كيف تخلّت منظمة التحرير الفلسطينية عن
النضال المسلح فتاهت في سرداب التفاوض؟
عربي بوست
يخوض الفلسطينيون معركة فاصلة ربما هي الأهم في تاريخ نضالهم ضد إسرائيل، منذ زرعها على أرض فلسطين. وتقود المعركة فصائل المقاومة، فأين منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت يوماً الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني؟
فتلك المنظمة تأسّست قبل 60 عاماً بهدف “تحرير فلسطين عبر الكفاح المسلح”، فماذا حلَ بكفاحها وتاريخها النضالي؟ وما دورها الآن مما يحدث؟
وكيف تحولت منظمة التحرير إلى السلطة الفلسطينية، نتيجة لمسار التفاوض مع إسرائيل؟ واليوم، بعد أن أعلنها نتنياهو وحكومته في إسرائيل عالية مدوية “لا لدولة فلسطينية”، فلماذا إصرار السلطة/ منظمة التحرير على مواصلة مسار التفاوض؟
أين اختفى نضال ياسر عرفات، الذي قال يوماً من على منبر الأمم المتحدة: “لقد جئتكم .. بغصن الزيتون مع بندقية ثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي”؟!
“على القدس رايحين، شهداء بالملايين”! كان يوماً شعار رئيس منظمة التحرير أبو عمار، فكيف تحولت المنظمة إلى السلطة؟ وهل ما زالت تمتلك الشرعية بين الفلسطينيين؟ هذه الأسئلة وغيرها كثير تمثل قصة تستحق أن تُروى الآن تحديداً، إذا ما أراد أهل القضية الاستفادة من دروس ما حدث على مدى نحو 8 عقود، جزء منها اعتمد النضال والمقاومة المسلحة، وجزء قرر إلقاء السلاح جانباً والدخول في دهاليز المفاوضات مع الاحتلال. في هذا التقرير، سنركز على منظمة التحرير الفلسطينية منذ النشأة وحتى اليوم
نشأة منظمة التحرير الفلسطينية
رسمياً تأسست منظمة التحرير الفلسطينية يوم 28 مايو/أيار عام 1964، من خلال فعاليات المؤتمر الفلسطيني الأول، الذي عُقد في القدس. وكان الهدف الرئيسي من إنشاء المنظمة هو “تحرير فلسطين عبر الكفاح المسلح”.
جاءت فكرة تأسيس منظمة فلسطينية موحدة لتحقيق هذا الهدف خلال القمة العربية الأولى المنعقد في العاصمة المصرية القاهرة مطلع العام نفسه، وكان الهدف هو وجود قيادة فلسطينية موحدة تمثل فلسطين في المحافل الدولية.
ففي ذلك الوقت، كانت إسرائيل، منذ الإعلان عن قيامها كدولة عام 1948، تحتل الجزء الأكبر من فلسطين، باستثناء القدس والضفة الغربية وقطاع غزة. ولم يتوقف الفلسطينيون يوماً عن مقاومة الاحتلال والتهجير من أراضيهم، حتى قبل الإعلان عن تأسيس إسرائيل، فكانت هناك حركات مقاومة فلسطينية متعددة طوال الوقت، لكن قضية فلسطين كانت قضية عربية أيضاً، فالضفة الغربية والقدس كانتا تحت إدارة الأردن، بينما قطاع غزة كان تحت الإدارة المصرية.
وكان لفلسطين مقعدها في جامعة الدول العربية منذ تأسيسها عام 1945، رغم وقوع فلسطين تحت الانتداب البريطاني. وبعد الإعلان عن إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، أصبح أحمد الشقيري رئيسها الأول، ومن المهم هنا التوقف عند البيان التأسيسي للمنظمة، والذي صدر عن المؤتمر الفلسطيني الأول في القدس:
يقول البيان: “إيماناً بحق الشعب العربي الفلسطيني في وطنه المقدس فلسطين، وتأكيداً لحتمية معركة تحرير الجزء المغتصب منه وعزمه وإصراره على إبراز كيانه الثوري الفعّال وتعبئة طاقاته وإمكانياته وقواه المادية والعسكرية والروحية، وتحقيقاً لأمنية أصيلة من أماني الأمة العربية ممثلة في قرارات جامعة الدول العربية ومؤتمر القمة العربي الأول.
