ما الأمل؟ ما العمل؟ (2-7) | المسألة الفكرية


منصف المرزوقي

بالعودة إلى الأيديولوجيات التي تتزاحم حاليا على سوق العقول والقلوب ومن ثمة على السلطة السياسية، يمكن وصف وضعها كالتالي:

  • وفرة العرض (الليبرالية، الديمقراطية، حقوق الإنسان، القومية، الإسلام السياسي).
  • النزيف المتفاقم من المصداقية، والواقع يسفّه كل يوم الكثير من وعودها.
  • الفوضى الفكرية المتفاقمة، والشروخ المجتمعية المتوسعة باستمرار الناجمة عن صراعها.

إنها ظاهرة قديمة وصفها ابن المقفع منذ أكثر من 1200 سنة في كتابه كليلة ودمنة (باب برزويه الطبيب):

“وكلهم يزعم أنه على صواب وهدى، وأن من خالفه على خطأ وضلالة، والاختلاف بينهم كثير في أمر الخالق والخلق، ومبدأ الأمر ومنتهاه، وما سوى ذلك، وكل على كل زار، وله عدو، وعليه عاتب، فرأيت أن أنظر في علم كل ملة، وأناظرهم وأنظر فيما يصفون لعلي أعرف بذلك الحق من الباطل، فأختاره، وألزمه على ثقة ويقين غير مصدق بما لا أعرف، ولأتابع ما لا يبلغه عقلي. ففعلت ذلك، وسألت، ونظرت، فلم أجد أحدا من الأوائل يزيد عن مدح دينه وذم ما يخالفه من الأديان، فاستبان لي أنهم بالهوى يستجيبون، ولا يتكلمون بالعدل، ولم أجد عند أحد منهم صفة تكون عدلا، ويعرفها ذو العقل ويرضى بها. فلما رأيت ذلك لم أجد إلى متابعة أحد منهم سبيلا”.

لقد استشهدت بهذا النص منذ أكثر من 30 سنة في كتابي “في سجن العقل” (على الموقع)، واستعملته في أكثر من مقال؛ لكنني أعود إليه اليوم بغير الإعجاب الكبير، الذي تعاملت به معه في البداية، وأنا أكتشف أن ابن المقفع نظر للأديان بعين السخط، التي لا تبدي إلا المساوئ، وأنه مرّ مرور الكرام أمام الإشكاليات الحقيقية التي تطرحها الظاهرة.

أليست أكبر خصائص التاريخ تجريبه المتواصل للأديان وراء الأديان، للمدارس العلمية والفلسفية والأدبية الواحدة تلو الأخرى، لكل ما تتفتق عنه العبقرية البشرية من أنواع التكنولوجيا، لمختلف النظم السياسية؟

هو لم ينتبه لكون تضارب وتصارع “خرائط الطريق” ليس الدليل على خطأ الجميع، وإنما على تعددية المجتمع والطرق الممكنة للوصول لنفس الأهداف، خاصة على حيوية الفكر الذي لا يتوقف أبدا عن استكشاف الجديد والطريف والأكثر نجاعة.

لنذكّر أن المجتمع، هذا الكائن الحي الذكي العابر للأجيال، الذي يحركه عقل جماعي جبار، لا يضع أبدا كل بيضه في نفس السلة؛ لذلك تراه يفرض وجود الملاحدة بجانب المؤمنين، يخلق المجددين أين يسود المحافظون ويخلق المحافظين أين يسود المجدّدون. انظر كيف تعمل هذه الحيوية حتى داخل العقيدة الواحدة، فتعطيك الإسلام الشيعي والسني في الإسلام والكاثوليكية والبروتستانتية في المسيحية مع تفرعات ثانوية داخل كل تفرع أصلي.

أليست أكبر خصائص التاريخ تجريبه المتواصل للأديان وراء الأديان، للمدارس العلمية والفلسفية والأدبية الواحدة تلو الأخرى، لكل ما تتفتق عنه العبقرية البشرية من أنواع التكنولوجيا، لمختلف النظم السياسية؟

في هذه الحالة هل ثمة دروس نستخلصها من تجاربه الأيديولوجية يمكن أن تعيننا نحن -أو على الأقل الأجيال المقبلة- على إنتاج أرقى وأكثر فعالية؟اعلان

(2)

كل أيديولوجيا مبنية على 3 أسس: مشاعر جياشة (الشوق للمساواة وللحرية، ويحركه الغضب لغياب المنشود)، وأفكار واضحة وبسيطة تحدد الأهداف لتعديل الوضع المرفوض، وأعمال في خدمة هذه الأفكار تجعلها واقعا معاشا.

