تُواصل إسرائيل ما تصفها بأنها “عملية عسكرية” ضد مدينة ومخيم جنين في الضفة الغربية المحتلة، وسط صمت دولي وتشجيع أمريكي، فهل يؤدي ما يحدث إلى انهيار السلطة الفلسطينية؟
كان جيش الاحتلال الإسرائيلي قد شنّ، الإثنين 3 يوليو/تموز، هجوماً عنيفاً، هو الأكبر منذ أكثر من عشرين عاماً، على مدينة جنين ومخيمها المكتظ بالسكان، ما أدى إلى استشهاد 10 فلسطينيين، بينهم 3 أطفال، وإصابة العشرات، ولا يزال العدوان الإسرائيلي مستمراً وسط صمت دولي وإقليمي ومناشدات من السلطة بتوفير حماية دولية للفلسطينيين.
وبعد أن عقدت الحكومة الإسرائيلية، الثلاثاء، ما وصفته بأنه “اجتماع أمني للتقييم”، أوعز وزير الدفاع، يوآف غالانت، باستمرار “العملية حتى تحقيق أهدافها”، دون توضيح طبيعة تلك الأهداف، وإن كانت تصريحات صادرة عن جيش الاحتلال قد أفادت بتبقي “10 أهداف” للعملية، ما يشير إلى أن المقصود بالأهداف هو أفراد ينتمون للمقاومة الفلسطينية ضمن “كتيبة جنين”.
ما الذي تريد إسرائيل تحقيقه؟
تضم مدينة جنين في شمال الضفة الغربية المحتلة مخيماً مكتظاً باللاجئين، يحمل الاسم نفسه، ويبلغ عدد سكانه نحو 14 ألفاً من الفلسطينيين الذين تم تهجير أجدادهم، عندما أُعلن عن تأسيس دولة الاحتلال عام 1948، وتنحدر أغلب العائلات من مناطق فلسطينية تشمل حيفا والناصرة وتقع اليوم داخل الخط الأخضر.
وتقول وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) إن مخيم جنين يعاني أعلى معدلات البطالة والفقر، ضمن 19 مخيماً للاجئين بالضفة الغربية المحتلة. وكانت جنين بؤرة ساخنة للغاية خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي بدأت بعد فشل محادثات السلام برعاية أمريكية في عام 2000، وتحولت إلى ساحة صراع بين جيش الاحتلال والمقاومة الفلسطينية.
ومنذ تولي الحكومة الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو، والتي توصف بأنها أكثر الحكومات تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية، والتوسع غير المسبوق في الاستيطان واستهداف الفلسطينيين، أصبحت جنين بؤرة ساخنة وهدفاً رئيسياً لجيش الاحتلال الإسرائيلي، رغم أنها تقع ضمن “المنطقة أ”، بموجب اتفاقيات أوسلو. و”المنطقة أ” تقع بالكامل تحت إدارة السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، أو أن هذا ما يفترض أن تكون عليه الأمور.
ومع انطلاق العملية العسكرية الإسرائيلية الحالية في جنين، حرصت إسرائيل على توجيه رسالة بأنها لا تستهدف السلطة الفلسطينية، ولا تريد إعادة احتلال جنين. والواضح هنا هو أن الحكومة الإسرائيلية تريد بتلك التصريحات أن تمتص أي ردود دولية محتملة لوقف العملية من خلال تبريرها “باستهداف المسلحين”.
لكن مع دخول العدوان على جنين يومه الثاني، ورغم الدمار الهائل ونزوح أكثر من 4 آلاف من سكان المخيم، اقتصرت ردود الفعل المنددة على بعض الدول العربية، فيما ساد صمت المجتمع الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، التي أعلنت عن دعمها لتل أبيب. وقالت هيئة البث الإسرائيلية، الإثنين، إن إسرائيل “أبلغت الولايات المتحدة الأمريكية بقرارها تنفيذ العملية، ولكن دون الإبلاغ عن موعدها”.
لكن رغم التصريحات الإسرائيلية التي تنفي أن تكون السلطة الفلسطينية برئاسة عباس مستهدفة، فإن أغلب المراقبين والمحللين يرون أنه سيكون لهذه العملية تأثير سلبي كبير على السلطة.
إسرائيل تنفي استهداف السلطة الفلسطينية
مصدر إسرائيلي رفيع قال لوكالة الأناضول التركية: “لا جدال بأن العملية تتم في منطقة مصنفة “أ” (المناطق الخاضعة للسيطرة الفلسطينية الكاملة وفق اتفاقية أوسلو للسلام المرحلي مع منظمة التحرير الفلسطينية)، وهذا يمثل تحدياً للسلطة الفلسطينية، ولكن لا جدال أيضاً أننا نريد بقاء السلطة الفلسطينية، والتأكد من تعزيزها لتقوم بمسؤوليتها، نحن لا نريد إضعاف السلطة الفلسطينية”.