“نعلن بعد الاتكال على الله باسم المؤتمر العربي الفلسطيني الأول المنعقد في مدينة القدس يوم 28 مايو/ أيار 1964:
قيام منظمة التحرير الفلسطينية قيادة معبئة لقوى الشعب العربي الفلسطيني لخوض معركة التحرير، ودرعاً لحقوق شعب فلسطين وأمانيه، وطريقاً للنصر.
المصادقة على الميثاق القومي لمنظمة التحرير الفلسطينية وعدد بنوده 29 بنداً.
المصادقة على النظام الأساسي وعدد بنوده 31 بنداً واللائحة الداخلية للمجلس الوطني والصندوق القومي الفلسطيني.
انتخاب السيد أحمد الشقيري رئيساً للجنة التنفيذية وتكليفة باختيار أعضاء اللجنة التنفيذية وعددهم 15 عضواً.
يصبح المؤتمر بكامل أعضائه، الـ397 عضواً، “الأول لمنظمة التحرير الفلسطينية”.
ياسر عرفات وتأسيس حركة فتح
ربما يختلط الأمر على الأجيال الأصغر فتظن أن منظمة التحرير وحركة فتح شيء واحد، لكن الحقيقة هي أن فتح أو حركة التحرر الفلسطيني هي جزء من منظمة التحرير، التي يفترض أنها الممثل الشرعي الوحيد للفلسطينيين، أو هكذا كانت على الأقل.
ولم يكن ياسر عرفات، الزعيم التاريخي لحركة فتح، هو الرئيس الأول لمنظمة التحرير الفلسطينية، بل رئيسها الثالث، وكان أحد مؤسسي فتح، وهي الحركة التي تأسست في وقت ما من عام 1958، لكن تم الإعلان رسمياً عن جناحها العسكري في الأول من يناير/كانون الثاني عام 1965، أي بعد شهور من تأسيس منظمة التحرير.
كان عرفات ورفاقه المؤسسون لحركة فتح يؤمنون بأن تحرير فلسطين يقع على عاتق الفلسطينيين بالأساس، فالأنظمة العربية لكل منها حساباته ومصالحه الخاصة، ومن هذا المنطلق كان أبو عمار حريصاً على إشراك الفلسطينيين جميعاً، داخل فلسطين وخارجها، في النضال من أجل التحرير، بصورة أو بأخرى. وفي الوقت نفسه، كان يسعى إلى كسب تعاطف الرأي العام العربي والإقليمي والدولي لقضية فلسطين
متى أصبح عرفات رمزاً للقضية الفلسطينية؟
شهد تاريخ منظمة التحرير، منذ عام 1964 وحتى 1969، مرحلة التأسيس والتجاذبات بينها وبين فصائل المقاومة (أو الفدائيين) بسبب تحفظات البعض على طبيعة المنظمة ودورها في النضال لتحرير فلسطين، انطلاقاً من الإعلان عنها في مؤتمر قمة عربية، وهو ما رأى البعض من المقاومين الفلسطينيين أنه سيؤثر على قرارات المنظمة ككيان فلسطيني مستقل. وسعى أحمد الشقيري، الرئيس الأول لمنظمة التحرير، إلى إقناع جميع الأطراف الفلسطينية بأن المنظمة مستقلة في قراراتها وتتبنى الأهداف الثورية والنضالية.
وخلال تلك الفترة كانت الفصائل والحركات النضالية، وأبرزها حركة فتح، لا تتوقف عن مهاجمة الأهداف الإسرائيلية داخل فلسطين وخارجها، في إطار النضال لتحرير فلسطين.
وبعد تعرض الجيوش العربية للهزيمة أمام إسرائيل في حرب يونيو/حزيران 1967، واحتلال ما تبقى من أرض فلسطين بشكل كامل، إضافة إلى هضبة الجولان السورية وشبه جزيرة سيناء المصرية ومنطقة نهر الأردن، أيقن الفلسطينيون أنه لا أحد غيرهم سيكون قادراً على مواصلة النضال لتحرير فلسطين، وكان لتلك الهزيمة أو “النكسة” كما بات العرب يطلقون عليها، أثر بالغ على منظمة التحرير وقضية فلسطين بشكل عام.
وجّه رئيس منظمة التحرير وقتها (أحمد الشقيري) اللوم للقادة العرب خلال قمة الخرطوم، أو قمة “اللاءات الثلاث؛ لا سلام مع إسرائيل ولا اعتراف بدولة إسرائيل ولا مفاوضات مع إسرائيل”، وتقدم باستقالته من رئاسة المنظمة، ليخلفه يحيى حموده في رئاسة منظمة التحرير.
