منصف المرزوقي
سُئل أحد الحكماء: ما الذي يجب على الإنسان تركه وراءه قبل الرحيل عن الدنيا؟ قال ثلاثا؛ ذرية صالحة، وأعمال نفع بها الناس، وخبرة نقلها للأجيال القادمة.
لم يبق لي إلا نقل الخبرة التي اكتسبتها معارضا وحاكما، للأجيال القادمة، وبهذا أكون قد أتممت مهمتي في هذه الحياة.
لقائل أن يقول، وأي خبرة لديك تبغي نقلها والثورة السلمية الديمقراطية التي دافعت عنها طول عمرك تتعثر، ثم بماذا تريد أن تنصح الشباب الطموح للريادة وأنت من خسر الانتخابات الرئاسية مرتين؟
الرد أن الثورة الديمقراطية السلمية لم تفشل؛ بل إن الثورة المضادة المجرمة التي اعترضت مسارها هي التي فشلت، والأيام بيننا.
ما القاسم المشترك بين المصري عبد الفتاح السيسي والسعودي محمد بن سلمان والإماراتي محمد بن زايد والليبي خليفة حفتر، من جهة… والأميركي روبرت إدوارد لي والفرنسي راؤول سالان والإنجليزي المتمرّد يان سميث والجنوب إفريقي هندريك فرنش فروورد، من جهة أخرى؟
صحيح أنني خسرت الانتخابات لصالح من خدموا الطغيان، ومن لم يحركوا إصبعا ضده. إنه فشل أتحمل وحدي مسؤوليته؛ لكنه على مرارته غني بدروس وعبَر نفعتني، وقد تنفع غيري، وعلى كل حال عزائي مقولة الملك الفرنسي فرانسوا الأول بعد هزيمته في معركة بافي سنة 1525 فَقَدنا كل شيء إلا الشرف.
ليسمح لي في بداية هذه الحلقات التي تطمح لنقل خبرة نصف قرن من النجاح والفشل، وضع هذه الخبرة في إطار نظرة للتاريخ تشكّل زبدة ما تعلّمت من كل الصراعات الفكرية والسياسية التي خضتها طوال حياتي، واختزلتها في 4 قناعات هي دعامات كل أفعالي وأقوالي.
1- ما القاسم المشترك بين المصري عبد الفتاح السيسي والسعودي محمد بن سلمان والإماراتي محمد بن زايد والليبي خليفة حفتر، من جهة… والأميركي روبرت إدوارد لي والفرنسي راؤول سالان والإنجليزي المتمرّد يان سميث والجنوب إفريقي هندريك فرنش فروورد، من جهة أخرى؟
لنأخذ الأربعة الأواخر واحدا واحدا، وستتضح بسرعة القرابة العضوية مع الأربعة الأوائل.
الأمريكي روبرت إدوارد لي هو الجنرال الذي قاد -خلال الحرب الأهلية الأميركية- جيوش الولايات الجنوبية، التي تمردت على قرار إلغاء العبودية في أميركا سنة 1863، وهو الذي سلم في النهاية بالهزيمة، واستسلم سنة 1865.. لا هذا العسكري الهمام ولا الساسة الذين كان يخدمهم فطنوا للعدد الهائل من الدول التي كانت -ابتداء من نهاية القرن 18- تُلغي العبودية، الواحدة تلو الأخرى، ومن بينها تونس سنة 1846. كان الرجل ومَن معه يجدفون ضد تيار التاريخ فجرفهم.اعلان
الفرنسي راؤول سالان هو الجنرال الذي قاد سنة 1961 -إلى جانب 3 جنرالات آخرين هم موريس شال وإدموند جوهو وأندري زيلر- محاولة انقلاب ضد رئيس فرنسا آنذاك الجنرال ديغول، بعد أن استسلم لحكم التاريخ، وقرّر القبول باستقلال الجزائر. خلافا لهذا الرجل العظيم، لم يتفطن قائد التمرد العبثي للعدد الهائل من البلدان الأفريقية، التي كانت تحصل على استقلالها الواحدة بعد الأخرى منذ نهاية الحرب، وأن الاستعمار المباشر إلى زوال حتمي. انتهى الرجل ومن معه في السجون والمنافي؛ لأنه كان -بمَن معه- يجدف ضد تيار التاريخ فجرفهم.
الإنجليزي المتمرد إيان سميث هو الذي أعلن “استقلال” بلد أفريقي محتل تحت اسم روديسيا سنة 1970 مخطئا التوقيت بقرن كامل، لاعتقاده أن بوسع أقلية أوروبية في منتصف القرن 20 تكرار الاستيلاء على قارات بأكملها، تَبني لها فيها دولا كما فعلت في كندا وأميركا ونيوزيلندا وأستراليا. فشلت المقامرة المجنونة واستقلت دولة زمبابوي على أنقاض حلمه الطائش، ومات في منفاه بجنوب أفريقيا، كان الرجل -ومن معه- يجدف ضد التاريخ فجرفه التيار.
