تطورات عقد انتهى بالحرب الأوكرانية تجعل الاتفاقات التاريخية ومنها معاهدة لوزان حاجة راسخة
طوني فرنسيس إعلامي وكاتب ومحلل سياسي لبناني
منذ عام 2016 على الأقل نشطت في تركيا نظريات الخلاص من مفاعيل “معاهدة لوزان” التي تكمل اليوم الـ24 من يوليو (تموز) الجاري عامها المئة.
جاءت تلك المعاهدة بديلاً عن “معاهدة سيفر” بين السلطنة العثمانية من جهة وبريطانيا وفرنسا من جهة ثانية عام 1920، وفرضها توازن القوى الجديد الذي حققته حرب الاستقلال التركية بقيادة مصطفى كمال (أتاتورك)، مما كرس قيام الجمهورية التركية الحديثة بحدودها الراهنة.
وبحسب المعاهدة الجديدة تمت تسوية أوضاع الأناضول وتراقيا الشرقية (تركيا الأوروبية حالياً) ورسمت حدود بلدان عدة منها تركيا واليونان وبلغاريا وسوريا والعراق، وتنازلت تركيا عن مطالبها بجزر بحر إيجه وعن “الممتلكات” العثمانية (الاسمية) في قبرص ومصر والسودان وليبيا واليمن وعسير والحجاز .
الأهم في المعاهدة أنها ضمنت قيام تركيا الحديثة بحدودها الراهنة، أضيف إليها لواء إسكندرون في 1936، العام الذي أقرت فيه “معاهدة مونترو” السيادة التركية الكاملة على مضيقي البوسفور والدردنيل رداً على صعود الهتلرية في ألمانيا.
لم تغفل المعاهدة تفاصيل كثيرة تتعلق بوضعية تركيا في عالم ما بعد الحرب الأولى، وأنهت آنذاك إمبراطورية سادت أربعة قرون من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى وسط أوروبا، واضعة في المقابل الاتفاقات الضمنية بين دول أوروبا المنتصرة، بينها فرنسا وبريطانيا خصوصاً، موضع التنفيذ.
كان “اتفاق سايكس- بيكو” أبرز تلك الاتفاقات ولدى وضعه بمشاركة روسيا القيصرية في 1916 لم يكن مطروحاً الإبقاء على تركيا التي ولدت في لوزان. كانت بلاد الشام ستقسم بين بريطانيا وفرنسا وصولاً إلى جنوب تركيا، وسيقام كيان أرميني وآخر تركي وتأخذ اليونان مدينة إزمير والغرب التركي، فيما تقدم إسطنبول هدية للإمبراطورية الروسية.
أخرجت ثورة البلاشفة بقيادة لينين روسيا من الاتفاق الثلاثي ومن الحرب، وحاول الحلفاء الأوروبيون تنفيذ مضمون الاتفاق في شقه التركي في “معاهدة سيفر”، إلا أن انتفاضة مصطفى أتاتورك “بطل معركة غاليبولي” وضعت حداً لطموحاتهم وللمعاهدة المذكورة في غرب الأناضول ووسطه وشرقه وفي إسطنبول والمضيقين، وجعلت المنتصرين يعترفون بدولة تركية وليدة كان آخر السلاطين تخلى عنها تماماً.
نشبت حرب عالمية ثانية والتحقت تركيا بالغرب وأحلافه، بعد تلك الحرب التي تجنبتها باتت عضواً في حلف بغداد (سنتو) وفي حلف الأطلسي (ناتو) لمواجهة الصعود السوفياتي. وبقيت “معاهدة لوزان” المرجعية القانونية لقيام الدولة وإن أدى صعود تيار الإسلام السياسي وإمساكه بالسلطة مطلع القرن الحالي إلى استعادة نظريات التشكيك في “لوزان” ومفاعيلها نصوصاً ونتائج.
نشطت نظريات المؤامرة حول المعاهدة ومدة سريانها وحول تضمنها مواد سرية. بعضهم كتب عن انتهاء العمل بها في مئويتها (اليوم) والآخر تحدث عن بنود فيها غير معلنة تقضم حقوقاً تركية طبيعية، وانبرى فريق ثالث لانتقاد التوقيع عليها باعتبارها أنهت الخلافة وجعلت تركيا تتخلى عن أراضي سلطنتها ومنعتها من استكشاف ثرواتها النفطية والغازية في البر والبحر.
