تراجع فعل الأولى تحت أثر الانقسام الفكري للعالم بعد الحرب العالمية الثانية وعاد من جديد ليحدد الملامح البارزة في الأخيرة
مصطفى الفقي كاتب وباحث
شهدت الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى ونهايتها عام 1918 بداية ميلاد أيديولوجيات جديدة تعتمد على الفكر المادي في نظرياته الحديثة وأخص تحديداً أيديولوجيتين، الأولى هي “الماركسية الشيوعية” من خلال الآباء المؤسسين بمن فيهم كارل ماركس صاحب كتاب “رأس المال” وفلاديمير لينين الذي شيد أركان الدولة الشيوعية حتى حملت اسم الاتحاد السوفياتي قبيل بدايات حكم ستالين “جزار الأقليات” داخل المجموعة السوفياتية.
ولعل الصراع الأوكراني – الروسي يوضح لنا كيف أن تفكك الاتحاد السوفياتي الكبير أفرز كيانات تصل العلاقة بينها إلى حد الحرب المسلحة والمعارك الدامية كما نشهدها اليوم، لذلك فإن الأيديولوجيا ذات الطابع السياسي لا تحمي أطرافها من أسباب الاختلاف الكامن وعوامل الصراع الخفي، بينما التوحد القومي يستوجب ذلك ويعطي انطباعاً مؤكداً لأنه يعني الدماء المشتركة التي تجري في عروق الأطراف كافة، فالقومية وعاء يحمي أطرافه بحكم رابطة التوحد إلى جانب المشترك الثقافي الذي يجمع بوتقة الوجدان الواحد ويصنع الإحساس المتبادل في ظل القومية الواحدة، ولننظر إلى عالمنا العربي الذي يموج باختلافات عدة وتباينات في الآراء والمواقف أمام عدد من المشكلات ولكنه يظل في النهاية محتفظاً بالحد الأدنى من أسباب التوحد رافضاً عوامل الاختلاف متمسكاً بالجذور العميقة للقومية العربية وتأثيرها القوي في المشرق والمغرب على حد سواء.
ثالثاً: إن التعارض بين القومية والدين غير وارد لدى القوميات كافة، ونحن نرفع شعاراً يقول “لا تعارض بين الأوطان والأديان” وهو أمر يختلف بالنسبة إلى الأيديولوجيات التي قد يخاصم بعضها الشعور الديني ويعصف بالمؤسسة الروحية مثلما حدث في سنوات الاتحاد السوفياتي السابق، وما زلنا نتذكر العبارة الماركسية التي تقول “إن الدين أفيون الشعوب”، وهي عبارة ظالمة تضرب الأيديولوجية الماركسية في مقتل، وها هي العودة للكنيسة الأرثوذكسية في أنحاء جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق إلى جانب الإسلام الحنيف في جمهورياته ذات الغالبية المسلمة، وقد أديت شخصياً الصلاة في مسجد موسكو الجديد ولم أر نظيراً له من قبل في روعة البناء ودقة التنظيم والخدمات اللوجستية المحيطة بذلك البناء الإسلامي الشامخ في قلب العاصمة موسكو، وبذلك نرى للقومية ميزة تتفوق بها على الأيديولوجيات ونعني بها التصالح الديني الذي يسود أنحاء القومية الواحدة بخلاف الأمر بالنسبة إلى التفاوت الروحي داخل الأيديولوجيا الواحدة.
خلاصة ما أهدف إليه من هذه السطور هو أن أسجل العلاقة الجدلية بين القومية والأيديولوجيا وكيف أن عصر القوميات الذي كان تراجع بفعل الانقسام الفكري للعالم بعد الحرب العالمية الثانية عاد من جديد ليحدد الملامح البارزة في الدولة القومية حتى لو كانت رزحت تحت غطاء أيديولوجيا معينة لعقود عدة، فنحن ننتقل من عصر الأيديولوجيات إلى عصر القوميات، وتستدعي كلمة القومية مفهوماً خاصاً للدولة الوطنية التي نرى أنها هي القلعة الأخيرة للبناء الدولي في عالمنا المعاصر.
وستظل للقوميات اليد الطولى في تحريك مسار الأمم وتدافع الشعوب مهما طال أمد الأيديولوجيا حتى لو تغطت برداء ديني إلى حين، إن القومية وعاء إنساني لا يمكن تحطيمه كل الوقت ولا أزال أكرر أن تجربة استمرار القوميات تحت الغطاء الأيديولوجي للاتحاد السوفياتي هي خير دليل على صحة القول الذي يرى أن الأيديولوجيا يمكن أن تكون زائلة ولكن القومية تظل دائماً هي الباقية، إننا كأمة عربية نبدو في حال تماسك ولو ظاهري بمنطق قومي يعلو فوق غيره من الانتماءات والولاءات.