وأضاف المصدر، الذي فضل عدم الكشف عن اسمه: “ولكن في فترة العام ونصف العام الماضية ضعفت السلطة الفلسطينية، حتى وصلت إلى مرحلة لم تعد فيها قادرة على دخول جنين من أجل اعتقال هؤلاء المسلحين”.
وكانت السلطة الفلسطينية حذرت مراراً من أن العمليات العسكرية الإسرائيلية، والقرارات التي تتخذها الحكومة الإسرائيلية بحجز أموال فلسطينية، إضافة إلى النشاطات الاستيطانية المتسارعة ومصادرة الأراضي، إنما تدفع السلطة الفلسطينية نحو الانهيار.
وكانت الأنشطة الاستيطانية المتسارعة تحديداً قد تسببت في تصاعد الخلافات بين إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن وحكومة نتنياهو، وزار أنتوني بلينكن، وزير الخارجية، تل أبيب وطلب من نتنياهو وقف الاستيطان، لكن تل أبيب تحدت واشنطن وزادت من خطط بناء وشرعنة المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية، التي يفترض أن تكون عاصمة الدولة الفلسطينية المستقبلية، في إطار حل الدولتين.
وفي هذا الإطار، كانت مجلة The National Interest الأمريكية قد نشرت تحليلاً عنوانه “وفاة الدبلوماسية الأمريكية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي“، رصد كيف أن التطور الأهم خلال رحلة بلينكن إلى إسرائيل والضفة الغربية المحتلة لم يكن له علاقة بزيارته، وكيف أن اقتراحات الوزير الهادفة إلى نزع فتيل الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين تشير إلى التقلص السريع للبصمة الدبلوماسية الأمريكية، على ما كان لسنوات عديدة مكوناً أساسياً في سياسة الولايات المتحدة في المنطقة.
أما اللافت في “العملية العسكرية” الإسرائيلية في جنين فهو توقيتها، حيث جاءت بعد ساعات من إعلان هيئة البث الإسرائيلية عن عقد اجتماع برئاسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لبحث “تعزيز السلطة الفلسطينية”.
وكتب عاموس يادلين، رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (آمان)، في الفترة من 2006 إلى 2010، على حسابه بتويتر الإثنين قائلاً: “بدأ الجيش الإسرائيلي عملية هادفة لإحباط “الإرهاب” في جنين، لكن الجيش الإسرائيلي يؤكد أنه غير مهتم باحتلال المدينة”.
وأضاف: “هذه خطوة مهمة، لأن وقت التحرك جاء في ظل تصاعُد مستوى الاعتداءات، وإنتاج الصواريخ وعبوات القنابل الجانبية، وهجمات إطلاق النار المستمرة”، لافتاً إلى أنه “كان لدى الجيش الإسرائيلي مفاجأة تكتيكية رغم أن استراتيجية العملية كانت متوقعة”.
وقال: “المفاجأة تكمن في التوقيت وطريقة العمل وعمق المعلومات الاستخباراتية”، لكنه أشار إلى أن “عدة عناصر ستؤثر على مسار العملية ونجاحها، وهي طول العملية وخسائر في صفوف قواتنا، وعدد الضحايا الفلسطينيين، وتوسيع نطاق العملية لتشمل مناطق أخرى في الضفة الغربية، وخاصةً في حال رد محتمل من قطاع غزة أو لبنان”.
“كل ذلك سيؤثر على الشرعية الدولية المشكوك فيها، بسبب تصاعد عنف المستوطنين والبناء في المستوطنات”، مضيفاً: “من المهم أن يظل الجيش الإسرائيلي يركز على البعد الأمني ومسؤوليته عن حماية مواطني إسرائيل، وألا يسترشد بالوزراء على المستوى السياسي المهتمين باحتلال المنطقة وانهيار السلطة الفلسطينية”.
ورأى يادلين أن “نجاح العملية سيتقرر ليس فقط بالقدرة العسكرية، ولكن بالظرف السياسي”، معتبراً أن “الدعم السياسي من الولايات المتحدة والدول المسالمة سيكون ممكناً إذا تمت استعادة السلطة الفلسطينية الحكم والسيطرة على الأرض”.
ماذا عن موقف السلطة الفلسطينية؟
قبل ساعات من بدء “العملية العسكرية” الإسرائيلية، اعتبر معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي التابع لجامعة تل أبيب الإسرائيلية، في دراسة، أنه “في واقع لعبة محصلتها صفر بين حماس والسلطة الفلسطينية، لا يمكن أن تتعايش حماس القوية والسلطة الفلسطينية القوية”.
