سويسرا فتحت الملف اللبناني لكن المسيرة طويلة وشروطها غير متوافرة
طوني فرنسيس إعلامي وكاتب ومحلل سياسي لبناني
افتتح القضاء السويسري نهاية العام الماضي مساراً قضائياً انتظره اللبنانيون طويلاً وطالبوا به مراراً، ويتعلق بالتحقيق في الأموال المنهوبة التي يتهمون بها مسؤولين ورجال أعمال أودعوها في المصارف السويسرية وغيرها من البنوك الدولية، وأهمية هذا المسار تكمن من جهة أولى في أن القضاء السويسري وضع يده على طرف خيط، يبدأ بتحويلات حاكم المصرف المركزي، فأجرى مراسلة مع النائب العام التمييزي الذي استمع إلى الحاكم، ومن جهة ثانية، أن الخطوة السويسرية تزامنت مع تحركات من جانب الاتحاد الأوروبي ووزارة الخزانة الأميركية تستهدف تتبّع الثروات التي حققها مسؤولون وأنصارهم ويشتبه في ارتباطها بقضايا فساد ومخدرات وتبييض أموال .
الرقم الأولي للأموال الذي قيل إن السلطات السويسرية تحقق به، يبلغ حوالى 400 مليون دولار، لكن المتداول يتجاوز هذا المبلغ بكثير. ففي نهاية عام 2019، جرى الحديث عن تهريب أكثر من ستة مليارات دولار من الودائع في المصارف اللبنانية لمصلحة قلة من السياسيين والمتنفذين، وهذا التهريب ليس إلا رأس جبل الجليد، فالمتنفذون في لبنان، من مستغلي السلطة، أودعوا ما مجموعه مليارات الدولارات في سويسرا وغيرها طوال سنوات الحروب الداخلية، وبعدها خلال مرحلة اقتسام السلطة منذ التسعينيات، وبعض المصادر تقدّر ثروات هؤلاء بنحو 200 مليار، وهي كافية لجعل لبنان يتخلص من ديونه وينطلق مجدداً في بناء اقتصاده وازدهاره.
غير أن الأمر ليس بهذه البساطة، واستعادة المليارات دونها قيود سويسرية تجعل مسارها طويلاً، وشروط ينبغي توافرها في لبنان، لجهة قيام حكومة ثقة قادرة على اتخاذ القرارات الملائمة، وفي موازاتها سلطة قضائية متحررة من سطوة السياسيين والقوى النافذة.
ومرّ التعامل السويسري مع الودائع الأجنبية في بنوكها بمسيرة معقدة لم تكتمل حتى الآن، وخلال هذه المسيرة طوّرت قوانينها، وأصدرت عام 2016 قانون “تجميد وإعادة الأصول غير المشروعة” العائدة إلى أشخاص أجانب معارضين سياسياً، إلا أنها قبل صدور القانون، كانت الأحداث تسبقها وتفرض عليها اتخاذ تدابير لم تعتَدها من قبل.
لم تستجِب سويسرا، مثلاً، لطلب سلطات إيران بعد الإطاحة بالشاه تسليمها أصوله وودائعه في مصارفها، كان ذلك موقفها المستند إلى السرية المصرفية التي تميزت بها وجعلتها ملاذاً لشتى أنواع الودائع والتعاملات، إلا أن هذا الموقف سيتغير مع التحولات الطارئة في العالم منتصف الثمانينيات، عندما بدأت أنظمة تترنح ودول تتغير وانفرط عقد الإمبراطورية السوفياتية، وهرب من هرب بثرواته، ونجا من نجا بإقامة سلطة في جمهورية ناشئة، واهتزت الأرض في الوقت عينه تحت أقدام حكام متسلطين، وانتشرت الأخبار عن أموال المخدرات وبيع السلاح والتبييض.
كان سقوط ديكتاتور الفيليبين فرناندو ماركوس وعقيلته إيميلدا، المعروفة بسيدة الأحذية الباهظة الثمن بعد حكم استمر 20 عاماً، فاتحة سلوك جديد للسلطات السويسرية، التي استجابت للمطالبات باستعادة الأموال التي نهبها حكام فاسدون وأتباع لهم في حاشية السلطة، ومنذ فتح ملف ماركوس عام 1986، أعادت سويسرا أموالاً بمئات ملايين الدولارات إلى بلدان وقعت ضحية حكامها، وشملت اللائحة 92 مليون دولار إلى البيرو من حساب مدير استخباراتها السابق مونتيسينوس (2002)، الذي بيعت ساعته المطعمة بالذهب والماس بسعر خيالي في مزاد أممي، و684 مليون دولار من ودائع ماركوس إلى الفيليبين (2003)، و700 مليون دولار إلى نيجيريا من أموال حوّلها رئيسها السابق أباشا (2005)، و115 مليون دولار أعيدت إلى كازاخستان (2007)، و74 مليوناً إلى المكسيك من أموال شقيق الرئيس السابق كارلوس ساليناس (2008)، و48 مليوناً إلى كازاخستان (2012)، و43 مليوناً إلى أنغولا في قضية دوس سانتوس (2012)، و5.7 مليون دولار إلى هاييتي من ودائع الديكتاتور السابق دوفالييه (2015)….
