المصدر عربي بوست
“إنه يوم حزين.. نحن على شفا الهاوية”! هكذا وصف بيني غانتس تمرير أحد التعديلات القضائية التي تحد من صلاحيات المحكمة العليا في إسرائيل.
تعاني إسرائيل الآن من التوجه نحو حرب أهلية بسبب قانون الإصلاحات القضائية أو “الانقلاب القضائي”، بحسب وصف المعسكرين المتناحرين.
سياسياً واقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً أيضاً، تواجه الدولة العبرية، التي قامت قبل 75 عاماً فقط، مخاطر لم تتعرض لها من قبل، فهل تسقط في “الهاوية”، كما يتوقع بعض سياسييها؟
دعونا نسرد قصة تلك التعديلات القضائية، التي يصر رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وحلفاؤه من المتشددين والمتطرفين، على تمريرها رغم ما تشهده إسرائيل من انقسام غير مسبوق ينذر باندلاع حرب أهلية شاملة.
انقلاب قضائي أم إصلاحات؟
شهدت إسرائيل على مدى السنوات الأربع الماضية 5 انتخابات عامة أظهرت مدى الانقسام العميق وفشل خلالها أي من الأحزاب الرئيسية في الحصول على أغلبية تسمح له بتشكيل حكومة متجانسة، وكان السبب الرئيسي في ذلك المشهد هو بنيامين نتنياهو، أطول السياسيين بقاء في منصب رئيس الوزراء، والذي وجد نفسه متهماً بالفساد وتلقي الرشوة وخيانة الأمانة.
عاد نتنياهو إلى رئاسة الحكومة، وشكل حكومة توصف بأنها “حكومة السوابق” أو الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، إذ ضمت وزراء مدانين من قبل بالاحتيال أو الإرهاب والتطرف، من أمثال إيتمار بن غفير (وزير الأمن الداخلي) وبتسلئيل سموتريتش (وزير المالية) وغيرهما.
وعلى الفور، قدمت تلك الحكومة مشروعاً قالت إنه يهدف إلى إدخال إصلاحات على قانون السلطة القضائية في إسرائيل، التي لا يوجد لها دستور مكتوب، وكان ذلك منذ نحو 7 أشهر، هي تقريباً عمر الحكومة ذاتها.
أثار طرح مشروع القانون جدلاً كبيراً داخل إسرائيل منذ اللحظة الأولى، واتهمت المعارضة رئيس الوزراء بأنه يسعى إلى تحصين نفسه من احتمال دخول السجن من جهة، وإطلاق يد حلفائه من المتطرفين وغلاة المستوطنين من جهة أخرى، بينما يقول نتنياهو إن التغييرات المطروحة ضرورية للحد من التدخل المفرط للمحكمة العليا في الشؤون السياسية.
وعلى الرغم من المعارضة الشرسة والاحتجاجات الحاشدة، ولجوء نتنياهو نفسه إلى تأجيل طرح مشروع القانون للتصويت لمدة شهر، فإن الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) اجتمع الإثنين 24 يوليو/تموز ومرر التعديل الأول في التغييرات الجديدة، وهو يتعلق بإلغاء “حجة المعقولية”، فما هي؟
يتعلق مشروع قانون “حجة المعقولية” بتعديل من شأنه الحد من قدرة المحكمة العليا على إبطال قرارات للحكومة والوزراء حال اعتبارها “غير معقولة”. ويقول المؤيدون إن هذا سيسمح بحوكمة أكثر فاعلية ويترك للمحكمة في الوقت نفسه مجالاً واسعاً للرقابة القضائية، بينما يقول المنتقدون إن التعديلات ستفتح الباب أمام الفساد وإساءة استخدام السلطة.
وهذا التعديل هو واحد من عدة مشاريع قوانين تدفع بها حكومة نتنياهو الحالية تحت مسمى “الإصلاح القضائي”، والتي تقول المعارضة إنها تهدف للحد من سلطة القضاء وتحويل إسرائيل إلى ديكتاتورية.