في ذلك الوقت، كان ياسر عرفات، زعيم حركة فتح، موجوداً في الأردن مع مقاتلي فتح، وبعد أقل من عام على هزيمة يونيو/حزيران، وقعت معركة الكرامة، التي كانت محطة رئيسية في بروز عرفات على المسرح العالمي للمرة الأولى؛ إذ نشرت مجلة Time الأمريكية الشهيرة قصة عنه وعن حركة فتح، وتصدرت صورته غلاف العدد (13 ديسمبر/كانون الأول 1968).
وقعت معركة الكرامة في مارس/آذار 1968، عندما حاولت قوات الاحتلال الإسرائيلي القضاء على مقاتلي “العاصفة”، وهي الجناح العسكري لحركة فتح وقتها، واحتلال الضفة الشرقية لنهر الأردن، لكن مقاتلي “العاصفة” تصدوا لجيش الاحتلال، الأكثر عدداً وعتاداً بكثير، ودارت معركة شرسة على طول جبهة القتال من أقصى شمال الأردن إلى جنوب البحر الميت.
واضطرت قوات الاحتلال إلى الانسحاب بعد معركة دامية على أرض قرية الكرامة، شارك فيها أهالي القرية وكتيبة من الجيش الأردني، وأظهرت قوات العاصفة، التابعة للحركة، صموداً بطولياً، أجبر الإسرائيليين على الفرار تاركين قتلاهم في أرض المعركة، ولم تحقق إسرائيل أياً من أهدافها.
“طريقنا هو طريق التضحية والفداء حتى نحرر وطننا فلسطين. وإذا لم نتمكن من تحقيق هذا الهدف، فسوف يأتي أبناؤنا ويواصلون المسيرة، ومن بعدهم أبناؤهم”، هذا ما قاله ياسر عرفات للتايم في ذلك الوقت. كانت معركة الكرامة محطة بارزة على طريق النضال لتحرير فلسطين وجعلت من ياسر عرفات رمزاً بارزاً لهذا النضال، واكتسبت حركة فتح شعبية طاغية بين الفلسطينيين والعرب. وفي الثالث من فبراير/شباط، انضمت فتح إلى منظمة التحرير الفلسطينية وأصبح ياسر عرفات رئيساً للمنظمة، وذلك في مؤتمر تم عقده في العاصمة المصرية
منظمة التحرير.. مرحلة الكفاح المسلح
كان الكفاح المسلح هو المسار المعتمد لتحقيق هدف تحرير فلسطين، وظل هذا المسار يحظى بإجماع فلسطيني، وكانت منظمة التحرير هي المظلة التي تضم كل التنظيمات والحركات المقاومة. وبعد انضمام حركة فتح للمنظمة وتولي عرفات رئاسة مجلسها التنفيذي، أرسى المبدأ ذاته.
لكن بعد 5 سنوات فقط، أعلن عرفات -بصفته رئيساً لمنظمة التحرير- في عام 1974 عن برنامج من 10 نقاط يقبل بتسوية مع الإسرائيليين، تشمل انسحاباً إسرائيلياً من قطاع غزة والضفة الغربية ليقيم الفلسطينيون دولتهم عليها، وهنا بدأت رحلة الانشقاقات داخل منظمة التحرير.
فالإعلان تم إعداده من جانب قيادات حركة فتح بالأساس، وتسبب هذا البرنامج، رغم أنه لا ينص على الاعتراف بدولة إسرائيل أو وقف الكفاح المسلح، في انسحاب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين من منظمة التحرير.
لكن القمة العربية السابعة التي عُقدت في المغرب اعتمدت برنامج عرفات ورفاقه في فتح، واعتبرت أن “منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني” وتم قبولها كعضو كامل الصلاحيات في جامعة الدول العربية.
