تقترب الذكرى العاشرة لثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير والأجواء مغايرة تماما. أشهر المقاهي التي كانت مقصداً لشباب الثورة باتت إما مغلقة أو غيرت نشاطها بعد أن حل عليها الكساد. هذه المرة لم تغلق العديد من المقاهي بتعليمات أمنية فقط لكن بسبب الفيروس القاتل الذي بات ينتشر في البلاد بدون تخطيط مسبق. وعلى هوى ورغبة من الحكومة أغلقت الكثير من مقاهي وكافيهات وسط المدينة والعديد من أحياء القاهرة والجيزة أبوابها بعد أن سكن الكثير من الأهالي الخوف من انتقال الفيروس إليهم، وباتت تلك الدور مصدراً للعدوى بالنسبة للمواطنين وجنيناً يحمل جينات ثورة يناير بالنسبة للسلطة ورجالها. ولم يعد الأمر مقصوراً فقط على منطقة وسط العاصمة والشوارع المحيطة والمطلة على ميدان التحرير، فمنذ عامين أصبح العثور على مقهى مفتوح وسط القاهرة يوم الجمعة مهمة عسيرة المنال، وفي السابق كان الإغلاق مقتصراً على المناسبات الثورية وعند الدعوة للتظاهر لذا ظلت ذكرى ثورة الخامس والعشرين من يناير مصدر نكد بالنسبة لأصحاب تلك المقاهي لكونها تجر عليهم الخسائر وتحول بينهم وبين زبائنهم حيث تصدر الأوامر عادة بالإغلاق بدون ذكر الأسباب الموجبة. وبسبب ارتفاع إيجار تلك المقاهي خاصة الحديثة منها، قرر أغلب أصحابها إغلاقها وتفاقمت الأزمة مع ظهور فيروس كورونا الذي دفع السلطات العام الماضي لغلق تام للمقاهي دام عدة أشهر وعندما عاد نشاطها حظرت السلطات تداول الشيشة والتي تعد المصدر الرئيسي لتحقيق الأرباح بالنسبة للمقاهي التي قامر بعض أصحابها وقرروا أن يقدموا الشيشة التي تعرف بالأرجيلة لزبائنهم سراً عبر أماكن ملحقة بالمقاهي أو بعيدة عنها بشرط ان يكون هؤلاء مصدر ثقة العمال خشية أن يتعرض المقهى للغلق والغرامة الكبيرة التي تتجاوز عدة آلاف من الجنيهات. وقد ضبطت إحدى الحملات التي تقوم بها شرطة المرافق عددا من المقاهي تقدم الشيشة للمواطنين خلال حملات دورية قامت بها في محافظة الجيزة، للتأكد من الالتزام بالإجراءات الاحترازية لمجابهة تفشي فيروس كورونا. وعلى إثر ذلك قام حي بولاق الدكرور بشن حملة إشغالات على المقاهي والمطاعم والمحال أسفرت عن ضبط عدد من المقاهي التي تقدم الشيشة للزبائن، وقد تم التحفظ على المضبوطات واتخاذ الإجراءات القانونية حيال المخالفين. وتكرر المشهد في عدد من أحياء القاهرة والمحافظات، حيث تم ضبط العديد من المقاهي المخالفة وقد فرضت السلطات 50 جنيها (3.19 دولار) غرامة على من لا يمتثل لقرار وضع الكمامة في الأماكن العامة وذلك مع ارتفاع عدد الإصابات في أنحاء البلاد. وورد في بيان لمجلس الوزراء أن القرار الجديد الذي بدأ سريانه منذ أسبوعين رسالة واضحة أن “الدولة تواجه أي مخالفات للإجراءات الاحترازية بمنتهى الشدة والحزم”. وما زالت المقاهي والمطاعم والفنادق مقيدة بنسبة إشغال 50 في المئة من طاقتها، مع فرض غرامة قدرها 4000 جنيه مصري (254.75 دولار) لكل من يتجاوز العدد المحدد أو يخالف الإجراءات الاحترازية. وكشف البيان عن أنه سيتم إحالة المخالفين الذين لا يدفعون الغرامة للنيابة وأثمرت تلك القرارات المشددة في تراجع عدد الإصابات بحسب رأي الجهات المعنية.