لم يكن ما قيل عن بنود سرية أو مهلة مئوية محددة سوى نظريات مفتعلة، لكن سلوك القيادة التركية في ظروف اندلاع الحروب الأهلية العربية على تخومها شجع على تطوير نظريات الانقلاب على “لوزان”، والقول بـ”العثمانية الجديدة” التي تضمر رغبات عميقة في العودة لدور تركيا ما قبل هزيمتها في الحرب العالمية الأولى.
التقت هذه الرغبات مع إمساك حزب العدالة بالسلطة برئاسة الرئيس رجب طيب أردوغان وجرى التعبير عنها، خصوصاً منذ منتصف العقد الماضي مع التدخل التركي في العراق وسوريا وليبيا. عام 2016 انتقد أردوغان للمرة الأولى “معاهدة لوزان” وشكك في عدالة الحدود التي رسمتها مع اليونان، ومع دخوله في الحرب السورية عاد الحديث عن الحدود مع هذا البلد للتداول، ولا تزال قصة قبر سليمان شاه حية في الأذهان، وأحيا التدخل التركي في شمال العراق لمواجهة “داعش” في الذاكرة قصة مطالبة تركيا بالموصل التي حسمتها عصبة الأمم بعد ثلاثة أعوام من “لوزان” واعتبرتها جزءاً من مملكة العراق.
قبل عامين، مطمئناً إلى علاقة متينة بروسيا وإيران (حدودها مع تركيا الوحيدة الثابتة منذ 400 عام ولم تمسها معاهدة لوزان)، ومستنداً إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي في شأن اللاجئين، عاد أردوغان في ذكرى المعاهدة إلى الربط بينها وبين الدور الذي يراه لبلاده في الظروف الإقليمية والدولية الجديدة. قال في المناسبة إن “تركيا ستواصل الدفاع عن حقوقها النابعة من القانون الدولي، من دون إذعان لتهديد أو ترهيب. نحن عازمون على دخول عام 2023 كدولة قوية ومستقلة تنعم بالرفاه”.
وضع أردوغان عام 2023 بمثابة محطة فاصلة. إنها مئوية قيام الدولة، لكنها أيضاً مئوية مفتوحة على أحلام ومصالح وأدوار كبرى قد لا تتسع لها نصوص مقرة في المدينة السويسرية قبل قرن.
نشطت نظريات العودة لـ”العثمانية” النقيضة لبنود “لوزان” طوال العقد الماضي نتيجة وصول الحركات الإسلامية الصديقة للنظام في أنقرة إلى الحكم في مصر وتونس ونتيجة تطور الصراع في سوريا والعراق وليبيا، وتعززت الرغبة التركية في استعادة أدوار آفلة، في وقت احتدمت المعركة السياسية الداخلية في تركيا، في ظروف اقتصادية صعبة بين أردوغان الذي يسعى إلى تثبيت سلطته والفوز بولاية جديدة وبين معارضين لنهجه. ونجح في النهاية وحقق فوزاً مبيناً في الانتخابات الرئاسية في مايو (أيار) الماضي.
اصطدمت الفرص التركية في المحيط الأقرب بقوى إقليمية ودولية، عربية وإيرانية وأميركية وروسية، وفي ليبيا وقع التدخل التركي في حسابات الانقسام الداخلي والمصالح الدولية والعربية المتعددة فيما كان الغريم التاريخي، اليونان الأطلسية، تزداد اعتماداً على اتحاد أوروبي تطمح أنقرة إلى دخول جنته.
أضعفت الحرب الأوكرانية والاستقطاب العالمي الذي أحدثته أوهام العقد الثاني. وانتقلت تركيا إلى لعب دور مركزي بين الغرب وروسيا، ازدادت قرباً من الغرب إلى حد دعم انضمام أوكرانيا إلى حلف الأطلسي فيما تنتظر أن يزورها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قريباً لمعاودة جدولة المصالح المشتركة. وبدلاً من سياسات أبعدتها عن العالم العربي عادت تركيا للخليج بحثاً عن إرساء علاقات تقوم على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل .
في مئوية “معاهدة لوزان” تكتشف تركيا ومعها العالم أن الحفاظ على الكيانات القائمة هو مهمة أولى في زمن حرب عالمية ثالثة قد تهدد بتغيير الخرائط لمصلحة الأقوى، ولذلك ستستمر “لوزان” ومعها “سايكس- بيكو” وغيرها، فالبدائل مجهولة والأرجح أنها ليست في مصلحة ما بني على مدى 100 عام.
المقاله تعبر عن راي كاتبها
اندبندنت