وفي العام ذاته، ألقى عرفات خطاباً شهيراً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، ليصبح أول زعيم بدون دولة يلقي خطاباً أمام الأمم المتحدة، وفيه وجّه إحدى عباراته الشهيرة للعالم قائلاً: “لقد جئتكم .. بغصن الزيتون مع بندقية ثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي”. (خطاب ياسر عرفات)
فماذا كان ياسر عرفات ورفاقه بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة والغرب؟ كانوا مصنفين “إرهابيين”، وتطرق عرفات لخطابه الشهير لهذه النقطة: “إن التأمل بكل هذه الأعمال (التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي) لا يمكن أن يطلق عليه من وصف غير وصف الإرهاب الهمجي، ومع ذلك يتجرأ هؤلاء الإرهابيون الغزاة العنصريون على تسمية نضالات شعبنا العادلة بالأعمال الإرهابية. هل يوجد ثمة تجرؤ على الباطل والتزييف أشد من هذا؟”
وأعلن عرفات أمام العالم رفض خطة تقسيم فلسطين، وشبه قرار التقسيم بالمرأتين اللتين تنازعتا على طفل عند الملك سليمان، وشبه موقف منظمة التحرير الفلسطينية بموقف المرأة التي رفضت تقسيم ابنها بحسب ما أمر به سليمان لاستجلاء الحقيقة، وحرص الزعيم الفلسطيني على توضيح عدم معاداة اليهود وإنما معاداة الصهيونية الاستعمارية.
وبعد أن وقّعت مصر اتفاقية سلام مع إسرائيل عام 1979، عارض عرفات ومنظمة التحرير وجميع حركات المقاومة الفلسطينية ذلك الاتفاق، الذي كان أول اعتراف رسمي من دولة عربية بإسرائيل كدولة، وتم نقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس، بعد أن قرر القادة العرب في اجتماعهم ببغداد طرد مصر من عضوية الجامعة.
كثيرة هي تفاصيل تلك المرحلة النضالية من تاريخ منظمة التحرير الفلسطينية، وتتداخل مع التفاصيل المحلية في كل دولة عربية وفي المنطقة والعالم أيضاً، فقد تحولت القضية الفلسطينية إلى صراع مستمر، لم يتوقف خلاله الفلسطينيون عن المقاومة والصمود، ولم تتوقف إسرائيل عن محاولات فرض الأمر الواقع في فلسطين وباقي المناطق العربية التي تحتلها، من خلال الاستيطان.
وبعد أن اجتاحت إسرائيل جنوب لبنان وحاصرت بيروت، غادرت قيادات منظمة التحرير وعشرات الآلاف من مقاتليها لبنان إلى تونس، في ظل حماية دولية، وكان ذلك في عام 1982.
أمعن الاحتلال الإسرائيلي في التنكيل بالفلسطينيين في داخل فلسطين، بينما تتواصل معاناة المهجرين في الشتات منذ النكبة عام 1948، وكان من الطبيعي أن يؤدي ذلك كله إلى الانفجار. ففي عام 1986، كتب أبا إيبان (وزير خارجية إسرائيل الأسبق) تقريراً، جاء فيه: “إن الفلسطينيين يعيشون محرومين من حق التصويت أو من حق اختيار من يمثلهم. ليس لديهم أي سلطة على الحكومة التي تتحكم في أوضاعهم المعيشية. إنهم يتعرضون لضغوط وعقوبات ما كان لهم أن يتعرضوا لها لو كانوا يهوداً […] إن هذه الحالة لن تستمر دون أن يؤدي ذلك إلى انفجار”.
انتفاضة الحجارة في فلسطين
انفجرت الأمور بالفعل، واندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى أو انتفاضة الحجارة عام 1987، وعُرفت باسم “انتفاضة الحجارة”، واندلعت من قطاع غزة ثم انتشرت في أرجاء الضفة الغربية، واستمرت ست سنوات تقريباً، حيث لم تتوقف إلا بعد توقيع اتفاقية أوسلو الأولى عام 1993، بين منظمة التحرير -كان مقرها تونس- وبين إسرائيل.
تعتبر انتفاضة الحجارة نقطة مفصلية على طريق النضال الفلسطيني، حيث أعادت التأكيد على أن الشعب لن يقبل الاحتلال مهما طال الزمن وأن الكفاح بأنواعه ضد المحتل هو السبيل الوحيد لتحرير الأرض. ومن رحم هذه الانتفاضة ولدت حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية “حماس”. كما أرست تلك السنوات ثوابت غاية في الأهمية على طريق النضال الفلسطيني، أبرزها:
– عرب 1948: سارع فلسطينيو الداخل بالمشاركة في الانتفاضة، عبر تنظيم المظاهرات وتقديم المساعدات المالية والعينية لإخوانهم في الضفة وغزة، ونظموا إضرابات مدنية. كما بدأ عرب الداخل في تنظيم صفوفهم والمشاركة بفعالية في الانتخابات الإسرائيلية والتصويت لأحزاب شكلوها، فيما يمكن وصفه بتسريع “فلسطنة” عرب الداخل وإدماجهم في النضال.
