يعتقد كثيرون أن إنكار الذات يساعد على بناء علاقات شخصية قوية وصادقة، على عكس الأنانية التي يمكن أن تهدم أي علاقة إنسانية.
وفي تقرير نشرته مجلة “سيكولوجي توداي” (psychologytoday) الأميركية، يقول المختص في علم النفس السريري دانييل لوبيل إن هذه الفكرة الشائعة ليست صحيحة تماما، لأن إنكار الذات يُمكن بدوره أن يهدم العلاقات الحميمة.
ويرى الكاتب أن تحقيق التوازن بين الأنانية وإنكار الذات، هو الوصفة السحرية لبناء علاقة تقوم على الصدق والمشاركة وتفهّم رغبات الطرف الآخر.
ما الأنانية؟
المفهوم السائد أن الإنسان الأناني هو ذلك الشخص لا يهتم إلا بنفسه، ويتفاخر بتجاهل حاجات الآخرين ومشاعرهم، مما يتسبب في نفورهم منه وتجنبه. ولكن مصطلح الأنانية يشير في الحقيقة إلى من يضع رغباته واحتياجاته فوق رغبات الآخرين واحتياجاتهم.
ما إنكار الذات؟
في المقابل، يُعتبر إنكار الذات عند أغلب الناس من الخصال الجيدة، ويُنظر إلى من يتصفون به على أنهم كرماء وعاطفيون وقادرون على بناء علاقات إنسانية تتسم بالألفة والمحبة.
ولكن هذا المصطلح يعني من وجهة نظر علمية: الشخص الذي ينبذ ذاته ويقدّم احتياجات الآخرين على احتياجاته، لأنه لا ينظر إلى ذاته بكثير من التقدير بل يربط سعادته الذاتية بإيثار الآخرين، وهو ما يُعرف بسلوك “إرضاء الناس”.
ما الفرق بين الأناني وغير الأناني؟
من أهم ركائز بناء العلاقات الحميمة: التعبير عن الذات، أي أن تفصح عن أفكارك ومشاعرك والأشياء التي تحبها، وهو ما يكسر الحواجز ويساعد على توطيد العلاقات الإنسانية.
وفيما يأتي، يتخيّل الكاتب محادثة بين سالي “غير الأنانية”، وصديقتها هايلي:
هايلي: أين تودين أن تذهبي لتناول العشاء الليلة؟
سالي: حيثما تريدين، أنا موافقة.
هايلي: ماذا تريدين أن تأكلي؟
سالي: لا يهم، اختاري أنت المكان وسأجد ما آكله.
للوهلة الأولى، نرى أن من السهل التعايش مع سالي الودودة، إلا أنها باستسلامها لقرارات صديقتها، لم تفصح عن شخصيتها ورغباتها، بل على عكس ذلك تماما، أخفت مشاعرها ولم تُظهر ميولها، وبذلك عرقلت بناء علاقة حميمة صادقة مع هايلي.
لنتخيل أن المحادثة ذاتها كانت مع شخص أناني.
ماك: أين تحب أن نتناول العشاء الليلة؟
سام: أعرف مطعما جيدا يقدم وجبات لحم شهية.
ماك: أين يقع؟
سام: يبعد حوالي ساعة من هنا. لم لا تذهب وتحضر سيارتك؟ لا أفضل القيادة اليوم.
مع أن سام يبدو شخصا يصعب التعامل معه -وفقا للكاتب- إلا أن صديقه يعرف عنه الكثير، لأنه يهتم بنفسه ويعبّر بوضوح عن رغباته، ولا يكترث لمشاعر ماك أو أي أحد من حوله.
كيف نبني علاقة صادقة؟
يؤكد الكاتب أن التعبير عن الذات لا يكون مجديا في بناء العلاقات الحميمة إلا إذا تفاعل معه الطرف الآخر بشكل إيجابي.
ظاهريا، تبدو سالي صديقة متفهمة، إذ إنها مستعدة لمسايرة كل رغبات صديقتها، لكن هايلي لم تطرح السؤال حتى توافقها سالي، بل لتأخذ رأيها وتتبادل معها الأفكار وتعرف رغباتها، غير أن سالي لم تتجاوب.
أما سام، فإنه لم يبذل أي جهد ليُظهر لصديقه أنه يتفهمه ويسايره، لكنه جعل ماك يتفهم رغباته ويسايره.
وفي كلتا الحالتين، فإن العلاقة لم تصل إلى درجة الحميمية والتفاهم بين الطرفين، إذ إن سالي التي تنكر ذاتها رفضت الإفصاح عن مشاعرها ورغباتها، وسام الأناني لم يكن مهتما بتاتا بمعرفة رغبات صديقه.
وهنا يتساءل الكاتب، لماذا تُعتبر شخصية سالي مقبولة اجتماعيا، ويُنظر إليها كشخصية متفّهمة، رغم أنها لا تستطيع بناء علاقة حميمة صادقة؟
والجواب من وجهة نظره أن سالي تستطيع أن تكون الشخصية التي يحبّذها الطرف الآخر، من خلال موافقتها على كل رغبات صديقتها، لكن دون الوصول إلى درجة الحميمية في العلاقة.
أما أكبر عائق أمام بناء العلاقات الحميمة للأشخاص الأنانيين، فهو عدم اكتراثهم بالشخص المقابل. حينها سيظهر الصديق كأنه غير موجود تماما، وأن مشاعره وحاجاته ليست لها أي أهمية، ولن يشعر ماك بالتالي أن سام صديق مقرّب.
كيف تحقق التوازن بين الأنانية وإنكار الذات؟
العلاقة الحميمة تتطلب الصدق والتفهم بين شخصين يستطيعان تحقيق التوازن بين الأنانية وإنكار الذات، ويكون ذلك من خلال:
- التمتع بالقدر الكافي من “الأنانية” الكافية للتعبير عن احتياجاتك والإفصاح عن رغباتك.
- الإيثار الكافي لوضع مشاعرك جانبا والإحساس بمشاعر الشخص الآخر.
- بعض “الأنانية” ضرورية للتفاعل مع الآخر دون أن تفقد شخصيتك.
- وبعض إنكار الذات ضروري بقدر يسمح بالتمتع بشعور إسعاد الآخر والتجاوب معه.
المصدر : الصحافة الأميركية