الأفكار إذن هي حلقة الوصل بين التفاعل مع وضع معين والفعل لتغييره. بديهي أنه إذا كان هناك خلل ما فيها، فإن كل ما سيبنى عليها سيكون هشّا بلا جدوى أو قد يؤدي إلى عكس المنشود.

بعض الأمثلة على سبيل العدّ لأهمّ أنواع القصور الفكري في الأيديولوجيات المعاصرة.

الجهل بالتعقيد والترابط

تروي أسطورة هندية أن 5 عميان تحلقوا حول فيل يتبادلون الرأي حول طبيعة الشيء الذي يتلمسون. قال الأول خرطوم، وقال الثاني بل ناب طويل، وقال الثالث كأني به أذن ضخمة، وقال الرابع بل عمود ضخم، وقال الخامس كلكم مخطئون إنه ذنب يتحرك. كذلك الأمر مع الأيديولوجيات، وكل واحدة لا ترى أمام مجتمع معقّد إلا جزءا من إشكالياته الضخمة. هكذا يرى من يختزل كل مصاعبنا في المسألة العقدية أو في غياب الديمقراطية أو في النموذج الاقتصادي أو في امتهان حقوق الإنسان أو مسؤولية الصهيونية والإمبريالية.

عندما تفتح العينين على أقصاهما ترى أن كل هذه المشاكل مترابطة أوثق الترابط، ومن العبث الفصل بينها وحتى ترتيبها أو تقديم بعضها على البعض، أضف لهذا أنك ترى فجأة أن “الفيل” النظري، الذي فككته النظرة الأيديولوجية مهدّد بأخطر سبع يترصد به، وهو تغيير متسارع للمحيط، الذي يجعل كل ما يقال بخصوصه لغوا، ليفقد كل صلة بالواقع .

الطوباوية وتجاهل ازدواجية الطبيعة البشرية

لقد أظهرت تجربة 3 قرون الخلل الأصلي في الفكرة الأساسية، التي انطلقت منها خارطة الطريق الليبرالية. صحيح أن الانسان المتحرّر من كل قيود الدولة الاستبدادية في عصور الملكية المطلقة في أوروبا، قادر على إنتاج الثروة ألف مرة أحسن من الإنسان المكبل بكل القيود المرئية وغير المرئية. نعم، لقد ولّدت فكرة “اتركوا الناس يبادرون في كل الميادين خاصة في الإنتاج والتجارة” أكبر ثورة اقتصادية في التاريخ مخرجة من الفقر مئات الملايين من البشر؛ لكنها أدت أيضا إلى تخريب الكوكب باستغلال فاحش وغير عقلاني لثرواته الطبيعية، وهي اليوم بما تتسبب فيه بلا رادع أكبر خطر على البشرية. حدث ولا تسل عن دور البنوك الفاسدة في إفقار الملايين، والتسبب في كوارث مصرفية كالتي حدثت سنة 1929 و2008، أو مسؤولية الشركات الكبرى المتحررة من كل قيد، التي تتربح من الموت بتجارة السلاح، ومن المرض بالصناعات الغذائية والمشروبات الغازية، التي تقتل أكثر من كل الجراثيم والفيروسات والطفيليات مجتمعة.

ما غفلت عنه النظرية أن السوق لا تنجح آليا في تعديل التبادل التجاري لصالح المنتج والمستهلك؛ لأنها تحفل ككل سوق في الفضاء المادي باللصوص والغشاشين. هي استندت في كل بنائها النظري على تصور خيالي للإنسان، وأنه كائن خيّر بطبعه، وأنك إذا أعطيته حريته كاملة، فإنه سيتصرف كإنسان حرّ ومسؤول، ولن يسعى إلا لتحقيق الخير له ولغيره، وتأتي التجربة المريرة لتؤكّد أن هذا الإنسان المثالي الذي ترتكز عليه الليبرالية قد يكون هدفا بعيد المدى؛ لكنه قطعا ليس المنطلق، وإنما المنطلق هو كائن يتجاور فيه الذكاء والغباء الجشع والإثرة، الفوضى والانضباط، الخير والشرّ.

تستطيع أن توسع مجال هذه القراءة للديمقراطية التي تفترض هي أيضا خطأ أن حرية الرأي والتعبير ستكون إطلاق الأفكار المقموعة، وأن حرية التنظيم ستؤدي إلى تجمع الخيرين في منظمات سياسية ومجتمعية لا تهدف إلا لتحقيق الصالح العام، وأن الانتخابات ستأتي إلى مراكز القرار بأحسن ما في المجتمع. كلنا نعرف اليوم إلى أي مدى كان الرهان وما يزال خاسرا؛ لأنه لم يأخذ هو الآخر بعين الاعتبار الطبيعة المزدوجة للإنسان.