وفي الوقت نفسه انبرى أدولف هيتلر على الجانب الآخر ليؤطر للأيديولوجيا الثانية ويرفع شعاراً قومياً متطرفاً ينادي بسمو العرق الألماني وسيادة “الدم الآري” على ما عداه وفي خلفيته هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وضرورة الثأر لها مدعياً أن اليهود كانوا من أسباب هزيمته.
وأقصد بهذه المقدمة أن ألفت النظر إلى أن ميلاد الأيديولوجيات والقوميات المعاصرة ازدهر في وقت واحد بعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى باعتبارها أول حرب كونية عرفها الإنسان المعاصر، وأدى الأمر إلى انقسام أيديولوجي في أوروبا وخارجها وأصبحنا أمام اختلاف واضح بين النظم إلى أن جاءت الحرب العاليمة الثانية لكي تبرز دور الحلفاء وتنتهي بتراجع دول المحور والنهاية المعروفة لأدولف هتلر وموسوليني (الدوتشي) في إيطاليا، وبذلك لاحظنا أن هناك سلسلة متصلة من الصعود والهبوط لا نكاد نجد لها نظيراً في فترات أخرى من تاريخ الجنس البشري، ولذلك فإن الأيديولوجيا والقومية تلتقيان حول مفهوم المعتقد بكل آثاره العميقة وتداعياته القوية لأن كلتيهما تمثلان عقيدة راسخة وفكراً دفيناً، ولعلنا نرصد هنا الملاحظات التالية:
أولاً: إن القومية تعبير عن تجمع إنساني حول شعور بالمشترك الثقافي، ولقد جاء في الذكر الحكيم قوله تعالى “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”، وهذا النص القرآني يشير في دلالة واضحة إلى انتفاء التعارض بين الأديان والأوطان ويؤكد أن التشعيب، أي ميلاد شعوب مختلفة، يشير في دلالة واضحة إلى أن القومية كيان بشري ضخم يقوم على الانتماء والولاء، ولو أخذنا مفهوم القومية العربية كمثال فسوف نجد أنه قد ولد في أحضان الشام الكبير منذ ولاية معاوية بن أبي سفيان والتطلع إلى تأسيس دولة غايتها الحكم ولكن جوهرها العقيدة، فالقومية وعاء إنساني رحب يحتوي أجناساً مختلفة تنصهر في بوتقة القومية من دون عنصرية أو تعصب بغير اعتماد على أجناس بعينها أو أفكار بذاتها، فتعريف العربي لدينا هو أنه كل من تكون العربية لغته الأولى بغض النظر عن المعتقد الديني أو المذهبي ومن دون اعتبار لجنس أو لون أو مذهب فكري.
وهنا يختلف مفهوم القومية في دلالته الواضحة عن مفهوم الأيديولوجيا في نظرته المحددة فقد تكون القومية مشتركة ولكن الأيديولوجيا متناقضة، كما أنه يمكن أن يحدث العكس فتكون الأيديولوجيا واحدة بينما تنضوي تحت لوائها تجمعات بشرية تجمعها عناصر مشتركة وعوامل مستقرة تعتمد في معظمها على البعد الثقافي، ولذلك فإنني ممن يعتقدون بأن أدق تعبير للقومية هو ارتباط الإنسان بجماعته البشرية أي إن الوطن في حد ذاته هو واحد من مظاهر التوحد البشري ولا خلاف على الإطلاق بين الأديان في هذا الشأن ولا يتعارض مفهوم الوطنية كأحد أركان القومية مع هذا المعنى، وحتى الإسلام الحنيف الذي تحدث كتابه المقدس عن مفهوم الأمة هو نفسه ذلك الدين العظيم الذي نظر نبيه، صلى الله عليه وسلم، إلى مكة وهو يبرحها في هجرة مبكرة إلى يثرب فقال مخاطباً مدينته المفضلة مكة المكرمة “والله إنك أحب بلاد الله إليَّ ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت”، وهذا المعنى يؤصل مفهوم ارتباط الإنسان بالوطن ويجسد معنى القومية في أوضح صورها ولو على نموذج مصغر لمفهوم الأمة بعد ذلك.