أخيرا وليس آخرا، الجنوب أفريقي فروورد مهندس الميز العنصري في جنوب أفريقيا طيلة فترة حكمه (1950-1958). هو الآخر لم يتفطن لموجة تحرر الشعوب وأفول الاستعمار والعنصرية، فحاول بناء جمهورية بيضاء انهارت في بداية التسعينيات مثلما انهار هو مقتولا سنة 1966، هو أيضا حاول التصدي لتيار التاريخ فجرفه.
لنلخص: الجنرال لي لم يتفطن أن مرحلة العبودية التي دامت آلاف السنين انتهت، والجنرال سالان لم ينتبه إلى أن مرحلة استعباد الشعوب التي دامت 4 قرون الأخيرة انتهت… والمغامر الإنجليزي لم ينتبه إلى أن إعلان المستعمرات استقلالها عن الوطن الأم سيناريو لم يعد قابلا للتحقيق… أما ساكن قصر الرئاسة في بريتوريا، فلم ينتبه لنهاية النظم العنصرية، وأن من سيسكن القصر مكانه ويبجله العالم أجمع، رجل تسامى عن كل تفكير عنصري اسمه ماندلا.
والآن يمكننا العودة إلى الرباعي العربي الذي سميته محور الشر.
لا أحد منهم واعٍ بأن النظام الاستبدادي مات في العقول والقلوب، وأن موجة الديمقراطية التي اجتاحت العالم بأسره غمرت أيضا العالم العربي وستواصل، وأنه من العبث التصدي لموجة بحجم تسونامي.
لا أحد منتبه لكوننا دخلنا المرحلة النهائية لتفكيك كل نظام مبني على تسلط الزعيم المفدى، واقتسام الثروة والسلطة والاعتبار داخل الدائرة العائلية والقبلية والطائفية، وحكم شعب من الرعايا بالإعلام السفيه والمخابرات المرعبة والأداء الضعيف والوعود الكاذبة.
يمكن قراءة التاريخ البشري كقصة من 3 فصول تروي تطور الصراع لتصفية الاستعباد ثم الاستعمار فالاستبداد، حتى تنتهي العلاقة التي جعلت (لظروف اقتصادية اجتماعية تكنولوجية قاهرة) الإنسان.. أثمن صيد للإنسان
لأن نفس الأخطاء تلقى نفس العقاب، فإن مستقبل محور الشر -وخاصة الممانِع الأكبر- محسوم طال الزمان أو قصر، كما كان محسوما مصير الرباعي الغربي، إذ لا قدرة لأحد على إيقاف مسار تاريخ محركه تنامي وعي الملايين بكرامتهم، وبقدرتهم المتصاعدة على الدفاع عن مصالحهم المشروعة.
لقائل أن يقول، انظر لما فعله السيسي وكيف عطل هذا المسار الذي تتحدث عنه ونجح حتى في إرجاع عقارب الساعة 50 سنة إلى الوراء. نعم، حتى نابليون انقلب على الثورة وأعاد العبودية سنة 1804؛ لكنه عضّ التراب بعد 10 سنوات في واترلو، وتحرر العبيد في كل مكان وأعلنت الجمهورية، ولو في سنة 1870، بينما مات الرجل مهزوما منفيا في جزيرة نائية وسط المحيط الأطلسي سنة 1821.
باختصار شديد: يمكن قراءة التاريخ البشري كقصة من 3 فصول تروي تطور الصراع لتصفية الاستعباد ثم الاستعمار فالاستبداد، حتى تنتهي العلاقة التي جعلت (لظروف اقتصادية اجتماعية تكنولوجية قاهرة) الإنسان.. أثمن صيد للإنسان.
أخذت تصفية الاستعباد آلاف السنين بينما لم تكلف تصفية الاستعمار إلا 4 قرون؛ أما تصفية الاستبداد فتُحسب بالعقود لا بالقرون.. مما يدل على تصاعد سرعة وقوة عملية التعديل للمظالم التاريخية والخيارات الخاطئة والتوازنات الهشة، التي انطلقت بها ملحمة الإنسانية.
الدرس الأول: التاريخ -مثل النهر-له اتجاه واحد، والويل لمن يسبح ضد تياره. استمع لهمسه، كن جزءا من زخمه، انخرط في مساره، وإلا جرفك مثلما يجرف التيار العاتي سدا من القش.
