الاجتهاد الديني والفلسفي لا يتحقق إلا في بيئة سياسية صحية وتحت مظلة ديمقراطية
أمين الزاوي كاتب ومفكر @aminzaoui1
حين نتأمل ما يحدث من تململ جغرافيا الأفكار وأسفار الأيديولوجيات، محاولين قراءة بعض ما يتقاطع منها بين الغرب والشرق، في عنف تارة وفي حرب تارة أخرى، وفي ما يشبه السلم تارة ثالثة، يحدث هذا ما بين أوروبا والعالم العربي والإسلامي، وفي الأساس حول أسفار الإسلام، تتأكد لنا بدءاً الفكرة المركزية الأولى: لقد أصبح الإسلام الشغل الشاغل للأوروبيين أكثر من العرب والمسلمين أنفسهم. استيقظوا على الإسلام في شكله الجديد الذي لم يعرفوه زمن صعود موجات المعرفة الاستشراقية بكل مدارسها.
على مدى القرنين الماضيين التاسع عشر والعشرين، تميزت علاقة الغرب بالإسلام بالبحث عن فحوى هذا الدين. كان التركيز قائماً على ما يمكن تسميته “الإسلام الثقافي”، إذ ظهرت مدرسة الاستشراق بما لها وما عليها، ولكنها في جوهر سؤالها كانت مدفوعة بسؤال معرفة ثقافة هذا العالم وشخصية هذا الإنسان ولغته وفكره، وإن كان قد تم استثمار بعضها لأغراض استعمارية. مع ذلك، يجب أن يعترف العرب بأن أهم نصوص التراث العربي الأدبي واللغوي والفلسفي والعلمي كانت من تحقيق مستشرقين، وأتصور أن الفضل يعود إلى الاستشراق الذي عرّف الإنسان العربي على تراثه، على نفسه.
مع بداية دقات ساعة الألفية الثالثة، أيقظ الإسلام السياسي الذي اجتاح أوروبا كلها وأميركا، في الأساس بعد هجومات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، النخب الفكرية والسياسية على سؤال جديد: هل تغير الإسلام أم تغير المسلم؟
وبدأت النخب الأوروبية تقليب هذه الأيديولوجيا من مقاربات مختلفة، بعضها مدفوع بالخوف من تغريق أوروبا بالمسلمين وتغيير بنيتها الفكرية والثقافية والحضارية، والبعض الآخر بالكراهية الدينية والعرقية، والبعض الآخر بنية حوار الحضارات وخدمة الإنسانية وتقاسم الخيرات المادية والمعنوية.
لا تزال النخب الأوروبية المعاصرة الراهنة تقرأ الإسلام ببعديه السياسي والثقافي الحضاري، في ظل موجة من عمليات إرهابية تتعرض لها المدن والمؤسسات والأفراد، في فرنسا وألمانيا وبلجيكا وإسبانيا والسويد وغيرها… إن القراءة والتفكير حين يكونان تحت الخوف والترهيب والقتل والتفجير يأخذان بعداً إشكالياً جديداً يتراوح ما بين “الاستعجال” و”المراجعة” و”الدقة”.