ثائر قديم
يعد مقهى “ريش” المطل على ميدان طلعت حرب من أقدم مقاهي العاصمة، حيث افتتحه النمساوي برنارد تسينبرجغ وصممه ليماثل مقاهي المثقفين في باريس. اشتهر مقهى ريش برواده من الطبقة الغنية، إذ يعتبره فقراء المثقفين قبلة لعلية المجتمع فضلاً عن كونه وجهة السياح بامتياز، حيث لا يستقبل سوى الأثرياء بسبب ارتفاع أسعاره، إذ يشترط المشرفون على الزبائن تناول وجبات الغداء أو العشاء بأوامر من صاحبه الذي توفي منذ أعوام وظل الوضع على ماهو عليه. واشتهر المطعم في السابق بأنه كان يشهد ندوات كبار الكتّاب مثل نجيب محفوظ وعباس العقّاد وطه حسين وتوفيق الحكيم، وكذلك أمل دنقل ونجيب سرور وجمال الغيطاني، كما اعتادت أم كلثوم زيارته، وتزدان جدران المقهى بصور تاريخية لنجوم المجتمع وسادته. ويعرف مقهى ريش بأنه لعب دوراً كبيراً في ثورة 1919 حيث كان مكاناً لطباعة المنشورات أثناء الثورة، ودلل أصحاب المقهى على صحة مزاعمهم بمطبعة عثر عليها أسفل المكان في إحدى الغرف. ومن مقاهي المثقفين كذلك “زهرة البستان” في شارع طلعت حرب في وسط البلد وهو المقهى الشعبي المُلاصِق لكافيه ريش وكان ملتقى الأدباء خاصة الفقراء. وفي السابق كان من أشهر أنشطته ندوة نجيب محفوظ كل ثلاثاء، ومن أبرز رواد المقهى الراحل الشاعر أمل دنقل وهو الذي اعتبره امتداداً لـ”ريش” كما دون فيه علاء الأسواني روايتيه “شيكاغو” و”عمارة يعقوبان”.
شياطين الأنس
رغم ان هذا المقهى الموجود في منطقة باب اللوق المعروف باسم “الحرية” اقيم على أنقاض منزل الزعيم أحمد عرابي، إلا انه في نظر كثير من الإسلاميين يعد مقهى لـ”شياطين الأنس” بسبب وجود ركن فيه لتناول الخمور. ومن أبرز من قصده من الراحلين الرئيس الراحل أنور السادات وكثير من الشعراء والأدباء أبرزهم الشاعر بيرم التونسي والشاعر والمترجم رفعت سلام الذي توفي مؤخراً وعدد من الضبّاط الأحرار. على نفس رصيف “الحرية” وعلى بعد أمتار يقع مقهيان يفصل بينهما ممر ضيق وكلا هما قبلة المثقفين والثوار، الأول عنوانه “الندوة الثقافية”. وقد تم إنشاؤه منتصف الستينيات، وكان مركزاً لاجتماع معظم الأدباء والفنانين، كما اشتهر كذلك بإقامة الندوات الثقافية كل أسبوع. ومن رواده الروائي الراحل جمال الغيطاني والناقد ابراهيم عبد القادر وثلة من المخرجين والفنانين والكتاب المناوئين لسلطة الرئيس الراحل مبارك ومن هؤلاء الروائي علاء الأسواني. أما المقهى الثاني فمطل مباشرة على ميدان باب اللوق واسمه “سوق الحميدية” ويمتلكه سوري وبات المقهي منذ زمن بعيد مرفأ للقاء الأدباء والكتاب. لا يمكن في أي حال لمن يتردد على حي الحسين التاريخي الذي يبعد عن حي باب اللوق بمقدار ثلاثة كيلومترات تقريباً إلا أن يدلف نحو مقهى”الفيشاوي” العريق، إذ مر على افتتاحه قرابة قرنين، ويقع على مسافة قصيرة من شارع محمد علي قبلة العوالم ومقر باعة الآلات الموسيقية في القرن الماضي. ومنذ زمن بعيد أصبح المقهى قبلة للسياح لكونه أحد اقدم المقاهي التي اشتهرت باستقطاب الفنانين والأدباء. وكان من بين أبرز مريديه الأديب نجيب محفوظ الذي يعد من أشهر رواد المقهى، واستوحى عدداً من شخوص رواياته من خلاله. وتاريخ المقهى ضارب الجذور ويمتد حتى عام 1797 وقد ورد ذكره في كتاب “وصف مصر” الذي قال إن نابليون بونابرت قائد الحملة الفرنسية على مصر اعتاد الجلوس فيه لشرب “الحِلبة”. في ميدان باب اللوق يتواجد كذلك “مقهى البرابرة” الذي يحظى بالرواج لرخص أسعاره ويعد قبلة للمرضى الذين يقدمون من قراهم ومدنهم للكشف بباب اللوق الحي الذي يعد معقل كبار الأطباء منذ عقود بعيدة. المقهى يرتاده بعض الصحافيين الشبان وقد كان يرتاده في الماضي كتاب وصحافيون باتوا فيما بعد من المشاهير. يتذكر بعض رواده كاتبين كانا يتخذان من المقهى موضعاً لكتابة الموضوعات التي يرسلونها للصحف العربية أحدهما أصبح نائباً في البرلمان ومقدم برامج وبات من أشد مؤيدي السلطة بعد ان كان في السابق من خصومها، والآخر ضاقت به السبل ولم ينجح في الالتحاق بأي مطبوعة وطنية حتى اقترب من السبعين من العمر.