حتى مارس (آذار) 2018، كانت سويسرا قد أعادت أكثر من ملياري دولار من الأصول المنهوبة المودعة في مصارفها، وآخرها مبلغ 321 مليون دولار إلى حساب الحكومة النيجيرية سيتم صرفها بإشراف البنك الدولي وبمشاركة ممثلين عن منظمات المجتمع المدني النيجيري، ولا تزال عشرات المليارات المطلوبة نتيجة تحولات “الربيع العربي” قيد المعالجة، منها أموال بن علي في تونس، وأموال القذافي وعائلته التي قد يفوق حجمها حجم الـ70 ملياراً العائدة إلى صندوق الثروة السيادي الليبي المحتجزة بدورها.
كانت المعضلة التي واجهت الاستجابة السويسرية لمطلب إعادة الأموال المنهوبة تتمثّل في مستويات عدة:
المستوى الأول قضائي داخلي، وقد عمل المشرعون السويسريون على سدّ هذه الثغرة بإصدار قوانين جديدة.
المستوى الثاني يتعلق بوجود حكومات يمكن التعامل معها في البلدان المتضررة، وهذا يعني استطراداً وجود سلطات قضائية مستقلة ومستعدة للتعاون، وقد أثبتت التجارب أن وجود حكومة فاسدة يعني قضاء فاسداً، وفي هذه الحالة سيستحيل اتخاذ الترتيبات الملائمة لإعادة الأصول المنهوبة.
المستوى الثالث، الاطمئنان إلى مصير الأموال المستعادة، وفي الحالة اللبنانية، فإن وضع مالكي المصارف يدهم على مدخرات المودعين هو جزء أساسي من المشكلة، والأموال المستعادة ستكون في جزء منها أموال مواطنين عاديين تعرّضوا للنهب على يد مصارفهم وقادتهم السياسيين وحاشيات هؤلاء القادة، وهذا سيستوجب ترتيبات إضافية غير تلك التي اعتُمدت مع بلدان أخرى.
أعادت سويسرا 700 مليون دولار إلى نيجيريا من أموال أباشا، وتلقت تلك البلاد 140 مليوناً في الوقت ذاته من ليشتنشتاين، لكن تلك المبالغ ضاعت في ماكينة الفساد الحكومي النيجيري، وتعلمت سويسرا الدرس.
فعند تقديمها الدفعة الثانية، اشترطت معرفة أين ستذهب الأموال، وسعت إلى اتفاق “تاريخي” لجهة مستوى الرصد والتتبّع وإشراك المجتمع المدني واستخدام التكنولوجيا الجديدة للتحويلات النقدية، وحدد الاتفاق هوية المستفيدين، مشترطاً ألا تنفق الأموال على غير المشاريع المتفق عليها.
واستوجب ذلك الانخراط في تجربة جديدة أطرافها الثلاثة، الحكومة النيجيرية، ومنظمات المجتمع المدني، والبنك الدولي، والأطراف كلها هي الآن تحت مجهر المراقبة بما في ذلك خصوصاً البنك الدولي.
يصعب تصوّر أشكال أخرى لاستعادة ما يراه اللبنانيون أموالهم المنهوبة، ويتضح من التجارب حجم الحاجة إلى المتابعة الحثيثة من جانب هيئات المجتمع المدني اللبناني كي لا تذهب القضية إلى التجاهل والنسيان، وترابط هذه المتابعة مع مواصلة المعركة من أجل حكومة إنقاذ وقضاء مستقل، لأنه من دون توفر أعمدة الضغط الثلاثة هذه، ستكون عملية تحصيل الحقوق بطيئة ومحبطة.
لقد جمدت سويسرا في 2011 أموالاً تعود لقادة عرب بعد انطلاق الثورات ضدهم، وحتى اليوم، أعيد جزء إلى تونس وآخر إلى مصر، إلا أن الثابت استحالة فرار المعنيين من الرقابة والمتابعة. تغيرت القوانين السويسرية كثيراً منذ 1986، إلا أن السؤال المطروح يبقى: كيف تُعاد الأموال غير النظيفة بوسائل نظيفة… وفي أسرع وقت؟
اندبندنت
المقال تعبر عن راي كاتبها