التشريع الجديد هو تعديل يلغي واحدة، وليس كل الأدوات التي تمتلكها المحكمة العليا لإلغاء قرارات الحكومة والوزراء. وتستطيع المحكمة حتى الآن إلغاء أي قرار تنفيذي إذا اعتبرته “يفتقر للمعقولية”، لكن بمجرد دخول مشروع القانون حيز التنفيذ، لن يتمكن القضاة من فعل هذا الأمر.
القصة أخطر من خلاف “سياسي”
ما يحدث في إسرائيل ليس خلافاً سياسياً في وجهات النظر بين معسكرين، أحدهما يحكم والآخر معارض، في إطار ديمقراطي، وإلا لما كانت هناك مشكلة من الأساس، بل كان من الممكن اعتبار ما يحدث تعبيراً قوياً عن تلك “الديمقراطية” التي لطالما تباهت بها إسرائيل وحلفاؤها الغربيون، وبخاصة في واشنطن. فعلى مدى عقود، كان يتم تصوير الدولة العبرية على أنها “واحة الديمقراطية” في الشرق الأوسط.
صحيح أن وجود متظاهرين مختلفين في التوجهات والمواقف هو أحد أوجه التعبير عن الديمقراطية، إلا أنه بالنسبة للكثير من الإسرائيليين أنفسهم، هناك حالة من الاستقطاب بين الطرفين المتناحرين حالياً أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، حيث يعتبرون أن المصادقة على أول تعديل والذي يحد من صلاحيات المحكمة العليا ما هو إلا عرض ظاهري وليس سبباً جذرياً لتلك الشروخ العميقة.
إذ إن ذلك المشهد للمتظاهرين من المعسكرين في مواجهة بعضهم البعض بمحطة لمترو الأنفاق بالقدس، تحملهم مدارج السلم الكهربائي، فريقاً في نهاية الرحلة باتجاه البرلمان للاحتجاج والفريق الآخر باتجاه تل أبيب للمشاركة في مظاهرة لدعم الحكومة، ليس إلا تعبيراً خادعاً عن مدى عمق الانقسام.
فمن يفضلون إقرار التعديلات القضائية هم في الغالب قوميون متدينون، ممن ساعدوا من خلال الحشد بأعدادهم المتزايدة، رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على العودة للسلطة في ديسمبر/كانون الأول الماضي، باختصار هم أنصار الأحزاب الصهيونية والأحزاب الممثلة للمستوطنين المتطرفين.
وبالنسبة لهم، تخدم تلك التعديلات قضايا حقيقية ملموسة مثل توسيع المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة وتأمين الإعفاءات من التجنيد لطلبة المعاهد الدينية اليهودية، إضافة إلى تقييد ما يعتبرونه تجاوزاً من القضاء لصلاحياته والانجراف نحو الثقافة الليبرالية.
هذه الموقف تضع هؤلاء في مواجهة الإسرائيليين الذين يصورهم زعيم المعارضة يائير لابيد على أنهم الطبقة المتوسطة المنتجة. وشهدت هذه الطبقة تراجع أحزاب يسار الوسط، التي كانت مهيمنة في السابق، مع تراجع عدد أفراد أسرهم لما دون معدل مواليد المعسكر المحافظ.
وتعهد بعض المحتجين، ممن صدمتهم وتيرة التعديلات القضائية ونطاقها، بعدم دفع الضرائب والامتناع عن التطوع في خدمة الاحتياط بالجيش.
ويتهم منتقدون نتنياهو بمحاولة تمزيق عقد اجتماعي قانوني بالغ الحساسية تتخذه إسرائيل بديلاً للدستور في دولة تصنف نفسها على أنها يهودية وديمقراطية في آن واحد.
أما الكثير من الإسرائيليين المؤيدين للحكومة فيعتبرون المظاهرات والاحتجاجات التي تهز أرجاء إسرائيل منذ سبعة أشهر محاولة لتقويض فوزهم الانتخابي.