– اكتسبت قضية فلسطين ونضال شعبها البطولي مزيداً من التعاطف الدولي، خصوصاً مع انتشار صور الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال بحق أطفال وشباب فلسطين وأهلها، فصور جنود مدججين بالسلاح يكسرون عمداً ذراع طفل فلسطيني يلقي الحجارة كانت معبرة ولا تحتاج لشرح.
-مشاركة جميع الفلسطينيين في الداخل والخارج في الانتفاضة، كل على طريقته وبما يمكنه المساهمة به، مثّلت ورقة ضغط كبيرة في يد منظمة التحرير الفلسطينية وزعيمها ياسر عرفات، في مسعى الحصول على حقوق الشعب الفلسطيني.
المنظمة وبداية رحلة التنازلات
هنا بدأ فصل جديد في مسيرة منظمة التحرير وخياراتها الأساسية، حيث أجبرت الانتفاضة الأطراف الدولية على عقد مؤتمر دولي للسلام، استضافته العاصمة الإسبانية مدريد، وكان ذلك عام 1991. كانت هناك تفاصيل تتعلق بالمشهد العربي والدولي ساهمت في جعل الولايات المتحدة، التي كانت بصدد الانفراد بالهيمنة على العالم في ظل بوادر تفكك الاتحاد السوفييتي، تسعى “لتهدئة” الشرق الأوسط الملتهب حفاظاً على مصالحها.
أصرت إسرائيل على ألا تشارك منظمة التحرير في مؤتمر مدريد وأن تقتصر المشاركة على فلسطينيي الداخل، فتشكل وفد أردني فلسطيني وعقد المؤتمر وتليت الخطابات المعتادة بلا نتيجة. وتلت ذلك 11 جولة من المفاوضات في واشنطن لم تؤد إلى نتيجة أيضاً.
لكن كانت هناك مفاوضات أخرى سرية في ضيافة العاصمة النرويجية أوسلو، جمعت منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، وانتهت بإعلان اتفاقية أوسلو الأولى (1993)، أو اتفاق غزة- أريحا، فماذا قدمت إسرائيل من تنازلات؟ وماذا قدمت منظمة التحرير من تنازلات كي يتم التوصل إلى أرضية مشتركة كطبيعة أي اتفاق ينتج عن التفاوض؟
نبدأ أولاً بخطاب ياسر عرفات إلى رئيس وزراء إسرائيل وقتها إسحق رابين، بتاريخ 9 سبتمبر/أيلول 1993، وذلك في إطار التجهيز النهائي للتوقيع على اتفاق المبادئ بين الطرفين (أي قبل 4 أيام فقط من اتفاقية أوسلو الموقعة يوم 13 سبتمبر/أيلول)، فبماذا التزم عرفات؟
“إن توقيع إعلان المبادئ يمثل حقبة جديدة… أود أن أؤكد التزامات منظمة التحرير الفلسطينية التالية: تعترف منظمة التحرير الفلسطينية بحق دولة إسرائيل في الوجود في سلام وأمن. منظمة التحرير الفلسطينية تقبل قراري مجلس الأمن 242 و 338. تلتزم منظمة التحرير الفلسطينية… بحل سلمي للصراع بين الجانبين وتعلن أن جميع القضايا المعلقة المتعلقة بالوضع الدائم ستحل عن طريق المفاوضات… منظمة التحرير الفلسطينية تتعهد بنبذ استخدام الإرهاب وغيره من أعمال العنف وستتحمل المسؤولية على جميع عناصر وموظفي منظمة التحرير الفلسطينية من أجل ضمان امتثالهم ومنع الانتهاكات والانضباط للمخالفين… تؤكد منظمة التحرير الفلسطينية أن مواد العهد الفلسطيني التي تحرم إسرائيل من حقها في الوجود وأن أحكام العهد التي لا تتفق مع التزامات هذه الرسالة أصبحت الآن غير صالحة ولم تعد صالحة. بناء على ذلك تتعهد منظمة التحرير الفلسطينية بأن تقدم إلى المجلس الوطني الفلسطيني الموافقة الرسمية على التغييرات اللازمة فيما يتعلق بالعهد الفلسطيني”.