مخبأ الثوار
بات الاقتراب من مقاهي وسط العاصمة خاصة في المناسبات الثورية محفوفاً بالمخاطر بالنسبة للمتعاطفين مع ثورة الخامس والعشرين من يناير والمنادين بضرورة تحقيق شعارها الخالد “عيش وحرية وعدالة اجتماعية”. “أفتر إيت” هو اسم المقهى الموجود داخل ممر ضيق جعله ملاذاً للثوار الذين كانوا ملاحقين من رجال الديكتاتور المعزول، وهو المقهى الوحيد الذي فتح أبوابه للمُتظاهرين في الـ18 يوماً التي سبقت تنحي مبارك. وعلى الرغم من قرب المقهى من ميدان التحرير إلا أنه اعتبر مكاناً آمناً للمتظاهرين لصعوبة اقتحامه من قِبَل قوات الأمن، وكان يحلو للبعض وصفه بـ”المخبأ” فهو أشبه بـ”المغارة” بالنسبة للعناصر الأمنية والفلول ويعصى على من يقصده الوصول إليه. ظل هذا المقهى يستقبل الثوار من مختلف الاتجاهات غير ان هؤلاء انفضوا عنه في السنوات الأخيرة. وعلى بعد أمتار قليلة يوجد مقهى “اندلسية” الكائن في شارع 26 يوليو، أسعار مشروباته في متناول الجميع. ولم يعد هناك من بين المترددين عليه سوى الموظفين والمحامين والباحثين عن عمل، ومن مقاهي وسط العاصمة “قهوة السد” التي باتت غداة حكم الإخوان مصدر استقطاب لخصومهم حتى دارت الدائرة على الجميع ولاحقاً بات أغلب روادها يجتنبون الكلام عن الثورة، فهم إما موظفون في محكمة النقض، أو من المحامين الذين يقصدون دار القضاء العالي ويقع في الجهة المقابلة لباب محكمة النقض.
قليل هم اولئك الذين لا يستمعون “للست” التي لها أكثر من مقهى في العاصمة، الأول بالقرب من ميدان عرابي ومنذ أن افتتح كان مقصداً لمن يعشقون أغاني سيدة الغناء العربي الراحلة أم كلثوم، ويقع المقهى على بعد خطوات من ميدان رمسيس حيث مسجد الفتح الذي شهد أحداثاً مؤسفة قبل رحيل الإخوان عن سدة الحكم. إلا ان مقهى “الست” لا يقصده شباب الثورة لأسباب من بينها ارتفاع أسعار مشروباته مؤخراً وهو يقع في شارع سرايا الأزبكية. ومنذ افتتاح أبوابه مع بزوغ الفجر يحرص القائمون على أمره على إذاعة أغاني أم كلثوم بعد آيات من القرآن الكريم ونشرة الأخبار، وفي الصباح الباكر يقصده المحامون وكثير من الموظفين قبل ان ينطلقوا لأعمالهم في المحاكم ودواليب العمل المختلفة. ويزدان المقهى بلوحة سجل عليها تاريخ أم كلثوم وأشهر أغانيها وأبرز الأحداث المهمة في حياتها، ولوحة جدارية لها وهي تمسك بمنديلها الوردي. ويوجد ركن لصورها النادرة مع محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وصباح وفيروز وعبد الحليم حافظ.