لكن فكرة تمسك المنهزمين في الانتخابات بفرض نفوذهم أحيت الضغائن الطبقية داخل حزب الليكود المحافظ بزعامة نتنياهو، وهو الحزب الذي صعد لأول مرة للسلطة في أواخر السبعينيات بدعم من اليهود المهمشين بسبب انحدارهم من أصول من دول في منطقة الشرق الأوسط.
وزير الخارجية في الحكومة الحالية، إيلي كوهين، المولود لمهاجرين من المغرب أكد على هذه النقطة بقوله لصحيفة معاريف إنه كان يعتقد أن شخصاً بخلفية مماثلة سيستبعد من منصة قضاء المحكمة العليا؛ “لأن الانتماء لزمرة معينة هو فحسب الذي يمكنك من التأهل لذلك”.
والتفسير هنا هو أن نتنياهو وفريقه يصورون ما يحدث في إطار أن المعارضة للتعديلات القضائية تنبع بالأساس من النظرة الدونية من جانب يهود أوروبا والغرب إلى يهود الشرق الأوسط، رغم أن استطلاعات عديدة للرأي أظهرت أن أغلب الإسرائيليين لديهم تحفظات على التعديلات القضائية المطروحة، والتي أضرت بالاقتصاد وأثارت القلق لدى دول غربية حليفة لإسرائيل.
النائب أحد رموز المعارضة، بيني غانتس، شبه ما يحدث بذكرى خراب الهيكل (تيشعاه بئاف) التي يجري إحياؤها بالصيام والحداد، ذلك الخراب الذي يُلقي حكماء اليهود بالمسؤولية عنه على اقتتال طائفي داخلي غير مبرر.
وبعد يوم واحد من تمرير التعديل الخاص بحجة المعقولية، غطى إعلان باللون الأسود الصفحات الأولى بجميع الصحف الإسرائيلية الرئيسية يحمل عبارة “يوم أسود لديمقراطية إسرائيل”. كان الإعلان مدفوع الثمن من قِبل مجموعة من شركات التكنولوجيا الفائقة التي تحتج على سياسات نتنياهو فيما يتعلق بالقضاء، والتي يقول محللون إنها أطلقت العنان لعدد كبير من المخاطر، سواء بالنسبة للاقتصاد الإسرائيلي أو بالنسبة لمستقبل نتنياهو السياسي.
“إنه الاقتصاد يا نتنياهو!”
من الطبيعي أن يكون رصد التداعيات الاقتصادية لما تشهده إسرائيل من انقسام عميق هو المحور الأول، بالاقتصاد هو عصب الحياة البشرية، وجسدت ذلك مقولة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون “إنه الاقتصاد، يا غبي!”.
تأثرت العملة الإسرائيلية بشكل مباشر مع كل منعطف سارت فيه الأحداث بشأن التعديلات القضائية، إذ فقد “الشيكل” (عملة إسرائيل) نحو 10 بالمئة من قيمته مقابل الدولار منذ أن أعلنت حكومة نتنياهو عن خططها بخصوص القضاء في يناير/كانون الثاني بسبب قلق المستثمرين الأجانب.
لكن ذلك لا يمثل سوى جانب واحد من الجوانب السلبية بالنسبة للاقتصاد الإسرائيلي حتى الآن، فالاقتصاد الإسرائيلي يعتبر قوياً نسبياً في الوقت الراهن، مع توقع نمو بنسبة 3% هذا العام ومعدل بطالة عند 3.5% ويُعد قطاع التكنولوجيا الفائقة محركاً هاماً للنمو؛ إذ يعود إليه الفضل في 14% من الوظائف وما يقرب من خمس الناتج المحلي الإجمالي.
لكن كل ذلك سيواجه صعوبات على الأرجح إذا سعت حكومة نتنياهو لإجراء مزيد من التغييرات التي قد يُخشى من أن تلحق الضرر بالسلطة القضائية التي لا يزال يُنظر إليها في الخارج على أنها قوية ومستقلة، علماً بأن نتنياهو يبدو مصمماً على قطع المشوار حتى نهايته، أي إقرار قانون التعديلات القضائية كاملاً.