بماذا التزمت إسرائيل إذاً؟
كتب إسحق رابين إلى عرفات في اليوم نفسه: “رداً على رسالتكم المؤرخة 9 سبتمبر/أيلول 1993، أود أن أؤكد لكم أن حكومة إسرائيل قررت في ضوء التزامات منظمة التحرير الفلسطينية الواردة في رسالتكم أن تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية بوصفها ممثلة للشعب الفلسطيني وأن تبدأ المفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية في إطار عملية السلام في الشرق الأوسط.”
اعترفت إسرائيل بأن منظمة التحرير هي الممثل للشعب الفلسطيني وببداية المفاوضات في إطار “عملية السلام في الشرق الأوسط”، مقابل اعتراف المنظمة بحق “دولة إسرائيل في الوجود في سلام وأمن” وبأن جميع القضايا ستحل عبر المفاوضات فقط، والأخطر “نبذ الإرهاب والعنف بأشكاله”، أي أن مقاومة المحتل صارت “إرهاباً”.
قدمت منظمة التحرير كل شيء لإسرائيل مقابل ماذا؟ تحول المنظمة إلى سلطة تدير شؤون الفلسطينيين المدنية في قطاع غزة وبعض مناطق الضفة الغربية وتنسق أمنياً وفي جميع الملفات الأخرى مع الاحتلال، فماذا كانت النتيجة؟
المنظمة أصبحت السلطة!
عاد ياسر عرفات وقيادات منظمة التحرير الفلسطينية إلى أرض فلسطين يوم 1 يوليو/تموز عام 1994، واستقبله الفلسطينيون في قطاع غزة، حيث توجه إلى مخيم جباليا -الذي منه اندلعت شرارة انتفاضة الحجارة- وخاطب الحشود قائلاً: “قد لا تكون هذه الاتفاقية ملبية لتطلعات البعض منكم، لكنها كانت أفضل ما أمكننا الحصول عليه في ظل الظروف الدولية والعربية الراهنة”.
وهنا لابد من التوقف عند أمرين هامين:
– الأول: أن قيادات منظمة التحرير كانوا يتولون مناصب في المنظمة وفي حركة فتح وفي السلطة أيضاً. أي أن فصيلاً واحداً (حركة فتح) بات يسيطر على منظمة التحرير، ومن ثم جاءت تشكيلة السلطة الفلسطينية من هذا الفصيل. فياسر عرفات بات رئيس السلطة ورئيس منظمة التحرير ورئيس حركة فتح في الوقت نفسه، وبعد وفاته ورث محمود عباس المناصب ذاتها. صائب عريقات كان كبير المفاوضين الفلسطينيين وفي الوقت نفسه كان أمين سر منظمة التحرير، وهكذا اختلطت السلطة بالمنظمة بحركة فتح.
– الثاني: الفصائل التي انشقت عن منظمة التحرير أو لم تنضم إليها يوماً، مثل حركة حماس، بدأت تكتسب أرضية وشعبية كبيرة بين الفلسطينيين، بعد تخلّي منظمة التحرير عن مسار الكفاح المسلح وتبنّي خيار التفاوض.
توجه عرفات إلى أريحا، المقر الأول للسلطة، حيث أعلن تشكيل أول حكومة فلسطينية، وكان يفترض أن تنتهي المفاوضات مع إسرائيل بإعلان قيام الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967 خلال 5 سنوات، لكن أثبتت الأحداث اللاحقة ما كان يحذر منه الرافضون لمسار المفاوضات وحده والتخلي عن الكفاح المسلح، فلم تلتزم إسرائيل بأي تعهدات، لتضيع القضية في دهاليز المفاوضات.
كانت القضايا الأساسية؛ القدس وعودة المهجرين الفلسطينيين إلى وطنهم ووقف الاستيطان الإسرائيلي وتفكيك المستوطنات في الأراضي المحتلة، قد تم تأجيلها في المراحل الأولى من اتفاقيات أوسلو، نزولاً على رغبة إسرائيل بطبيعة الحال، وهو ما حدث بالفعل.
تحولت منظمة التحرير إلى السلطة الفلسطينية، وتحولت قوات الأمن التابعة لتلك السلطة، والتي تعمل بالتنسيق الكامل مع قوات الاحتلال، إلى أداة لمكافحة النضال بأشكاله (ولو حتى التظاهر والاحتجاج السلمي)، على أساس أن المفاوضات فقط هي السبيل الوحيد لتحقيق الأهداف الفلسطينية.