2- تفحّص وضعَ أوروبا والعالم ما بين 1900 و1945؛ ماذا سترى؟ الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وجائحة الإنفلونزا الإسبانية (1918-1919)، والأزمة الاقتصادية الكبرى سنة 1929، ثم الحرب العالمية الثانية (1939-1945).
تصور حجم الخراب في أوروبا وما عانته من بطالة وركود وفقر وهجرة مكثفة، ومرض وموت عشرات الملايين، ومدن مدمَّرة عن آخرها، ناهيك عن السقوط الأخلاقي المدوي، وأوروبا المتحضرة تكتشف في المحتشدات النازية ما تقدر عليه من فظاعات تجاوزت ما وصلت إليه في ممارسة الرق والاستعمار.
والآن انظر لما وراء ستار اللهب وتخيل ما كان يجري بصمت وراء دوي القنابل وانهيار الدول والمدن والقيم.
في تلك الفترة المظلمة كانت تتحرك خارج الأضواء حفنة من الشبان يدعون بول ديراك، ألبرت آينشتاين، نيلس بوهر، أدوين هوبل، آلان تورنج ، روبرت غودارد، فرنر فون بارون، كانوا كلهم بصدد الإعداد لأكبر طفرة علمية في تاريخ البشرية، مهدت لرؤيا جديدة للعالم وللثورة التكنولوجية التي أعطتنا الذرة ورحلات الفضاء والحاسوب وجل معالم الحضارة التي نعيش اليوم في كنفها.
أضف لهذا عمل “نكرات” أسماؤهم روبرت شومان، جان موني، كونراد أدناور، كانوا بصدد الحلم باتحاد أوروبي سيصبح يوما واقع 500 مليون أوروبي.
في هذه الأثناء، كان هناك آخرون -لم يسمع بهم أحد- يخططون لعالَم اليوم، أسماؤهم موهنداس غاندي، جواهر لال نهرو، جمال عبد الناصر، كوامي نكروما، نلسن ماندلا، أحمد بن بلة، هُو شِي مِنه، ماو تسي تونغ.
ند وصول مآسي التاريخ ذروتها، وما يبدو أنه فشل نهائي لمشروعه التحرري الجبار، لا تنخدع بحجم الدمار والخراب وصولة ملك الموت. وراء كل هذا الألم قوى جبارة تتأهب لبناء -على أنقاض الخراب- ما هو أجمل وأرقى وأطول عمرا، لن تنتظرك هذه القوى إن بقيت تبكي على الأطلال؛ لكنها ستقوى بوجودك بين جنودها.
والآن عد للخراب المتفاقم في سوريا وليبيا واليمن والصومال ولبنان، ولكل ما نعانيه في كامل الوطن العربي. لا تتوقف -رغم قسوة ومرارة المشاهد- عند لهب الحرائق وصراخ ضحايا البراميل وعويل الثكالى وحشرجة الأطفال الجوعى. أنت لا ترى قوى الخلق والتعافي التي تعمل في صمت، كما كان الحال في أوروبا خلال النصف الأول من القرن. تذكر أنك عندما ترى الدم يسيل من جريح وتسمع صراخه، لا ترى التفاعلات الكيميائية المتسارعة التي يجندها الجسم لوقف تدفق الدم، كما لا تسمع تجند خلايا المناعة التي تحاصر فيروسا يصك أذنيك سعال المصاب به.
مما يعني أن وراء الخراب الحالي -الضروري للانتهاء من أنظمة ودول وأيديولوجيات وأشخاص لم يعودوا صالحين إلا للمستودعات- بدائل تَختمر في العقول وفي القلوب؛ لتجعل الأحلام واقعا والمستقبل فضاء مفتوحا أمام كل الآمال والأعمال.
الدرس الثاني: عند وصول مآسي التاريخ ذروتها، وما يبدو أنه فشل نهائي لمشروعه التحرري الجبار، لا تنخدع بحجم الدمار والخراب وصولة ملك الموت. وراء كل هذا الألم قوى جبارة تتأهب لبناء -على أنقاض الخراب- ما هو أجمل وأرقى وأطول عمرا، لن تنتظرك هذه القوى إن بقيت تبكي على الأطلال؛ لكنها ستقوى بوجودك بين جنودها.
3- مفهومنا للأزمة مختل؛ بل هو جزء أساسي من معاناتنا منها.
هو في هذا الفهم “المأزوم” حالة سلبية يجب المسارعة للتخلص منها بكل الوسائل، ومنها إنكار وجودها.
هو أيضا مرحلة مزعجة لكنها عابرة تأتي مثل الزلزال وتذهب، لتعود الأرض إلى سكونها الطويل المألوف.