فما علاقة التعديلات القضائية بالاقتصاد؟
خبراء ومستشارون قانونيون للحكومة والبرلمان في إسرائيل حذروا من أن تلك التعديلات ستفتح باب الفساد؛ لأنها ستسهل على الحكومة ككل أو لوزير من الوزراء تعيين مسؤولين أو فصلهم لأسباب يحتمل أن تكون خاطئة.
ويخشى المنتقدون من أن ذلك سيعرقل عمل القضاة الذين يساعدون في ضبط تصرفات الحكومة، وأشاروا إلى أنه يمكن بسهولة استبدال موظفين حكوميين مثل المدعي العام أو المستشارين القانونيين لوزارة ما بأشخاص أخرى يلبون الأوامر فحسب. بينما تقول الحكومة إنها لا تعتزم القيام بذلك. وتوضح أن التعديلات ستيسر الحكم وستسهل على المسؤولين المنتخبين ديمقراطياً متابعة سياستهم.
لكنَّ المنتقدين يحذرون أيضاً من أن إدراك الوزراء لعدم إمكانية الطعن على الإجراءات التي يتخذونها؛ لأنها تفتقر للمعقولية، قد يؤدي إلى عدم تدقيقهم بما يكفي في سياساتهم الخاصة لحماية غيرهم من الظلم. وعلى المدى الطويل، قد يضر ضعف القضاء بالأعمال التجارية ومنازعات إسرائيل القانونية في الخارج. وسيعتمد كل هذا على ما إذا كانت ستُجرى تعديلات أخرى في النظام القضائي وكيف؟
بنك مورغان ستانلي خفض التصنيف الائتماني لإسرائيل إلى “وضع غير مرغوب فيه”، وقال مورغان ستانلي: “تشير الأحداث الأخيرة إلى استمرار حالة عدم اليقين وبالتالي احتمالية زيادة علاوة المخاطر التي ستؤدي إلى إضعاف العملة وزيادة تكاليف الاقتراض”، مضيفاً: “تؤدي مثل هذه الصدمات الاقتصادية إلى ضعف نمو الناتج المحلي الإجمالي بسبب تراجع الاستثمار ونمو الاستهلاك”.
وكالة موديز للتصنيف الائتماني، من جانبها، قالت إن إقرار القانون الجديد في إسرائيل يشير إلى أن التوترات السياسية ستستمر وسيكون لها على الأرجح عواقب سلبية على الوضعين الاقتصادي والأمني في إسرائيل.
أما نتنياهو فهو يرى الأمور بطريقة مختلفة بطبيعة الحال، وأصدر بياناً قال فيه إن “هذا مجرد رد فعل لحظي، وعندما يزول الغبار سيتضح أن اقتصاد إسرائيل قوي جداً”.
لكن إسحاق راز، خبير اقتصادي بالجامعة العبرية في القدس، يرى أن “مستقبل الاقتصاد الإسرائيلي لا يبدو مشرقاً في هذه اللحظة”.
كان الاقتصاديون والمسؤولون الحاليون قد حثوا تحالف نتنياهو على عدم المضي قدماً في التعديلات القضائية دون التوصل إلى توافق واسع، لكن الآن وحتى إذا اختار نتنياهو إلغاء خطط إجراء مزيد من التعديلات القضائية، فسيكون من الصعب إصلاح الضرر.
قطاع التكنولوجيا الفائقة، الذي عادة ما يكون بعيداً عن النقاش السياسي، يمثل قوة دافعة في الاحتجاجات ضد تحركات الحكومة، ويستمد اقتصاد إسرائيل الذي يقارب حجمه 500 مليار دولار قوة من قطاع التكنولوجيا، الذي يمثل أكثر من نصف الصادرات وربع الدخل الضريبي.
وأورد عدد من شركات التكنولوجيا تقارير عن خروج الأموال من إسرائيل، في حين تباطأت التدفقات من الخارج بشكل حاد. ويجري توطين الشركات الناشئة الجديدة في الخارج على نحو متزايد.