استغلت إسرائيل هذا الموقف المعلن من جانب منظمة التحرير (السلطة الفلسطينية) ووسعت الاستيطان في القدس الشرقية والضفة الغربية ولم تخلِ مستوطنات قطاع غزة، وانقضت السنوات الخمس دون الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية، وبالتالي كان من الطبيعي أن ينفجر الموقف، وهو ما حدث باندلاع الانتفاضة الثانية أو انتفاضة الأقصى في سبتمبر/أيلول 2000. كانت الشرارة المباشرة لاندلاع الانتفاضة الثانية هي اقتحام أرييل شارون (وكان وزيراً للخارجية وقتها) وعدد من قيادات حزب الليكود باحات المسجد الأقصى في حراسة مشددة من قوات الاحتلال، لكن إرهاصات الانتفاضة كانت موجودة وتتصاعد منذ انتهت مهلة السنوات الخمس (1999) دون التوصل لأي اتفاق بشأن قضايا الحل النهائي من جهة، وعدم التزام إسرائيل بما تم الاتفاق عليه أصلاً من جهة أخرى، فالاستيطان مستمر والاعتقالات بحق الفلسطينيين والتضييق عليهم بشتى الطرق وعدم إطلاق الأسرى وغير ذلك كثير، بينما تتواصل القمم والاجتماعات والتفاوض
نهاية مرحلة عرفات
حاصرت إسرائيل رئيس السلطة ياسر عرفات في المقاطعة (مقر السلطة في رام الله بالضفة)، واعتقلت القيادات الأكثر شعبية في منظمة التحرير، مثل مروان البرغوثي وغيره، وسط اشتعال الانتفاضة وتطور النضال المسلح ضد الاحتلال من جانب فصائل المقاومة غير المنضوية تحت مظلة منظمة التحرير أو السلطة الفلسطينية.
توفي ياسر عرفات يوم 11 نوفمبر/تشرين الأول عام 2004، ليبدأ فصل جديد من فصول النهاية لمنظمة التحرير الفلسطينية. فقد خلفه في رئاسة السلطة محمود عباس (أبو مازن)، رجل المفاوضات وعدو المقاومة المسلحة أو حتى المقاومة بالتظاهر ضد الاحتلال.
محمود عباس.. التنسيق الأمني مع الاحتلال
فأبو مازن بدأ مسيرته السياسية من خلال مفاوضات مبكرة مع الاحتلال الإسرائيلي في مسعى لإيجاد حل دبلوماسي، وأدت تلك المفاوضات مع الجنرال الإسرائيلي ماتيتياهو بيليد إلى إعلان مبادئ السلام على أساس الحل بإقامة دولتين، والذي تم الإعلان عنه غرة يناير/كانون الثاني عام 1977، وكان وقتها عضواً في القيادة المركزية لحركة فتح ولمنظمة التحرير.
وعلى الرغم من انتماء عرفات وعباس إلى حركة فتح وعملهما معاً منذ البداية، إلا أن الاختلاف بين خيارات كل منهما يبدو واضحاً ولا يحتاج إلى كثير من التحليل، حسبما يرى فريق من المراقبين. فعرفات لم يظهر سوى بالبدلة العسكرية، بينما يحرص عباس منذ البداية على البدلة المدنية ورابطة العنق، انعكاساً للاختلاف بين مساري مقاومة الاحتلال والمفاوضات معه.
فعندما أصبح محمود عباس رئيساً للسلطة الفلسطينية، اتخذ التنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال أبعاداً مختلفة تماماً عما كانت عليه الأمور خلال رئاسة عرفات. كانت انتفاضة الأقصى مستمرة، ويشارك فيها الفلسطينيون في الداخل بشكل كامل، وكانت فصائل المقاومة (ومنها كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح) تواصل عملياتها النضالية ضد قوات الاحتلال.
ووافق عباس على “خارطة طريق” جديدة، برعاية أمريكا وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة (الرباعية)، بهدف استئناف مفاوضات السلام مع إسرائيل، فأعلن عباس في بيان رسمي “وقف العنف الفلسطيني بكافة أشكاله”، وحل كتائب شهداء الأقصى وإعادة بناء أجهزة الأمن التابعة للسلطة بالتنسيق الكامل مع الاحتلال، وبإشراف أمريكي، فيما عُرف باسم خطة “تينيت”، نسبة إلى جورج تينيت رئيس المخابرات المركزية الأمريكية وقتها.