يجرب كل سياسي أن لا ينتهي من أزمة إلا ليدخل في أخرى، وهكذا دون توقف، لينتهي به الأمر -طال الزمان أو قصر- إلى القبول بأن الأزمة حالة قارة، لا عابرة.
لماذا؟ لأنها الحالة التي ترتطم فيها قوى الدمار بقوى الخلق، لأنها الوسيلة التي تمكن التاريخ من مواصلة تدمير ما ثبت فساده، وإنجاب ما حان وقت ولادته.
معنى هذا أن عدد وقوة الأزمات في أي مجتمع، إنما يعكس حيوية التاريخ وإصراره على تخطي كل العقبات، وفتح طريق جديد أمامه.
الدرس الثالث: الأزمة هي أداة التاريخ، بها يهدم القديم ويبني الجديد. اقبل بها إذن، باركها ولا تلعنها، انخرط فيها ولا تهرب منها، اعتبرها -مهما كانت تكلفتها- فرصة لا مصيبة.
في الواقع البشرية ساحة تجارب لا تنتهي؛ تجارب على البشرية نفسها وعلى محيطها. والتاريخ -كمضمون- هو ديوان كل هذه التجارب، وكحركة هو كل ما نعرف وما لا نعرف من محاولا الماضي والحاضر والمستقبل لتحقيق المشاريع والأحلام، التي لا تتوقف داخل عقول وقلوب الأجيال المتتابعة.
4- التاريخ ليس نهرا هادئا وقورا، ينساب ببطء من منبعه إلى مصبه وفق خط مرسوم إلى الأبد؛ إنما هو تدفق مياه هوجاء تبحث باستمرار وعناد متواصل عن أقصر طريق للبحر، مجبرة هنا على حفر طريقها في أصلب الصخر، وهناك على تغيير وجهتها مرحليا وفقا لمتطلبات الجغرافيا وضروريات المناخ.
بنفس الكيفية ترى التاريخ بحثا متواصلا عن أقصر طريق لتحقيق أهدافه؛ لذلك تراه يجرب هذه التكنولوجيا أو تلك، هذا الدين أو ذاك، هذه الأيديولوجيا أو نقيضها، هذا النظام السياسي أو عكسه تماما. في الواقع البشرية ساحة تجارب لا تنتهي؛ تجارب على البشرية نفسها وعلى محيطها. والتاريخ -كمضمون- هو ديوان كل هذه التجارب، وكحركة هو كل ما نعرف وما لا نعرف من محاولات الماضي والحاضر والمستقبل لتحقيق المشاريع والأحلام، التي لا تتوقف داخل عقول وقلوب الأجيال المتتابعة.
الدرس الرابع: التاريخ بحث -لا تعرف له بداية أو نهاية- لمشاكل الإنسانية، الروحية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
كن جزءا من الباحثين واترك الحلول السحرية والوصفات “النهائية” لمن يرهبون طول الطريق وصعوبته.
على واجهة الأكاديمية، المدرسة الفلسفية التي أسسها أفلاطون سنة 387 قبل المسيح، كُتب تنبيه “لا أحد يدخل هذا المكان إن كان غير عليم بالرياضيات”.
يجب أن نضع على واجهة القصور الرئاسية والملكية والبرلمانات، وكل الأماكن التي تمارس فيها أي سلطة هذا التنبيه “لا أحد يدخل هذا المكان إن كان غير عليم بالتاريخ”.
وضعنا إذن القواعد الكبرى التي ستضمن لنا -على الأقل- بُعد وصفاء الرؤية وأيضا بعض المناعة ضدّ نفاد الصبر وسرعة الإحباط وطول فترات اليأس، يمكننا الآن استعراض المسائل الست التي يجب أن يعمل عليها أصحاب القرار، مواصلين سعيَ التاريخ لما هو أرقى وأجمل وأكثر إنسانية من الوضع الذي وصلته التجربة الجماعية إلى حد الآن.
هذه المسائل هي: المسألة الفكرية (في ظل تراجع كل الأيديولوجيات)، المسألة الأخلاقية (في ظل فشل مشروع “إنما الأمم الأخلاق”)، المسألة السياسية (في ظل التأرجح المتواصل بين الاستبداد الفاسد والديمقراطية الفاسدة)، المسألة البيئية (في ظل الثمن المخيف الذي ستدفعه منطقتنا للتحول المناخي)، المسألة الاقتصادية (في ظل انتهاء وهم النمو اللامتناهي)، المسألة التكنولوجية (في ظل ظهور الذكاء الاصطناعي وتمَلّك 4 شركات خصوصية كل مقومات السلطة الفعلية والاستبداد المقبل).
وللحديث بقية.