فقد وجد استطلاع أجرته سلطة الابتكار الإسرائيلية، أنه بحلول شهر مايو/أيار، كانت الشركات الناشئة التي افتُتحت خارج إسرائيل تمثل نسبة 80% من الشركات التي تم تأسيسها خلال هذا العام، وأن الشركات تعتزم أيضاً تسجيل ملكيتها الفكرية المستقبلية في الخارج.
وبالتالي فإن قطاع التكنولوجيا في إسرائيل سيخسر الكثير إذا أجريت المزيد من التعديلات القضائية، لأن الشركات تحتاج إلى نظام قانوني موثوق به لحماية ملكيتها الفكرية.
ويقول محللون إنه بالرغم من احتمال حدوث ضرر على المدى القصير، خاصة إذا حدث إضراب للقطاع العام، وهو ما هدد به اتحاد نقابات العمال الإسرائيلية (الهستدروت)، فإن النمو سيعاني أكثر على المدى الطويل، بسبب تراجع الاستثمار وما يسمى بهجرة الأدمغة.
البنك المركزي في إسرائيل يحذر منذ شهور من أن “الشيكل” يتعرض لضربة بسبب التعديلات القضائية التي اقترحتها الحكومة، وقال أمير يارون، محافظ البنك يوم 10 يوليو/تموز، إن “التدني المفرط” في قيمة الشيكل أسهم بما يصل إلى 1.5 نقطة مئوية في التضخم، الذي تعاني منه إسرائيل حالياً.
وساعدت زيادة علاوة المخاطرة في إسرائيل على إضعاف الشيكل، ورفع البنك المركزي أسعار الفائدة بشكل أكبر مما كان يأمل، ما يعني المزيد من الألم لحاملي الرهن العقاري وغيرهم من المقترضين.
الجيش يواجه الانقسام
إذا كان الاقتصاد يواجه مخاطر كارثية، فماذا عن الجيش؟ تسربت الانقسامات إلى الجيش الإسرائيلي، فعندما احتدمت الأمور، أعلن وزير الدفاع يوآف غالانت موقفاً يدعو إلى ضرورة إجراء مزيد من المشاورات مع المعارضة قبل طرح التعديلات للتصويت.
وهدد غالانت بالاستقالة ما لم تتراجع الحكومة عن فرض خطة الإصلاحات القضائية، محذراً نتنياهو من أن دعوات عصيان الأوامر العسكرية، رفضاً لتمرير التعديلات، من شأنها أن “تمس قدرة الجيش على أداء مهامه”، إذ يتزايد القلق داخل المؤسسة الأمنية والعسكرية في إسرائيل، مع تزايد انخراط أفرادها في الاحتجاجات المعارضة للتعديلات القضائية.
وكان وصول الانقسامات إلى صفوف جيش الاحتلال وقياداته، لدرجة إعلان نتنياهو إقالة وزير الدفاع بعد تعبيره علناً عن رفض التعديلات القضائية، قد أجبر نتنياهو على اتخاذ خطوة إلى الوراء، إذ أعلن، أواخر مارس/آذار الماضي، عن تأجيل التصويت في الكنيست على تلك التعديلات، سعياً وراء التوصل لأرضية مشتركة، لكن في نهاية المطاف، تم إقرار التعديل الأول، وانفجر الموقف كما كان متوقعاً.
الآن أعلن كثير من ضباط الاحتياط المتطوعين رفضهم تأدية الخدمة في الجيش، إذ قال زعماء الاحتجاج إن آلافاً من جنود الاحتياط المتطوعين قد يمتنعون عن الخدمة إذا واصلت الحكومة السير في نهجها، وحذر ضباط كبار سابقون من أن جاهزية إسرائيل لخوض الحروب قد تكون في خطر.
واتخذ الجيش الإسرائيلي أول إجراء تأديبي داخلي يجري الإعلان عنه بسبب الاحتجاجات، حيث فُرضت غرامة قيمتها ألف شيكل (270 دولاراً) على أحد جنود الاحتياط، وصدر حكم على آخر بالحبس 15 يوماً مع وقف التنفيذ، بسبب تجاهلهما طلبات استدعاء.