وفي مارس/آذار 2005، تشكلت لجنة للتنسيق الأمني بين السلطة وإسرائيل، بإشراف الجنرال الأمريكي كيث دايتون، لتبدأ السلطة في ملاحقة المقاومين واعتقالهم ومصادرة أي أسلحة بحوزتهم، وذلك بتنسيق تام مع شرطة وجيش الاحتلال، أي أن الدور الأمني للسلطة أصبح السعي للحفاظ على أمن وسلامة الاحتلال.
منظمة التحرير/السلطة وفقدان الشرعية
وهنا يمكن رصد مؤشرات فقدان السلطة أو منظمة التحرير لشعبية قرارها الاستراتيجي بتبني مسار التفاوض ونبذ مسار النضال والكفاح المسلح، فخلال الحملة الانتخابية لرئاسة السلطة، قامت إسرائيل باعتقال وتقييد حركة المرشحين المنافسين لمحمود عباس، الذي حظيت حملته الانتخابية بالتغطية الإعلامية الوحيدة تقريباً.
وأمام حشد من الفلسطينيين في رام الله بالضفة الغربية، دعا عباس بعد فوزه بالرئاسة الفصائل الفلسطينية مرة أخرى إلى “إنهاء استخدام السلاح ضد الإسرائيليين”، بينما كان هتاف المحتشدين “مليون شهيد”، في مؤشر واضح على رفض الدعوة.
أما الدليل الدامغ على فقدان السلطة شرعيتها أيضاً، فجاء من صناديق الاقتراع؛ إذ أعطت الانتخابات العامة الوحيدة التي أُجريت في الأراضي الفلسطينية عام 2006 أغلبية كبيرة لحركة حماس تسمح لها بتشكيل حكومة فلسطينية بشكل منفرد، وهو الأمر الذي رفضته إسرائيل وحليفتها أمريكا، رغم أنها إرادة الشعب الفلسطيني الحرة. وبدلاً من أن يحترم رئيس السلطة الفلسطينية إرادة الشعب، تبنى موقف الاحتلال ورفض أن تشكل حماس الحكومة، وكان ما كان من انقسام سببه اختطاف إرادة الفلسطينيين أنفسهم.
أين منظمة التحرير الآن؟
اختُزلت منظمة التحرير في السلطة، التي أصبحت لا تعبر عن إرادة الشعب الفلسطيني، حيث لم تجر أي انتخابات على مدى ما يقرب من عشرين عاماً، ظل خلالها رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، متشبثاً بالمنصب، وذلك على الرغم من توقف مسار المفاوضات نفسه ومواصلة إسرائيل ابتلاع ما تبقى من أراضي فلسطين التاريخية عبر المستوطنات، وتهويد القدس.
وشاركت السلطة الفلسطينية بدور فعال في حصار قطاع غزة ومطاردة واعتقال بل وتصفية المقاومين في الضفة الغربية. وفي المقابل، رفعت الحكومات الإسرائيلية من سقف تعنّتها وتحديها لجميع الأطراف الإقليمية والدولية، وصولاً إلى إعلان حكومة بنيامين نتنياهو الحالية رفضاً مطلقاً لحل الدولتين، وهو الحل الذي على أساسه بدأت المفاوضات واعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بحق إسرائيل في الوجود كدولة وتخلّت عن خيار المقاومة.
وحتى بعد عملية “طوفان الأقصى” العسكرية، التي جاءت كرد فعل على عدم احترام إسرائيل لأي من حقوق الفلسطينيين ومواصلة الاستيطان والاعتداء على المسجد الأقصى وحصار قطاع غزة، وعودة قضية فلسطين إلى صدارة الاهتمام العالمي والإقرار بأنه لا حل للصراع إلا بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، لا تزال السلطة تصر على أن “المفاوضات” هي الحل وليست “المقاومة”!
فبنظرة سريعة على “كيف استغلت إسرائيل اتفاق أوسلو؟” على مدى أكثر من 3 عقود، لن يكون صعباً التوصل إلى النتيجة الحتمية، وهي عبثية مسار المفاوضات من أساسه.
الخلاصة في هذه القصة هي أن منظمة التحرير الفلسطينية تأسست يوماً ما بإجماع فلسطيني على أن “الكفاح المسلح هو السبيل لتحرير الأرض”، لكن قيادة المنظمة تنازلت عن هذا الإجماع وتخلّت عن هذا الهدف، وألقت “بندقية الثائر” جانباً، على أمل أن “يمنح” الاحتلال للفلسطينيين حقوقهم عبر التفاوض، فبأي منطق يمنح المحتل لأصحاب الأرض حقوقهم إذا لم يقاوموه ويقضوا مضاجعه؟!