إذا كان جيل المستشرقين الأوروبيين في القرن التاسع عشر والعشرين قد أسس قراءته للإسلام في ظل حملات الغزو والاستعمارات التي كانت تقوم بها الجيوش الأوروبية (الفرنسية، والإنجليزية، والبلجيكية، والهولندية، والألمانية، والإيطالية، والإسبانية) للجنوب متوغلة في أفريقيا والشرق الأوسط، فإن النخب اليوم المنتمية لهذا الجيل الرقمي تقوم بقراءتها للإسلام في وقت يحط فيه المهاجرون على الشواطئ الإسبانية والإيطالية والفرنسية واليونانية… هي رحلة عكسية لكن نيتها واحدة. لقد كانت موجات الأقدام السوداء التي نزلت الجزائر المستعمرة منذ 1830 وفي الأساس في 1871، بغرض البحث عن أرض تطعمهم وتثريهم وتسعدهم. وهو الأمر نفسه الذي يحرك رغبات المهاجرين المسلمين اليوم، كان الأوروبي ذاهباً لعالم الجنوب وهو يتصوره شبيهاً بعالم ألف ليلة وليلة. وها هو المهاجر غير الشرعي يركب قوارب الموت، حيث يصل الآلاف منهم يومياً ويأخذ البحر منهم الآلاف، وهو يتصور بأنه ذاهب إلى عالم يشبه عالم ألف ليلة وليلة مليء بالمال والنساء والفانتازم. صحيح أن هجرات الأقدام السوداء الأوروبية نحو الجنوب كانت في حماية القوات العسكرية وتحت فلسفة استعمارية توسعية واضحة مسبقاً، لكن هجرة أبناء الجنوب اليوم نحو الشمال لا تقوم على فلسفة مسبقة، ولكن تحت فلسفة مؤجلة، ستظهر لاحقاً وتقوم على تكريس الوجود الديني والثقافي والإثني في المحيط الذي تصل إليه وتتموقع فيه. وإذا كانت الأقدام السوداء قد وجدت في الجيوش الاستعمارية قوى تحميها وتقنن لها الوجود على الأرض بالقوة والإبادة الجماعية، فإن المهاجرين يجدون من الحماية العقائدية من كثير من الدول الإسلامية الراعية للمؤسسات الثقافية والتربوية والدينية الحاضنة الأساسية للإسلام السياسي العنيف. مؤسسات تديرها جمعيات متشكلة من ميليشيات حولتها إلى ثكنات يتم فيها تدريب الأجيال الجديدة على ثقافة العنف ورفض قوانين الدولة المضيفة وخلق مجتمعين متناقضين ومتوازيين في “تَكَارُهٍ” و”صراع ” متواصلين.
كثير من الفلاسفة وعلماء الاجتماع وعلماء النفس والأنثروبلوجيين الأوروبيين يعكفون اليوم على تفكيك ظاهرة “إسلام أوروبا”. ويتم ذلك في ظل مجتمع حر فكرياً، حيث احترام حرية التعبير. لذا، نجد في السوق آراء كثيرة ومتضاربة تتضمنها كتب عديدة تنشر باستمرار لمفكرين قادمين من كل الآفاق، البعض من اليمين الليبرالي والآخر من اليمين المتطرف وآخر من الوسط وآخر من اليسار أو من اليسار المتطرف، من كتابات باسكال بونيفاس مروراً بميشيل أفري وبيير رابحي وإدغار موران وصولاً إلى برنار هنري- ليفي وإيريك زمور وغيرهم كثير. كما تشكلت مراكز بحث متخصصة بمجموعات باحثين في اختصاصات متعددة تلتقي جميعها حول ظاهرة الإسلام، وفتحت قنوات الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي نقاشات مفتوحة حول الموضوع نفسه.
أعتقد أن الإسلام ببعديه السياسي والأنثروبولوجي لم يعرف حركة بحث ودراسة وتساؤل مثلما يعرفها اليوم على المستوى العالمي، أي منذ أحداث 11 سبتمبر 2001. وجراء ذلك تكونت لدينا بنوك معرفة غنية بمعطيات مختلفة وبلغات عدة.
لقد شكلت الأزمة التي عرفتها أوروبا وأميركا من جراء انتشار عنف الإسلام السياسي على أراضيهما وفي أوساط مجتمعاتهما ما أسميه “الاجتهاد الجديد” في الإسلام، قامت به نخب أوروبية أو إسلامية مقيمة في أوروبا. لذا أعتقد أن هذه الأفكار التي تقدمها تلك النخب على تناقضاتها تمثل بالفعل مساهمة الآخر في باب “الاجتهاد حول الإسلام المهاجر”. ومثل هذا النقاش وهذا الجدل كان يجب أن يقع في بلاد المسلمين أولاً.
إن الاجتهاد الديني والفلسفي لا يتحقق إلا في بيئة سياسية صحية وتحت مظلة ديمقراطية. وهو ما يغيب في الدول العربية والإسلامية، وإن ما حدث في أوروبا من نقاش حول الإسلام سينتج لا محالة صورة وممارسة جديدتين للإسلام، وسيكون العالم الإسلامي بعد 50 سنة في انتظار هذا “الإسلام الجديد” الذي سيجيء من أوروبا وقد تم نحته داخل نقاش حر وبين تيارات مختلفة ومتناقضة ومن اختصاصات متعددة.
بعد السيارات والهامبورغر والأسلحة والعطور هل سيصدر العالم الأوروبي للعالم العربي والإسلامي “الإسلام الأوروبي” الجديد؟