فخلال الأيام الأخيرة، أعلن مئات الجنود والضباط -بمن فيهم طيارون وقادة رفيعون بسلاح الجو التوقف عن أداء خدمة الاحتياط، احتجاجاً على خطة “إصلاح القضاء”.
رئيس الأركان، هرتسي هاليفي، في ظهور نادر وغير معتاد، وجّه خطاباً مباشراً إلى جنود وضباط الاحتياط الذين أعلنوا وقف انخراطهم في خدمة الاحتياط، قائلاً “نحن بحاجة إليكم”، بينما أفادت قناة “كان” الرسمية بأنه لأول مرة لم يحضر (الثلاثاء) مقاتلون من وحدة “شايطيت 13″، وهي وحدة كوماندوز بحرية، ووحدات خاصة أخرى لأداء خدمة الاحتياط.
زعيم المعارضة يائير لابيد طلب من جنود الاحتياط المحتجين انتظار الحكم الذي ستصدره المحكمة العليا في طعون تقدمت بها جماعة مراقبة سياسية، ونقابة المحامين الإسرائيلية، لإبطال القانون، ما يشير إلى أن المعركة في طريقها لمزيد من التصعيد، فالحكومة بتعديلاتها القضائية تستهدف سلطة المحكمة العليا!
لكن الأمر المؤكد الآن هو أن ما تمر به إسرائيل يمثل لحظة شديدة الجوهرية والخطورة، لدرجة أن جون ألترمان، مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وصفها بأنها “المنعطف الثالث” في تاريخ البلاد بعد التغيير الكبير في حدودها عقب حرب 1967، وبعد قيام إسرائيل عام 1948،
فقد دخل وزير الدفاع الأمريكي على خط الأزمة، مبدياً قلقه في اتصال مع نظيره الإسرائيلي غالانت، من أن تتفاقم الانقسامات داخل صفوف الجيش الإسرائيلي بسبب أزمة التعديلات القضائية.
وقالت وزارة الدفاع الأمريكية إن الوزير لويد أوستن دعا إلى التوصل إلى توافق سياسي في إسرائيل، من خلال الحوار، وذلك في اتصال الثلاثاء مع غالانت، ووصف هذا الأمر بأنه ضروري “لديمقراطية متينة”.
منظمة American Jewish Committee الأمريكية أعربت هي الأخرى عن “خيبة أملها العميقة” إزاء تصويت الكنيست، وقالت إنها “قلقة بشدة” من أن يؤدي التصويت إلى تعميق الانقسامات في المجتمع الإسرائيلي. وأردفت: “أدّت الجهود المتواصلة للدفع بالإصلاحات القضائية -بدلاً من البحث عن تسوية- إلى زرع الفرقة بين صفوف الجيش الإسرائيلي، في وقتٍ يشهد تصاعد التهديدات التي تتربص بالوطن اليهودي. كما أسفرت تلك الجهود عن توتر العلاقات الضرورية بين إسرائيل وبين يهود الشتات”.
على طريق “الصدام الأخير”
الصورة في إسرائيل تبدو ممزقة إلى حد كبير، فالأسس الديمقراطية لإسرائيل، التي ليس لها دستور مكتوب، هشة نسبياً. وفي الكنيست المكون من مجلس واحد يتألف من 120 عضواً، تهيمن الحكومة على أغلبية من 64 مقعداً، أما منصب الرئيس فهو منصب شرفي إلى حد كبير، لذا يُنظر إلى دور المحكمة العليا على أنه حاسم في حماية الحقوق المدنية وسيادة القانون.
ففشل مساعي تسوية الأزمة القضائية، مع وصول تلك الانقسامات إلى الجيش، يرصد تحول الأزمة القضائية إلى واحدة من أخطر المحطات التي تواجه دولة الاحتلال في تاريخها، وذلك لارتباطها بمستقبل هوية الدولة ومكانة إسرائيل دولياً، لاسيما لدى الدول الغربية، التي ترى أن تمرير الإصلاحات القضائية سيقود لتآكل النموذج الليبرالي الديمقراطي، وتكريس نظام سياسي يقوم على الشعبوية وصعود اليمين المتطرف.
