وقائع سنوات النار


الجزائريون ما بعد الاستعمار كما أثناءه عاشوا في الرمق الأخير

أحمد الفيتوري كاتب

يقولون ليلى بالعراق مريضةٌ

فما لك لا تضنى وأنت صديقُ

شفى الله مرضى بالعراق فإنني

على كلِّ مرضى بالعراق شفيقُ

فإن تك ليلى بالعراق مريضةً

فإنيَ في بحر الحتوف غريقُ

أهِيم بأقْطارِ البلادِ وعَرْضِهَا

ومالي إلى ليلى الغداة طريـقُ.

مجنون ليلى

حرائق، حرائق، حرائق….

لكن إن كانت حرائق الأرض كلها من فعل ثقب في السماء فإن حرائق الجزائر من فعل فاعل، يمشي على الأرض، أو كما قيل بفم الجزائر الرسمية.

غبّ ولادتي 1955، كانت الجزائر في بيتنا، ووصلت حد طرف حينا “الصابري”، في مدينتي بنغازي. آنذاك، عجوز جزائرية تحج راجلة، عند ذهابها إلى الحج دعاها أبي إلى البيت، عند إيابها طال مقامها في بيتنا، لأن “معركة الجزائر” اندلعت، ولهذا مجاهدون، من جبهة تحرير الجزائر، أقاموا بمعسكر للتدريب على أطراف المدينة، التي كان “الصابري” آخر أحيائها الشرقية.

ولم تمر سنوات كثيرة، لأشاهد فيلم “جميلة بوحيرد”، أيقونة “معركة الجزائر”، ما كان عنوان فيلم، شاهدته أيضاً في الفترة نفسها، بعيد استقلال الجزائر 1962. بذا طفولتي جزائرية، وصباي، وأيضاً كبرت في ظلال الثورة الجزائرية حتى التخمة.

“وقائع سنوات الجمر”، الفيلم الجزائري، الفيلم العربي الوحيد، ما كان حصد جائزة مهرجان “كان”، ذا الفيلم جعله “القذافي” مقرراً علينا، في دور السينما ثم في التلفزيون. وهو فيلم ملحمي يلخص الملحمة الجزائرية، فيرصد العذابات، ووقائع المعاش، تحت سنابك الطبيعة، والوباء الطاعون، فالتاريخ وجند فرنسا الإمبريالية، ودون ثرثرة يرينا الفيلم الجميل: الاستعمار، مشروع فرنسة الجزائر 1830-1962.

عقب ثورة الإخاء والمساواة بسنوات، احتلت فرنسا الجزائر، وقد أرادت فرنستها، لكن من دون مبادئ الثورة، ولهذا لم يتبقَّ من المشروع “الفرنسة” غير العنف والأمية والفقر، ما ورثته الجزائر المستقلة. الجزائر التي خاضت حرب تحرير باهظة الثمن، فالثورة الجزائرية دفعت ثمناً، في تقديري، يساوي ما تكبدته الجزائر، منذ الاحتلال 1830 وحتى اندلاع الثورة 1954. هذا الثمن الغالي، واصل الجزائريون دفعه، منذ الاستقلال وحتى الساعة، وقد كنت عند مشاهدة حرائق غابات الجزائر، خلال الأيام الفائتة، في أجواء التجارب النووية الفرنسية، في صحراء الجزائر، حيث شاهدت شريطاً وثائقياً مترجماً، في محطة فرنسية.

الثمن الباهظ ما دفع الجزائريون زاد، فقد دخلت الجزائر، غبّ الاستقلال، في حرب مع المغرب، لم تنتهِ حتى الساعة، كذلك اندلع صراع على السلطة، ختم بانقلاب عسكري. في الوقت نفسه، الذي جعل فيه الكولونيل هواري بومدين من الجزائر قائدة لتحرير العالم الثالث، كان رفاق الأمس قد شردوا بين السجون والمنافي. ثم فشل المشروع التنموي الاشتراكي، وهكذا بددت ثروة الجزائر النفطية وحتى البشرية.

الجزائريون ما بعد الاستعمار كما أثناءه، عاشوا في الرمق الأخير، وقدموا أثناء الثورة ما قدموه بعدها، واختتم هذا المسلسل بالحرب الأهلية الاستثنائية، أو ما عرف بالعشرية السوداء، وقد كان ذلك يتم على مذبح الهوية، ما لا أظن أن كان، لهذا المذبح، أيما صدقية في الواقع الجزائري. وللخلاص من هذه العشرية دخل الجزائريون في عقود من تضييع الجهد والوقت والمال.

ومن هذا وذاك، لم يتسنَّ للجزائري أن يلتقط الأنفاس مرة منذ 1830، فقد عاش في حروب ساخنة أو باردة، وكافح من أجل حرية الجزائر، وعاش في حرائق متتالية، من أجل هذه الحرية، المذبح الذي لم يشبع، ولم يستتب أمن الجزائر، ولا استقرت أوضاعها.

وكما أشرت إلى أني عرفت السينما الجزائرية، كسينما لتسجيل حروب الجزائر، فإني عرفت أيضاً، آداب الجزائر، تعكس بشكل أو آخر المكابدة الجزائرية، ومن هذا فإن الجزائر المعاصرة، مسرح التراجيديا أو الترجيكوميدي (الكوميديا السوداء). وفي هذا الكادر صارت الجزائر، التي قدمت، كل استحقاق ممكن وحتى المستحيل، لأجل حياة عادية.

مرّ على مخيلتي سيناريو هذه الجزائر، عند مشاهدتي الحرائق، التي سواء من فعل فاعل أرضي أو من السماء، هي تكثيف للأوضاع الاستثنائية، التي تعيشها الجزائر ما بعد الاستعمار.    

حرائق، حرائق، وحرائق الجزائر، من فعل فاعل، يمشي على الأرض، أو كما قيل بفم الجزائر الرسمية. وعند كل حدث يعاد ويكرر، أن ثمة فاعلاً، فإن كان مجهولاً أو معلوماً، فمُسماه مؤامرة خارجية.

أكان خارجياً أو داخلياً، فعلى أي حال، إن تشخيصاً كهذا لم يعالج الجزائر المريضة. وحالي في هذه البكائية حال غريق في بلاده، بل حال مجنون ليلى، من يرثي حاله.