ثانياً: إن الأيديولوجيا يمكن أن تكون غطاء دينياً في قليل من الأحيان ولكنها غطاء سياسي في معظم الأحيان، ولو تأملنا أوضاع الاتحاد السوفياتي السابق لوجدنا أن غطاء الدولة الشيوعية كان يظلل الجمهوريات المختلفة وقد تكونت من قوميات متباينة ولكن الأيديولوجيا الفكرية والعقيدة السياسية كانتا الغطاء الواسع لأطراف الدولة الكبرى كافة مهما كانت عوامل الاختلاف ومصادر النشأة.
ولعل الصراع الأوكراني – الروسي يوضح لنا كيف أن تفكك الاتحاد السوفياتي الكبير أفرز كيانات تصل العلاقة بينها إلى حد الحرب المسلحة والمعارك الدامية كما نشهدها اليوم، لذلك فإن الأيديولوجيا ذات الطابع السياسي لا تحمي أطرافها من أسباب الاختلاف الكامن وعوامل الصراع الخفي، بينما التوحد القومي يستوجب ذلك ويعطي انطباعاً مؤكداً لأنه يعني الدماء المشتركة التي تجري في عروق الأطراف كافة، فالقومية وعاء يحمي أطرافه بحكم رابطة التوحد إلى جانب المشترك الثقافي الذي يجمع بوتقة الوجدان الواحد ويصنع الإحساس المتبادل في ظل القومية الواحدة، ولننظر إلى عالمنا العربي الذي يموج باختلافات عدة وتباينات في الآراء والمواقف أمام عدد من المشكلات ولكنه يظل في النهاية محتفظاً بالحد الأدنى من أسباب التوحد رافضاً عوامل الاختلاف متمسكاً بالجذور العميقة للقومية العربية وتأثيرها القوي في المشرق والمغرب على حد سواء.
ثالثاً: إن التعارض بين القومية والدين غير وارد لدى القوميات كافة، ونحن نرفع شعاراً يقول “لا تعارض بين الأوطان والأديان” وهو أمر يختلف بالنسبة إلى الأيديولوجيات التي قد يخاصم بعضها الشعور الديني ويعصف بالمؤسسة الروحية مثلما حدث في سنوات الاتحاد السوفياتي السابق، وما زلنا نتذكر العبارة الماركسية التي تقول “إن الدين أفيون الشعوب”، وهي عبارة ظالمة تضرب الأيديولوجية الماركسية في مقتل، وها هي العودة للكنيسة الأرثوذكسية في أنحاء جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق إلى جانب الإسلام الحنيف في جمهورياته ذات الغالبية المسلمة، وقد أديت شخصياً الصلاة في مسجد موسكو الجديد ولم أر نظيراً له من قبل في روعة البناء ودقة التنظيم والخدمات اللوجستية المحيطة بذلك البناء الإسلامي الشامخ في قلب العاصمة موسكو، وبذلك نرى للقومية ميزة تتفوق بها على الأيديولوجيات ونعني بها التصالح الديني الذي يسود أنحاء القومية الواحدة بخلاف الأمر بالنسبة إلى التفاوت الروحي داخل الأيديولوجيا الواحدة.
خلاصة ما أهدف إليه من هذه السطور هو أن أسجل العلاقة الجدلية بين القومية والأيديولوجيا وكيف أن عصر القوميات الذي كان تراجع بفعل الانقسام الفكري للعالم بعد الحرب العالمية الثانية عاد من جديد ليحدد الملامح البارزة في الدولة القومية حتى لو كانت رزحت تحت غطاء أيديولوجيا معينة لعقود عدة، فنحن ننتقل من عصر الأيديولوجيات إلى عصر القوميات، وتستدعي كلمة القومية مفهوماً خاصاً للدولة الوطنية التي نرى أنها هي القلعة الأخيرة للبناء الدولي في عالمنا المعاصر.
وستظل للقوميات اليد الطولى في تحريك مسار الأمم وتدافع الشعوب مهما طال أمد الأيديولوجيا حتى لو تغطت برداء ديني إلى حين، إن القومية وعاء إنساني لا يمكن تحطيمه كل الوقت ولا أزال أكرر أن تجربة استمرار القوميات تحت الغطاء الأيديولوجي للاتحاد السوفياتي هي خير دليل على صحة القول الذي يرى أن الأيديولوجيا يمكن أن تكون زائلة ولكن القومية تظل دائماً هي الباقية، إننا كأمة عربية نبدو في حال تماسك ولو ظاهري بمنطق قومي يعلو فوق غيره من الانتماءات والولاءات.
المقالة تعبر عن راي كاتبها
اندبندنت