فجلسة الكنيست العاصفة شهدت مغادرة المشرعين المعترضين (عددهم 56 من 120). بينما كان المحتجون في الخارج بالآلاف، واشتبك بعضهم مع الشرطة، وهناك الآن حديث عن احتمال إقدام الاتحاد العام لنقابات العمال (هستدروت) على الدعوة لإضراب عام.
تقرير وكالة موديز دليل على أن الأزمة تلقي بظلالها على إسرائيل على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، فالتعليقات المقلقة من وكالة التصنيف تمثل علامة تحذير صارخة لأي شخص تجاهل حتى الآن الحاجة إلى التوصل إلى توافق موسع حول التعديلات.
وفي هذا الإطار، بدأ الأطباء الإسرائيليون إضراباً، في ردّ فعل قوي على إقرار الحكومة اليمينية المتشددة للقانون الأول، ضمن خطة تعديلات قضائية يعتبرها كثيرون “انقلاباً”.
ورغم أن محكمة العمل اللوائية في تل أبيب أمرت الأطباء بالعودة للعمل في تأييد لطلب الحكومة، فإن الأطباء قالوا إنهم لن يلتزموا الصمت. وقال حجاي ليفين، رئيس نقابة أطباء الصحة العامة “غداً سيعود الأطباء للعمل، لكن يمكنني القول إن الآلاف منهم لن يصمتوا، لأن هناك شعوراً قوياً… بأننا لا نستطيع العمل كأطباء في وقت لم تعد فيه إسرائيل دولة ديمقراطية”.
وامتدّ القلق إلى الفنون، حيث أظهر مقطع فيديو جرى تداوله على وسائل التواصل الاجتماعي، جمهور عمل فني موسيقي في تل أبيب منقسمين بين مقاطع ومصفق لأحد أعضاء فريق العمل أثناء قراءته لبيان حول الأزمة، فيما ابتعد ممثل آخر عن خشبة المسرح في تعبير واضح عن الاستياء.
ما يزيد مشاعر الغضب لدى المعارضة، إعلان شركاء نتنياهو في الائتلاف الديني المتشدد أنهم سيطرحون مشروع قانون يدعم الإعفاء من الخدمة العسكرية الإلزامية لناخبيهم، الذين يدرسون في المعاهد الدينية، لكن حزب الليكود الذي يتزعمه نتنياهو قال إنه لن يتم المضي قدماً في مشروع القانون في الوقت الحالي، مؤجلاً إياه إلى نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، لشراء الوقت بطبيعة الحال.
العلاقة مع واشنطن والجماعات اليهودية
منذ اليوم الأول للأزمة سعى نتنياهو إلى تهدئة المعارضة وحلفاء إسرائيل الغربيين، وبخاصة واشنطن، بقوله إنه يأمل في تحقيق توافق جماعي على أي تشريع قادم بحلول نوفمبر/تشرين الثاني.
لكن موقف نتنياهو معقد للغاية، فهو يواجه قضية فساد ينفي فيها ارتكاب أي مخالفة، ودخل المستشفى في بداية الأسبوع لتركيب جهاز لتنظيم ضربات القلب، وكذلك توسع التحالف الديني القومي الحاكم في بناء المستوطنات على أراض فلسطينية محتلة، يسعى الفلسطينيون لإقامة دولة عليها، فيما يلقي بظلال على العلاقة مع واشنطن.
وفي تل أبيب، حاول أفراد من الشرطة يمتطون الخيول تفريق حشد من المحتجين على الطريق السريع الرئيسي، حيث أشعل المحتجون نيراناً صغيرة، وقالت الشرطة إنه خارج المدينة، اصطدم سائق بحشد صغير كان يسد طريقاً، ما أدى إلى إصابة ثلاثة أشخاص بجروح طفيفة، وتم القبض على صاحب السيارة لاحقاً.
