عصر الحداثة

ما هي الحداثة؟

الحداثة هي ذلك الانقلاب الفكري الذي حصل في أوروبا منذ القرن السادس عشر، وانتشر وترسخ في القرن الثامن عشر معلناً ميلاد عصر النهضة والتنوير العقلاني، الذي جاء نتيجة للتراكمات والمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والفلسفية، التي كان لها تأثيرها المباشر في إطلاق شعار النهضة الأوروبية الرئيسي بمضمونه الذي أكد على فصل الدين عن الدولة والسياسة، وإزاحة الكنيسة من عقول الناس في أوروبا.

نشأة الحداثة:

تاريخياً، يمكن القول أن الحداثة قد بدأت مع بزوغ عصر النهضة، بعد أن فقدت الكنيسة تأثيرها على عقول الناس في أوروبا، وبعد إدراك مادية الطبيعة ومحورية الإنسان عبر التفكير العقلاني المستنير، إلى جانب اكتشاف قيمة الفرد بوصفه ذاتاً خلاقة، مما أضاف عنصراً أساسياً من عناصر الحداثة، فالفرد وفق الحداثة تنبع قيمته من ذاته لا من ملّته ولا من قبيلته، وتلك هي القيمة الجوهرية للتطورات والمتغيرات التي أصابت أوروبا وأدت إلى اشتعال الثورات البرجوازية التي انهت سيطرة الكنيسة على عقول الناس، ومن ثم قضت على النظام الاقطاعي القديم الذي ساد عبر أفكاره الرجعية في أرجاء أوروبا طوال أكثر من 1200 عاماً، منذ القرن الخامس الميلادي حتى القرن السابع عشر.

من هنا، “كان نجاح الثورات السياسية البرجوازية في هولندا في مطلع القرن السابع عشر، وفي بريطانيا من 1641 -1688، ثم الثورة الفرنسية الكبرى في القرن الثامن عشر (1789)، بمثابة الإعلان الحقيقي لميلاد عصر النهضة والتنوير أو عصر الحداثة، ففي هذا العصر انتقلت أوروبا الغربية من مجتمع الطبيعة المحكوم بنظرية الحق الإلهي إلى المجتمع المدني، مجتمع الديمقراطية والثورة العلمية الكبرى التي أحدثت زلزالاً في الفكر الأوروبي الحديث كان من نتائجه الرئيسية” انتقال موضوع الفلسفة من العلاقة بين الله والعالم، إلى العلاقة بين الإنسان والعالم وبين العقل والمادة.

بهذه الثورات حققت أوروبا الغربية انتقالها التحديثي من مجتمع الطبيعة إلى المجتمع المدني. وبالطبع، فقد أدت هذه الثورات جميعاً دوراً في بناء فكر الحداثة، ومن ثم رفض قدسية الأفكار ووضعها جميعاً ضمن دائرة الشك المنهجي والتحليل والاختبار.

إن أبرز سمات الحداثة أو هذه العقيدة الجديدة هي:

المادية، أي اعتبار الطبيعة كياناً مادياً مستقلاً وقائماً في ذاته، تحكمه مبادئ وقوانين ونظم قابلة لأن تُعْرَف، واعتبار الإنسان جزءاً من الطبيعة.

الروح النقدية المتواصلة، أي رفض سلطة المألوف وسلطة السلف وسلطة الغيب، ونزع هالة القدس ية عن الأشياء والعلاقات، والالتزام بالعقل العلمي سلطة رئيسية للأحكام.

الثورية، أي إدراك تاريخية الطبيعة والمجتمع البشري، وإدراك الذات المدركة بصفتها قوة اجتماعية في مناخ من الحرية والديمقراطية.

اللاغيبية التي تصل أوجها في العلمانية.

اعتبار المعرفة العلمية قيمة قائمة في ذاتها ومطلقة الاستقلالية، فهي لا تقبل أي سلطة أو قيد يفرض عليها من خارجها.

الإنسانوية، أي الإيمان بالإنسان وقدرته الخلاقة واستقلاليته وحريته الذاتية واعتباره مصدراً وأساساً لكل قيمة.

إن ما يميز العصر الأوروبي الحديث –كما يقول د. صادق العظم- “هو هذا الاتحاد العضوي الفريد الذي تم – على مراحل طبعاً، ولكن للمرة الأولى في تاريخ الإنسانية – بين المصالح الحيوية للطبقات التجارية الصاعدة وبين الاكتشافات العلمية والاختراعات التقنية والميكانيكية الجديدة، ونريد أن نشير هنا إلى صيرورة تاريخية معينة في تطور أوروبا الحديثة أدت إلى ربط المعرفة العلمية – قديمها وجديدها – نهائياً بطرائق البورجوازية الأوروبية الصاعدة في إنتاج الثروة ومراكمتها.