إسقاط الماضي على الحاضر والمستقبل

ضع قائمة التحديات الضخمة التي تواجهها أمتنا والأخطار المتعاظمة التي تتهدد الجيل المقبل.

تصور فقيرا يستشير طبيبا لمغص شديد في البطن، قد يكون بداية ذبحة صدرية، فيقول له الطبيب أكثر من أكل الخسّ، واشرب أقوى فودكا روسية، ومارس التزلج باستمرار في جبال سويسرا.

ستكتب ضرورة عناوين عريضة مثل: بطالة 100 مليون شاب عربي (بما يعني هذا من تفجر الجريمة والهجرة والعزوبية والطلاق والإرهاب)، تكلفة الثورات والحروب الأهلية والثورات المضادة، تبعات التغيير المناخي من جوع وعطش وتصحر، سيطرة شركات تكنولوجيا الاتصال على ملايين العقول والقلوب وقد أصبحنا كلنا أسرى ومدمنين على هواتفنا وحواسيبنا، بداية حقبة الذكاء الاصطناعي التي قد تحيل الشعوب المتخلفة مثل شعوبنا إلى وضعية الحيوانات في المحميات الطبيعية.

والآن انظر ما تقترحه خارطة طريق الإسلام السياسي: العودة إلى الإسلام “الصحيح”، إقامة الدولة الدينية، تطبيق الشريعة، مقاومة التغريب والغزو الثقافي الغربي.

تصور فقيرا يستشير طبيبا لمغص شديد في البطن، قد يكون بداية ذبحة صدرية، فيقول له الطبيب أكثر من أكل الخسّ، واشرب أقوى فودكا روسية، ومارس التزلج باستمرار في جبال سويسرا.

تقول ما هذه السريالية؟ أي علاقة لشرب الفودكا بعلاج الذبحة الصدرية؟ إنها نفس العلاقة بين بناء دولة الإسلام “الصحيح” علاجا مقترحا، والعلاج المطلوب للخطر الداهم الذي لن يترك لنا أي مكان لبناء دولة الإسلام “الصحيح”؛ أي تحول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى أرض غير صالحة للسكن في ظل تواصل الاحتباس الحراري، وذلك في أجل لن يتجاوز 50 سنة.

لقائل أن يقول يمكن للإسلاميين أن يشمروا عن عقولهم للبحث عن حلول علمية وعملية لكل المشاكل، التي أصبحت هاجسا عندك. طبعا لكنهم لن يجدوا هذه الحلول في نصوصهم المرجعية، وإنما في العمل مع زملائهم العلمانيين لابتكار مفاهيم جديدة، وحلول تقنية غير مسبوقة، وقد أصبحت الاختلافات العقائدية بأهمية الاختلافات في لون ربطات العنق (لمن يصرون على مواصلة خنق أعناقهم بها).

زرع بذور الخراب والموت

رادوفان كاراديتش رجل وقف سنة 2019 أمام المحكمة الجنائية الدولية لتحكم عليه بالمؤبد لارتكابه جرائم ضد الإنسانية عموما وضد المسلمين خصوصا، فهو الذي قاد حرب إبادة ضدّ البوسنيين المسلمين بعد أن نصبه القوميون الصرب سنة 1992 رئيسا لجمهورية صرب البوسنة، وهو الذي سمي جزار البلقان لفظاعة الجرائم التي ارتكبها. المثير في هذا الرجل الذي قرأت سيرته الذاتية بكثير من الاهتمام والاستغراب أنه يشبهني في أكثر من موضع، هو أيضا طبيب أعصاب، وحاضر في كبرى جامعات العالم، وهو مثقف وكاتب، وله ديوان شعر.

كيف يمكن أن تكون طبيبا وشاعرا وجزارا؟  لا أدري هل بشار الأسد مثقف وشاعر؛ لكننا نعرف جميعا أنه من دون أدنى شك طبيب وجزار.

انظر الآن للسيرة الذاتية لرجل اسمه نيلسون مانديلا. هو الآخر انتصر لبني جلدته وقاوم ما اعتبره انتهاكا لحقوق شعبه؛ لكنه لم يبنِ هويته السياسية على الضدية وإنكار وجود الآخر، ولم يستسلم أبدا للحقد والضغينة.