وقال المعهد في الدراسة التي حصلت الأناضول على نسخة منها: “إن ضعف السلطة الفلسطينية جنباً إلى جنب مع قوة حماس، بالإضافة إلى تآكل الردع ضد حزب الله (اللبناني) وإيران وزيادة احتمالية نشوب صراع متعدد الجبهات، يشكل معضلة استراتيجية لإسرائيل”.
وأضافت الدراسة: “يجب على إسرائيل تحديد هدفها الاستراتيجي في مواجهة الساحة الفلسطينية، والنظر فيما إذا كانت هناك أي قيمة لتحرك عسكري تكويني ضد حماس، ليس جزءاً من خطة سياسية أوسع. من شأن القدرات العسكرية الضعيفة أن تقلل بشكل كبير من التحدي الذي تشكله حماس للسلطة الفلسطينية والذي يسرع من إضعافها، ويزيل عقبة أمام التحركات الفعالة لتقوية السلطة الفلسطينية”.
واعتبر معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي أن “إضعاف حماس من شأنه أن يخفف من العقدة المزمنة بين مختلف الساحات التي تسعى حماس إلى إحكامها، ويفترض أيضاً تعزيز الردع الإسرائيلي في المنطقة. في ظل الظروف السياسية الحالية، من غير المرجح أن توافق الحكومة الإسرائيلية الحالية على الحاجة إلى تقوية السلطة الفلسطينية، أو على الأقل التوقف عن إضعافها”.
“لذلك لا تواجه الحكومة معضلة استراتيجية في اتخاذ خطوات استباقية لتقوية السلطة الفلسطينية، رغم أن ضعف السلطة الفلسطينية يضر بالمصالح الإسرائيلية، خطوة بهذا الحجم لا يمكن أن تقودها إلا حكومة وحدة وطنية تحظى بدعم شعبي واسع. في الوقت نفسه، فإن وضع السلطة الفلسطينية متزعزع وإشكالي، لدرجة أنه من المشكوك فيه أنه يمكن استعادتها في ظل الظروف القائمة”، بحسب الدراسة الإسرائيلية.
وغالباً ما تؤدي العمليات العسكرية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى انتقادات فلسطينية في شبكات التواصل الاجتماعي للسلطة الفلسطينية. وكانت السلطة الفلسطينية أدانت العملية العسكرية الإسرائيلية في جنين.
وقال الناطق الرسمي باسم الرئاسة الفلسطينية، نبيل أبو ردينة، “إن ما تقوم به حكومة الاحتلال الإسرائيلي في مدينة جنين ومخيمها جريمة حرب جديدة بحق شعبنا الأعزل”. وأكد في بيان على أن “شعبنا الفلسطيني لن يركع، ولن يستسلم، ولن يرفع الراية البيضاء، وسيبقى صامداً فوق أرضه في مواجهة هذا العدوان الغاشم، حتى دحر الاحتلال ونيل الحرية”.
وطالب أبو ردينه “المجتمع الدولي بالخروج عن صمته المخجل والتحرك الجدي لإجبار إسرائيل على وقف عدوانها بحق شعبنا الفلسطيني، ومحاسبتها على كل هذه الجرائم”.
والآن تسود مخاوف من أن تمتد الأحداث الى مناطق أخرى في الضفة الغربية وربما قطاع غزة. وقال تور وينسلاند، مبعوث الأمم المتحدة للشرق الأوسط، في تغريدة على تويتر: “إن التصعيد الحالي في الضفة الغربية المحتلة خطير للغاية، ويأتي بعد شهور من التوترات المتصاعدة”.
وأضاف: “تأتي العملية بعد أشهر من التوتر المتزايد، الذي يذكّرنا مرة أخرى بالوضع المتقلب للغاية وغير المتوقع في جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة. يجب على الجميع ضمان حماية السكان المدنيين، منذ البداية كنت على اتصال مباشر مع جميع الأطراف المعنية، لتهدئة الموقف بشكل عاجل، وضمان وصول المساعدات الإنسانية، وإيصال الإمدادات الطبية وغيرها من الإمدادات الضرورية إلى جنين”.
الخلاصة هنا هي أنه بينما تقول إسرائيل إنها لا تستهدف السلطة الفلسطينية، إلا أن حقيقة الأمر هي أن ما تقوم به إسرائيل يؤثر سلباً في السلطة، التي أعلنت عن وقف الاتصالات مع إسرائيل رداً على عملية جنين، بل ربما تؤدي تلك العملية إلى انهيار السلطة بشكل كامل، في حال تواصل العدوان، وارتكبت قوات الاحتلال مجزرة جديدة، وهو ما لا يمكن استبعاده بطبيعة الحال.
عربي بوست