لقد بزغت إمكانية تحويل التقدم العلمي والتقني بصورة منتظمة ومدروسة إلى رأسمال من ناحية، كما بزغت إمكانية قيام الرأسمال في البحث المنتظم والمدروس عن المزيد من التقدم العلمي والتقني من ناحية ثانية، أي َأن للرأسمال مصلحة حيوية في العلم، كما أصبح للتقدم العلمي مصلحة لا تقل حيوية في الرأسمال، وهذه دينامية حضارية جديدة تماماً لم يعرفها الإنسان من قبل، على الرغم من أن حضاراته السابقة عرفت كُلاً من التجارة والصناعة والرأسمال والعلم والتقنية، وقد برهن هذا المزيج الجديد أنه طاقة متفجرة هائلة إلى أبعد الحدود، مَدَمِّرة وخلاقة في وقت واحد، وهذه الطاقة هي التي صنعت ما يسمى بالحداثة وشكلت العالم الحديث وقضت على القديم”.

فالبورجوازية “اكتشفت الطاقة الهائلة المختزنة في الأنانية وعبأتها وقننتها واستخدمتها لإعادة صياغة الإنسان الأوروبي (وفيما بعد غير الأوروبي أيضاً) على صورتها وشاكلتها ووفقاً لمصالحها، والعلم الحديث اكتشف الطاقات الهائلة المختزلة في الطبيعة فعبأها وقننها ووظفها في الاتجاه ذاته فكانت هذه الحضارة الفاوستية، وشعارها المعرفة قوة، المتخطية لنفسها باستمرار”.

ويستطرد د. العظم قائلاً: “بدقة أكبر، إن احتلال العالم هذا الموقع الحيوي والحاسم في حياة الحضارة الرأسمالية الناشئة وتقدمها، أثَّر أعظم تأثير على تشكيل الفلسفة الحديثة، وعلى إعادة صياغة الفلسفة الموروثة وعلى مجمل الصراعات والتطورات الفلسفية منذ عصر النهضة، وهذا تماماً ما تهمله تواريخ الفلسفة إهمالاً كاملاً تقريباً، ذلك إن تأثير العلم من موقعه الجديد وردود الفعل عليه يبرزان بنصاعة في الأونطولوجيا (الوجود) والابستمولوجيا (المعرفه) الحديثتين، اما تأثير المصالح الحيوية للطبقات التجارية، وتأثير القيم التي حملتها وقاتلت من أجلها، فنجده صارخاً في الشق الآخر من الفلسفة الحديثة، أي الشق الذي يعالج عادة موضوعات مثل: السياسة، الأخلاق، الاجتماع، الإنسان.. إلخ”. إذن الحداثة بالمعنى النبيل والقوي للكلمة هي وليدة هذه الحركة التحريرية العقلانية والتجريبية النهضوية الهائلة التي كشفت عن تاريخية كل ما كان يقدم نفسه وكأنه مقدس، معصوم، يقف فوق التاريخ. هنا يكمن جوهر الحداثة ولبُهُّا.. فلا حداثة بدون تعرية، بدون تفكيك لموروث الماضي.

أنواع الحداثة:

هناك أولاً: الحداثة المادية أو العلمية والتكنولوجية، الحريات الفردية، وعدم الخوف المرعب من المجتمع أو من الطغاة والحكام.

وهناك ثانياً: الحداثة الفلسفية المرتبطة بالأولى، والدليل على ذلك، هذه العبارة التي انتشرت في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر: لولا نيوتن لما كان كانط. والمقصود بذلك أنه لولا الاكتشافات العلمية الهائلة لإسحاق نيوتن لما استطاع فيلسوف الألمان أن يُشَكِّل أكبر فلسفة في العصور الحديثة، وبالتالي فَتَقَدُّم الفلسفة العقلانية مرتبط بتقدم العلم الفيزيائي واكتشاف قوانين الطبيعة والكون.

وهناك ثالثاً: الحداثة الاقتصادية التي قضت على المجاعات الكبرى داخل النطاق الأوروبي ورفعت مستوى المعيشة للطبقات الوسطى وعموم الشعب.

