دخل الصراع مع إسرائيل مرحلة مختلفة بات التعاطف الإنساني فيها أكثر من التأييد السياسي
مصطفى الفقي كاتب وباحث
عشت دائماً أشعر بغيرة وحسد تجاه الدولة العبرية وقدرة إسرائيل على توزيع الأدوار الداخلية بحيث يتم توظيف المواقف المختلفة وفقاً للمصالح العليا لدولتهم وذلك على حساب الحق العربي والشرعية الدولية مستغلين غفلة بعض الأطراف وسوء نية أخرى بحيث تتحقق مآرب دولة إسرائيل في ظل توزيع ذكي للأدوار ما بين يمين ويسار وأحزاب دينية وائتلاف بينها عند اللزوم.
وينكر الساسة الإسرائيليون ذواتهم في ظل المصالح العليا للبلاد متجاهلين تماماً الآثار السلبية الناجمة عن مواقفهم المتأرجحة بين الاعتدال المصطنع والتشدد الحقيقي، بل يرهنون أحياناً قرار الدولة على موافقة الكنيست الإسرائيلي الذي يجمع ألوان الطيف السياسي بحيث يكون للحكومة الإسرائيلية خط رجعة بعد صدور القرارات على اعتبار أن السلطة التشريعية هي “الفلتر” الأخير الذي يؤكد سلامة القرار ويبارك خطواته.
ولعلي أسوق هنا بعض الملاحظات الجوهرية المتصلة بهذه النقطة المحورية التي ندرك جميعاً أنها جزء من أدوات إسرائيل لتمرير سياساتها والدعاية لمواقفها على حساب العرب والفلسطينيين، بل والشرعية الدولية ذاتها، ولعل أهم هذه النقاط ما يلي:
أولاً: إن الديمقراطية المزعومة للدولة العبرية منقوصة تقوم على منهج عنصري وتفكير خبيث في الغالب يسمح فقط بتمرير ما يتفق مع مصالح الدولة حتى ولو تناقض ذلك تماماً مع المبادئ الديمقراطية ومع الشواهد المعاصرة لقضايا حقوق الإنسان، لذلك فإن الديمقراطية الإسرائيلية تبدو أحياناً وكأنها حق يراد به باطل على حساب الظروف والحقوق التي تسعى نحوها الدول في المنطقة، ولعل الفلسطينيين هم دافعو أكبر فاتورة في التاريخ المعاصر للنضال الوطني من أجل تحرير الأرض وتأكيد السيادة.
ثانياً: لا يجادل أحد في أن غيبة الديمقراطية في عدد كبير من الدول العربية أدت ولا تزال إلى حرماننا من فرصة مراجعة المواقف علناً والتبشير بما يمكن اعتباره استغلالاً حصيفاً وتمريراً ذكياً للقرارات الكبرى بحيث تكون هناك دائماً فرصة ثانية لتمحيص الآراء ومراجعة المواقف مع دعاية تتواكب مع الحدث تشير إلى الديمقراطية في إسرائيل وكيفية استخدامها في توظيف جيد لخدمة المصالح المستترة لهذه الدولة التي تبدو وكأنها بؤرة غربية وسط مستنقع شرقي.
إننا ما زلنا نتذكر الاتفاق الإطاري لكامب ديفيد في عهد الرئيس الراحل السادات وتوقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل في 26 مارس (آذار) عام 1979 وكيف توجهت انتقادات حادة لسياسات السادات في الوقت الذي تعمدت فيه إسرائيل تعليق ما تم الاتفاق عليه لحين تحقيق قراءة أولى وثانية وثالثة لبنود الاتفاق أمام أعضاء الكنيست الإسرائيلي.
ثالثاً: إن لعبة توزيع الأدوار ليست حكراً على السياسة الخارجية لدولة ما، بل هي أيضاً جزء لا يتجزأ من صفقة مكررة داخل إقليم معين أو دولة بذاتها، فقد عرفت مصر أنماطاً ساذجة من توزيع الأدوار حين كانت العائلات الكبيرة توجه أبناءها إلى تبني مواقف مختلفة بالانتماء المعتمد إلى أحزاب متعددة، ولعل مثال الأسرة “الأباظية” في مصر قبل عام 1952 هو خير نموذج لذلك، إذ كانت الأسماء اللامعة في تلك العائلة الكبيرة تتخذ مواقف حزبية لا تتفق بالضرورة مع بعضها، ولكنها تسمح غالباً بوجود وزير منها أو مسؤول كبير قريب من رأس السلطة يحمل الشعلة التي تنتمي إليها تلك الأسرة التاريخية المتميزة في تطور المجتمع المصري الحديث.
وما زلنا نشهد نماذج مثيلة لعائلات أخرى في مصر وبعض الدول العربية بحيث تسمح المنظومة العائلية باستغلال وظائف ليست على درجة واحدة من الاتفاق لخدمة مصالحها وتمرير أهدافها.