كما تسببت هذه الأحداث في توتر العلاقات مع الولايات المتحدة، أقرب حلفاء إسرائيل، والتي وصفت التصويت بأنه “مؤسف”. ورغم الحفاوة التي قوبل بها الرئيس إسحاق هرتسوغ، الذي يُعَدُّ بدرجةٍ كبيرة مجرد شخصيةٍ شرفية، في الكونغرس الأسبوع الماضي، فإن شوارع المدن الكبرى الإسرائيلية كانت تشتعل غضباً ورفضاً لخطط نتنياهو الخاصة بالقضاء، واشتدت حدة الاحتجاجات المستعرة منذ شهور بعد أن استغل تحالف نتنياهو تفويضه الانتخابي بفارقٍ ضئيل، لتمرير البند الأول من الإصلاحات، وجردوا بذلك المحكمة العليا من سلطة إلغاء إجراءات الحكومة التي تراها “غير منطقية”.
فالمحللون والنقاد يرون فيها ضربةً كبيرة لواحدةٍ من أدوات الضبط الحقيقية القليلة في “الديمقراطية الإسرائيلية”، وخطوةً مظلمة نحو شكلٍ من أشكال حكم الأكثرية الأوتوقراطي.
أدانت الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة تصويت الكنيست على تقييد سلطة القضاء باعتباره تهديداً للديمقراطية، وحذرت من أن التصويت قد يضر بالعلاقات مع اليهود الأمريكيين.
الانقسامات داخل إسرائيل أصبحت أكثر عمقاً، لدرجة أنه حتى إذا ما نجحت المعارضة في هزيمة تحالف نتنياهو، وإجبارهم على سحب التعديلات القضائية نهائياً، فإن ذلك قد لا يعني انتهاء أزمة إسرائيل الداخلية أو حتى تهدئتها، فما بالنا اليوم وقد مرر التحالف إلغاء “حجة المعقولية” وانفجر الموقف أكثر؟
رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت لخص الأمر، قال فيه: “تحكمنا مجموعة من المتشددين، والقوميين، والشوفينيين، والمتطرفين. إنها مجموعة من الأشخاص المتهورين، وعديمي المسؤولية، والخبرة”.
الخلاصة هنا هي أن “شيئاً كبيراً للغاية في إسرائيل قد تحطم ومن المستحيل استعادته”، في إشارة إلى الشرخ العميق الذي تسببت فيه الحكومة الحالية مجتمعياً، أظهر الاستقطاب والتشرذم الذي كان مستتراً خلف مزاعم الأعداء المحيطين بدولة الاحتلال.
فالحكومة تمثل الأحزاب الدينية المتشددة والمستوطنين المتطرفين، وتسعى لإعفاء أبنائهم من الخدمة في الجيش، وتمويل مدارسهم الدينية من جيوب باقي المجتمع.
كان جدعون ليفي، الكاتب اليساري الإسرائيلي، قد نشر مقالاً في موقع Middle East Eye البريطاني، عنوانه “حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة تنزع القناع الذي ساعد في تسهيل التواطؤ الغربي”، ألقى من خلاله الضوءَ على ما تعنيه حكومة نتنياهو الأكثر تطرفاً بالنسبة لصورة الدولة العبرية في عيون داعميها ورُعاتها الغربيين، الذين لطالما تغنَّوا بواحة الديمقراطية في الشرق الأوسط.
ويرى ليفي أن إسرائيل تتغير بصورة واضحة، حيث يشاهد العالم “ديمقراطية ليبرالية غربية، تتحرك بسرعة خطيرة نحو القومية المتطرفة والأصولية والعنصرية والفاشية، أي تحطيم الأسس الديمقراطية”، نتيجة لما آلت إليه الانتخابات الأخيرة.
“ورغم أن هذه الصورة هي توصيف صحيح، فإنها ليست الوصف الدقيق لما يحدث، فهذا الرأي يفترض ضمنياً أن إسرائيل كانت، حتى حدوث ذلك التغيير، ديمقراطية غربية فعلاً، وهي الآن تتحول بشكل واضح إلى شيء آخر، لكن الحقيقة هي أن إسرائيل لا تتغير، بل تتخلص من أقنعتها، وتُمزّق صورتها الزائفة تمزيقاً”، بنص كلام الكاتب الإسرائيلي.
تقرير عربي بوست