وهناك رابعاً: الحداثة السياسية المتمثلة بالثورات الثلاث المشار إليها: الإنجليزية (1680م)، فالأمريكية (1776م)، فالفرنسية (1789م). فبعدها “دخلنا في عصر الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان، وسيادة الشعب، والتناوب على السلطة، ووجود الأغلبية والمعارضة”، ولكن ضمن إطار النظام الرأسمالي والمصالح البورجوازية.

وهناك خامساً: الحداثة الدينية، التي ارتبطت بعملية الإصلاح الديني، الذي أدى إلى تخفيف أعباء التراث وأثقاله عن كاهل الإنسان المسيحي في أوروبا، فانطلق بعدئذ لفتح العالم وتحقيق ذاته على الأرض، ثم جاء التنوير بعده.

وهناك سادساً: الحداثة الأدبية أو الشعرية، فقد تخلص الشعراء من قيود الأوزان والقوافي التقليدية. وبالتالي فالحداثة هي مشروع تحرري على الأصعدة والمستويات كافة، ففي ضوء الحداثة والتنوير دخلت أوروبا إلى عصر الليبرالية وحرية الرأي والمعتقد وحقوق الإنسان والمواطنة والديمقراطية، حيث أشرقت روح الحداثة بكل بهائها “معلنة شعار التنوير بجلاء: العقل والحرية؛ عقل حر وحرية عاقلة؛ العقل يحرر حامله من قيود الطبيعة، بما في ذلك طبيعته”.

إن المرجعية الأساسية للإنسان –وفق جواهر الحداثة- هي “العقل، لا النص ولا الغيب؛ العقل بصفته إرادة الحرية، بصفته أداة الكشف عن مكنونات الطبيعة وإعادة خلقها إنسانيا بما يحقق ويضمن حرية الإنسان من قيودها، هذا ما أعلنه بجلاء مؤسسو الحداثة منذ البداية: برونو وغاليليو وميكافيلي وبيكون وهوبز وديكارت”.

وفي هذا السياق، نشير إلى أن الليبرالية هي وليدة الحداثة، إذ أن “الليبرالية ترتكز في الفكر الغربي كتنظير على فلسفة الإنجليزي جون لوك (1632-1704) فهو الأب الحقيقي والشرعي للفكرة، وإذا كان لوك يمثّل وجهها السياسي، من خلال نصوصه، فإنّ آدم سميث (1723-1790) يُمثّل وجهها الاقتصادي من خلال كتابه ثروة الأمم، وتقترن الليبراليّة بوجه عام بفكرة الحريّة والفرديّة وامتلاك الإنسان لزمام أموره، وبنبذ أيّ سلطة بإمكانها التحكّم في رقاب الناس مهما كانت طبيعتها”.

إذن، الأساس الذي تقوم عليه فكرة الحداثة هو العقل والعقلانية، فالعقل المتحرر من كل سلطان هو معيار أهل الحداثة، بل هو السلطان الحاكم على الأشياء، والحداثة بهذا المعنى إما أن تكون شاملة، كلية، وإما لا تكون، فلا يمكن الفصل بين الحداثة الدينية، والحداثة العلمية، والحداثة الفلسفية، والحداثة الصناعية أو التكنولوجية، والحداثة السياسية، بل وحتى الحداثة الشعرية أو الأدبية والفنية، إنها كل ذلك دفعة واحدة على الرغم من اختلاف هذه المجالات أو تمايزها عن بعضها البعض إلى حد ما، ولكنها كلها ناتجة عن انطلاقة واحدة من أجل حرية الإنسان وتحقيق ذاته الإنسانية على هذه الأرض بعيداً عن كل أشكال الإرهاب الفكري والأمني وعن كل أشكال الاستبداد والاستدعاءات والرقابة.

وهنا لا بد لنا من “تأكيد الدور الأساسي للعقل في منظومة المعرفة (الابستومولوجيا) الحداثية، وذلك لأنه مصدر الحدس والبديهة التي هي – كما يقول ديكارت- أساس الأفكار الواضحة والمتميزة والصحيحة، الأمر الذي أدى إلى الاعتقاد بالعقلانية الموضوعية للحقيقة والثقة بقدرة الإنسان على اكتساب معرفة بالنظام التأسيسي للكون”.

أخيراً، إن التنوير والحداثة، هما إعلان مرحلة جديدة من التطور البشري، استطاع الإنسان من خلالها أنَ يخرج من قصوره الذاتي ويجرؤ على استعمال عقله بعيداً عن كل خضوع ووصاية للأنماط والأفكار الدينية الرجعية والغيبية.