رابعاً: مسألة توزيع الأدوار ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقضية الديمقراطية وتتناسب طردياً معها، ففي غياب الديمقراطية لا تكون هناك تعددية، بالتالي لا توجد مساحة لتوزيع أدوار معدومة في ظل منطق الرأي الواحد والديمقراطية الغائبة، لذلك فإننا نظن أن من مزايا الديمقراطية الحديثة السماح بوجود أدوار متباينة تخدم أهدافاً مختلفة تصب في النهاية في المصلحة العليا للعائلة أو المجتمع كله أو الدولة بأسرها.
خامساً: لو نجحنا نحن العرب في الوصول إلى منظومة اختلاف تصل بنا في النهاية إلى توزيع للأدوار تستخدم الميزة النسبية لكل طرف عربي في مخاطبة من يستمعون لها، ولا بأس أن تكون أدوارنا متناقضة أحياناً، ولكنها تصل في النهاية إلى تحقيق الأهداف التي يتطلع إليها العرب، وذلك بعيداً من اللغة العربية التقليدية في تخوين الأشقاء وإضعاف أدوارهم بحجة احتكار القومية والتحدث المنفرد باسم الأوطان على حساب المصالح الكبرى للأمة العربية.
ولا بد أن اعترف هنا أنها مسألة معقدة وليست سهلة لأنها تفترض أولاً وجود الديمقراطية، وثانياً الاتفاق الضمني على توظيفها، وثالثاً وجود عملية توزيع أدوار تتصف بالذكاء واستخدام الأدوات المتاحة لدى كل طرف من أطراف المنظومة القومية التي تتسم بالذكاء وتسعى لتحقيق الأهداف العليا لكل مرحلة.
سادساً: إن الاختلاف لا يفسد للود قضية فتلك مقولة أعتز بها لأنها تعبر عن صميم المصالح العليا وكيفية الاختيار بين البدائل المتاحة في ظل ظروف تبدو أحياناً شديدة الحساسية بالغة التعقيد، ولكن الفطنة القومية، إذا جاز التعبير، تقوم بعملية فرز تلقائي لتحقيق أهداف كل مرحلة وفقاً للخريطة السياسية الإقليمية والدولية والمتغيرات الجارية والتحولات التي تحدث من وقت لآخر، لذلك فإن الأمر يتطلب إلى جانب الديمقراطية وجود منهج علمي في التحليل وقراءة الأحداث بحيث يسمح بوجودها وتوظيفها لخدمة غايات محددة قد تكون متضاربة في ظاهرها ولكنها تشكل في مجموعها منظومة واعية لخدمة السياسات الخارجية والأهداف الاستراتيجية.
سابعاً: عشت في الهند سنوات أربع ورأيت كيف يجري تطبيق الديمقراطية في بلد المليار ونصف المليار مواطن، بحيث تتحقق الأهداف والرؤى بترتيب تلقائي غير مكتوب، ويكفي أن دستور البلاد يحمي حرية الرأي وحق ممارسة العقيدة على رغم كثير من التجاوزات التي تحدث في بلد الديانات المختلفة والثقافات المتباينة واللغات المتعددة، والعبرة في النهاية بما يمكن أن يقدمه مفهوم توزيع الأدوار من خدمات كبرى للساسة وأصحاب القرار دون تخصيص لبلد بذاته أو التركيز على منطقة بعينها.
ثامناً: دعني أعترف صراحة أنني من المتحمسين للدولة البرلمانية ودعاة وجودها مثلما رأيت في دول خدمت فيها دبلوماسياً وأهمها بريطانيا والهند والنمسا، حيث اكتشفت أن النظام البرلماني هو نظام الأحزاب القوية التي يؤدي وجودها إلى مساحة كافية على الساحة العامة تسمح بتوزيع الأدوار وفقاً لتعدد الأحزاب السياسية، وفي ذلك برعت ديمقراطيات كثيرة تميزت بينها الدول البرلمانية التي يقود دفة الحياة السياسية فيها رئيس وزراء حظي حزبه بالأغلبية المنفردة أو داخل ائتلاف مع غيره، بحيث لا تتمكن جماعة مستبدة من القفز إلى السلطة أو تغيير المسار وتوجيه البلاد بغير ما يرضي الأغلب الأعم من أبنائها.
تاسعاً: إن الأمم والشعوب تملك رؤى مختلفة وتسلك طرقاً متعددة في عصر أصبحت فيه التعددية ظاهرة سياسية عامة لا يختلف حولها جمهور الناس لأنها تملك قنوات شرعية من أحزاب سياسية وجمعيات فكرية وتنظيمات دستورية تتناغم في مجملها محدثة سبيكة وطنية يدافع عنها الجميع لأنهم وصلوا إليها بالتراضي، ولم تتحقق لهم بالعنف أو سرقة الشعارات أو العبث بالمقدرات.
هذه قراءتنا لإحدى أهم القضايا التي نتطلع إليها كعرب ونعني بها قضية توزيع الأدوار التي برعت فيها دول غربية وآسيوية وحققت بها الدولة العبرية نتائج مشهودة على مر الأحداث المختلفة في الصراع العربي الإسرائيلي، الذي يدخل حالياً مرحلة مختلفة يوجد فيها من التعاطف الإنساني أكثر مما فيها من التأييد السياسي.
المقالة تعبر عن راي كاتبها
اندبندنت عربيه