الدرس إذن: يمكن للأفكار الوطنية والقومية أو الدينية أو الشيوعية -كما حدث في كمبوديا في السبعينيات- إن تجاوزت خطا أحمر هو إنكار إنسانية العدو أو الخصم أو حتى المخالف في الرأي ستكون على أسرع طريق إلى الهاوية.

(3)

بما أننا دوما بحاجة لخارطة طريق؛ أي لأفكار نفسّر بها الواقع، ونتلمّس بها طريقنا، فأيّ خارطة طريق للمستقبل تستغلّ كل هذه التجارب؟

تصوّر أن لنا أضخم حاسوب وضعت فيه تقنيات الذكاء الاصطناعي كل ذكائها، وأننا قدمنا له الطلب التالي:

يا روبوت الروبوتات، انطلاقا من أطنان المعطيات التي حشوناك بها حوّل كل خرائط الطريق، التي جربنا منذ خروجنا من أدغال أفريقيا قبل 200 ألف عام، فإننا نطلب منك مدنا بخريطة طريق تأخذ في الحسبان الترابط بين آلاف العوامل التي تتحكم في مسار مجتمعاتنا والتغيير المتواصل لهذه العوامل. لا بدّ أن تنتبه للطبيعة الخيرة الشريرة للإنسان، وأنه محتال بطبعه على كل القوانين التي يسنها. كذلك نلح على أن تكون الأفكار من دون تبعات مؤسفة مثل تبرير القتل، ومحصنة أشد التحصين ضدّ الخبثاء، وقدرتنا على الاستيلاء على كل الآليات لتفويضها خدمة المصالح الخاصة. بالطبع نحن نريد لخريطة الطريق أن توفر علينا الصراعات المكلفة، ومن ثمة لا بد أن ترضي المؤمنين والملاحدة، التقدميين والمحافظين، الأغنياء والفقراء، الثوريين والإماراتيين.

إمكانيتان أمام الروبوت: الأولى: أن ينطلق في العمل ساعات وساعات، ثم أيام وأيام وأخيرا أن ترنّ صفارات الإنذار، وقد بدأ الدخان يتصاعد والشرار المتطاير من جنباته ينذر ببداية حريق في كل شرائحه الإلكترونية.

الثانية: إذا وضع فيه المبرمجون حسّ الفكاهة- أن يكتب على الشاشة بحروف غليظة دقيقة بعد انطلاق العمل: الوصفة جاهزة، سأنشرها شريطة أن تظهروا لي كيف تدخلون جملا في ثقب إبرة.

(4)

هل تصور مئات الآلاف من منتجي خرائط الطريق، وكل يصرخ ببضاعته من دون إمكانية التثبت السريع من جودة البضاعة بما أننا نحتاج أحيانا عقودا من التجريب على مجتمعات عديدة ليتضح الدجل من الصواب؟

لقائل أن يقول أملنا الأخير خريطة طريق علمية، أليس العلم هو الذي يقربنا من الحقيقة، ويعطينا كل هذه القدرة الهائلة على الطبيعة وعلى أنفسنا؟

نعم؛ لكن العلم يكون في الجزئيات، ونحن بحاجة لنظرة عامة. أضف لهذا أن العلم يتطور بلا حسيب أو رقيب، وفي كل الاتجاهات وفي فوضى عارمة ناجمة عن العدد الهائل من الأدمغة، التي تبحث فيما لا يعدّ ولا يحصى من المختبرات، وترمي اكتشافاتها إلى “السوق العلمية” ليقع التثبت من جودتها وإعلان صلاحيتها أو فسادها.

هل تصور مئات الآلاف من منتجي خرائط الطريق، وكل يصرخ ببضاعته من دون إمكانية التثبت السريع من جودة البضاعة بما أننا نحتاج أحيانا عقودا من التجريب على مجتمعات عديدة ليتضح الدجل من الصواب؟ ثم أي مجتمع يستطيع تحمل التجريب المتواصل من ألف مجرّب ومجرّب؟ القاعدة أن المجتمعات تتحمل الزلازل والحروب والأوبئة، ولا تتحمل الفوضى الدائمة.

هل معنى هذا أن قدرنا خرائط طريق ناقصة، سطحية، خيالية، سهلة التفويض للمصلحة الخاصة، في “أشداقها” الحرب الأهلية الدائمة؟

هل حكم علينا بالدوران في الحلقات المفرغة بأيديولوجيات بقية العصور الغابرة، والحال أننا بأمس الحاجة لخارطة طريق منقحة ومحيّنة للتعامل مع مشاكل وأخطار غير مسبوقة في عصر غير مسبوق؟

طبعا لا؛ لأن لنا بوصلة لا تخيب أبدا وهي البديل.

وللحديث بقية