنسبة إليه، البديل المنطقي للحلم المصري المجهض.
أعمال منتشرة
ولكن، إذا كان الحلم المصري قد أجهض، فإن بارتولدي قد عرف كيف يحقق العديد من أحلامه، ابتداء من “نصب الأميرال بروا” (الذي أقيم عام 1863 في مدينة كولمار مسقط رأسه) وصولاً إلى نصب “أسد بلفور” العملاق الذي أقيم عام 1880 في مدينة بلفور. وثمة نسخة مصغرة منه تتوسط الآن ساحة “دنفير روشرو” في باريس.
ومن أعمال بارتولدي المهمة الأخرى تمثال ضخم من البرونز للافاييت أهداه لمدينة نيويورك (1876). وهناك من أعمال بارتولدي ما هو قائم الآن في مقبرة “الأب لاشيز” في باريس، وفي ساحة نوايي قرب باريس، لا سيما نصب “سويسرا تداوي آلام مدينة ستراسبورغ خلال حصار 1870” المقام حالياً في مدينة بال السويسرية، الذي جعل بارتولدي في عام 1895 ينال ميدالية الشرف في صالون النحت لذلك العام. ولقد خلف بارتولدي بعد رحيله عدة أعمال لم تكتمل، استكملها على أي حال، مساعدوه، ومنها بخاصة “نصب الحصارات الثلاثة” ونصب “حصار باريس”.
غمزات سينمائية
وعلى الرغم من هذه الأعمال جميعها، وعشرات غيرها حققها بارتولدي خلال حياته، فإن “تمثال الحرية” الذي ولدت فكرته عام 1871 أي قبل قرن ونصف القرن من الآن تماماً، يظل الأشهر بين أعماله، وليس ذلك فقط، لأنه أعلى تمثال في العالم (حيث يبلغ ارتفاعه أكثر من 46 متراً)، بل لأنه بات، رمزاً يشير إلى أميركا نفسها، ويربطها بمبدأ الحرية. ولعل في إمكاننا هنا أن نستعيد في ذهننا ثلاثة مواقف عبرت عنها السينما في العلاقة الرمزية مع هذا التمثال: ففي فيلم “المهاجر” لتشارلي شابلن يختتم الفيلم على مشهد التمثال وهو منظور إليه من وجهة نظر المهاجرين البائسين الذين يخيل إليهم أن بؤسهم انتهى هنا عند مرأى التمثال فإذا بالبؤس يتجدد. وفي المشهد الأخير أيضاً لفيلم هتشكوك “شمالاً بشمالا بغرب” تدور الأحداث الإجرامية الختامية داخل تجويف التمثال. أما يوسف شاهين، فقد اختار أن يختم فيلمه البديع “إسكندرية ليه؟” بوصوله فتياً بالباخرة إلى نيويورك ليطالع وجه التمثال، وهو يبادره بغمزة قبيحة وشريرة!
إلحاح الحلم المصري
“تمثال الحرية” الذي يزن 225 طناً، الذي صنع من لوحات من النحاس أرسلت بحراً إلى الولايات المتحدة، تولى المهندس الشهير غوستاف إيفل (صانع البرج الباريسي المعروف باسمه) تدعيمه من الداخل بقضبان حديدية عملاقة تجعله قادراً على تحمل أعتى الرياح. وهذا التمثال الذي اعتبر على الدوام رمزاً للصداقة بين الشعبين الفرنسي والأميركي، كان الرئيس الأميركي كليفلاند هو الذي افتتحه بنفسه 2 أكتوبر (تشرين الأول) 1886، في حضور بارتولدي وصديقه فرديناند دي لسبس. يومها قال بارتولدي إنه حقق حلم حياته، ولم يعد يهمه أن ينتج أي شيء بعد ذلك. صحيح أنه أنتج كثيراً بعده، لكن أياً من أعماله لم يرقَ لا إلى جمال ولا إلى شهرة تمثال الحرية.
ومع ذلك، يروى عن هذا الفنان أنه ظل طوال السنوات الباقية من حياته يبدي أسفه على أن الظروف المصرية لم تتح له تلك الفرصة التاريخية الرائعة المتعلقة بمشروع إقامة نصب تخليد شق قناة السويس كبديل كما كان يقول عن تلك الأعجوبة التي كانت تتمثل في تمثال بحر الإسكندرية الذي يحسب واحدة من عجائب الدنيا السبع. وكان يقول إنه كان سيجعل منه أعجوبة الأزمنة الحديثة لو أقامه، إنما من دون أن يعرف أحد أي شيء عن تفاصيل الفكرة. وبقي أن نذكر، أخيراً، أن منظمة اليونيسكو أعلنت في عام 1984 اعتبار تمثال الحرية جزءاً أساسياً من التراث العالمي.