مربع الثورة
في محيط الإذاعة القديمة في حي الشريفين وسط القاهرة غداة ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير 2011 تحول المربع الذي ينتمي للقاهرة الخديوية لقبلة للعاملين في بيزنس المقاهي، حيث كثرعدد الكافيهات في هذا المربع ليتجاوز قرابة ثلاثين مقهى. لعبت هذه المقاهي دوراً بارزاً في ثورة 25 يناير، حيث كانت قبلة الثوار على مختلف توجهاتهم ومن أبرز مقاهي الحي “مقهى البورصة” وعقب رحيل الإخوان عن سدة الحكم بعامين تم إغلاق تلك المقاهي لأسباب لم يعلن عنها، وكانت جميعها معقلاً للشباب والمثقفين والحركات الثورية وشهدت الكثير منها مناظرات شبه يومية بين الإسلاميين الذين عرفوا الطريق للجلوس على المقاهي خاصة المنتمين لتيار الإسلام السياسي، وخصومهم من اليساريين والناصريين والليبراليين، وضم الحي مجموعة من المقاهي المجاورة لمبنى البورصة المصرية في وسط البلد، وتواصل زحف المقاهي حتى ميدان التحرير وميدان الأوبرا وحي عابدين والسيدة زينب. ومن مقاهي وسط القاهرة كذلك التي ظلت بمنأى عن الحراك الثوري مقهى العمدة أدهم ويقع في أحد الشوارع الجانبية لشارع 26 يوليو، ويمتاز برخص أسعاره مقارنة بغيره من المقاهي، ومنها مقهى “صالح” بشارع شامبليون وبسبب رخص أسعاره يرتاده شباب الثورة من الخريجين والطلبة الذين يعتمدون على أسرهم في الانفاق. هناك بعض المقاهي المتخصصة، بمعنى يجلس عليها أرباب كل حرفة، منها للسائقين وأخرى للطهاة وثالثة للسماسرة، ومن أبرز هذا النوع من المقاهي “قهوة الخرس” التي افتتحت قبل ثمانية عقود. كانت هذه المقهى قبلة الصم والبكم أولئك الذين شقوا طريق الحياة وسعوا للتغلب على معاناتهم وقرروا مواجهة أزماتهم الخاصة بقهوة يتجمعون عليها، وتوجد المقهى في حارة سرايا الأزبكية بحي التوفيقية بمنطقة وسط البلد. وقد عرف شباب الثورة الطريق لجميع تلك المقاهي تباعاً فلا تخلو واحدة منها من رائحة الثورة وأهلها غير ان المتابعات الأمنية لأنشطة تلك المقاهي جعلت الكثير من أصحابها لا يرحبون بتواجد الثوار بل ان بعضهم يحذر الزبائن من الكلام في السياسة وبعضهم يضع لافتة تحذير للرواد.
“بعرة” ثورة أخرى
معظم من حلم بالشهرة والنجومية تردد على قهوة “بعرة” أشهر معالم شارع عماد الدين التي افتتحت عام 1939 وكان اسمها في البداية نادي الكرسال، من أبرز من تردد عليها قبل ان يتحولوا لنجوم شباك: فريد شوقي ورشدي أباظة، عادل إمام، محمود حميدة، يوسف شعبان، توفيق الدقن، أحمد زكي ومئات النجوم والممثلين على مدار العقود الثمانية الماضية وانتهاءً بجيل محمد سعد ومحمد هنيدي وأشرف عبد الباقي وما تلاهم من جيل الشباب. كما يرتاد المقهى كل هواة التمثيل وخريجو معاهد التمثيل، حيث يتواجد مكتب الريجسير “وكيل الفنانين” الراحل علي وجدي والذي يعد همزة الوصل بين المنتجين والفنانين. وأصبح المقهى بمرور الوقت قبلة كل من يحلم باقتحام عالم التمثيل وبات المركز الرئيسي لتجمع الكومبارس، غير ان الكساد عرف الطريق إليه بسبب تراجع حجم الإنتاج السينمائي والتلفزيوني بشكل كبير حيث أصبح العثور على فرصة عمل أمنية لا تتحقق غالباً إلا للنجوم. وسبب إطلاق هذا الإسم على المقهى أن صاحبه كان يمتلك فرساً، وكان كلما يمشي به كانوا يقولون عنه البعرور وكان رشدي أباظة صاحب فكرة إطلاق الاسم ومن ثم أصبح اسما تجاريا.
بالقرب من نقابة الصحافيين المطل على شارع رمسيس وشارع عبد الخالق ثروت يتواجد شارع شامبليون الذي يزخر بعدد من المقاهي كانت تمثل قبلة للثوريين والكتاب حال غلق أبواب نقابة الصحافيين في وجوههم، ومن بين تلك المقاهي “التكعيبة” الذي فتح أبوابه مطلع الثمانينات من القرن الماضي وظل قبلة للثوار حتى مطلع العام 2013. في ذات الشارع يوجد مقهى صالح القريب من ميدان عبد المنعم رياض ونقابة الصحافيين لذا يتواجد به أصحاب مهنة البحث عن المتاعب اولئك الذين تبدلت أحوالهم ليعيشوا أوضاعاً مأساوية بسبب الظروف التي تحيط بعالم الصحافة حيث تواجه الصحف كساداً غير مسبوق ومنذ ان أغلق مطعم النقابة والكافتيريا الملحقة به أصبح المبنى الأنيق مهجوراً خاصة بعد ظهور الفيروس القاتل، لذا لم يجد أعضاء النقابة من مكان يستقبلهم سوى تلك المقاهي الرخيصة.
القدس العربي