حجة الوداع.. رسالة عالمية ووثيقة تاريخية للإنسانية

الخطبة النبوية حملت أفق الهداية الإنسانية حينما أنارت البصيرة حول حقوق الإنسان

جريدة الرياض

أعد التقرير – نوال الجبر

الأنماط المتغيرة تلتقي بالصلوات والخطب الدينية وتبقى الرغبة عارمة في معرفة فصول من حياة السابقين وكيف كان يقضي المسافرون مدة طويلة، تحملهم أقدامهم المرهقة عبر مسافات يقطعونها بشوق المحب لأداء مناسك الحج وتبقى الهجرة النبوية هي الحدث التاريخي والذكرى ذات مكانة عظيمة في نفوسنا وهجرة النبي محمد وأصحابه من مكة إلى يثرب؛ بسبب ما كانوا يلاقونه من أذى وعذاب من قريش، خاصة بعد وفاة أبي طالب، وكان ذلك في عام 14 للبعثة، الموافق لـ 622م.

شملت أمور الدنيا والآخرة وعالجت شؤون الحياة الاجتماعية

الحج الركن الخامس من أركان الإسلام، وهو عبادة لمن استطاع إليه سبيلاً وتؤخذ جميع أعماله من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وكان التابعون يذهبون إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسألوهم ويتعلموا منهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأقواله وتقريراته وصفاته وما همّ به ولم يفعله وتركوه.

في حجة الوداع وبالكلمات التي كان لها قوة لا تصدق. واستمرت عبر تاريخ طويل، تأثر البشر بعمق من قبل أعظم الخطباء فهو الذي ألقى أقوى خطاب على مر التاريخ، تتردد عبر الزمن، وتحمل الكثير من جميل المعنى، حيث تلخصت التعليمات المستندة إلى الرسائل الأساسية للإسلام في خطبة الوداع، وقد كانت في سبيل إرسال الرسالة الإلهية وإكمال للدين الإسلامي لذلك تجلت في خطبته هذه الروح، وسمحت للمسلمين لمعرفة دين السلام والإيمان، وكان محتوى الرسالة قويًا ومكثفًا ومفعمًا بالقيم السامية للإسلام وتعاليمه الجليلة.

أكدت على حق الكرامة الإنسانية من خلال تحريم الدماء والأعراض والأموال

ألقى النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – خطبة الوداع على أرض جبل الرحمة بجبل عرفات، على بعد 20 كيلومترًا شرق مكة في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، على الرغم من أن خطبته موجهة للمسلمين، إلا أنها تحمل رسالة عالمية معبرة عن القيم الإنسانية بما تسلمه الحياة والممتلكات والمساواة والعدالة والسلام والتسامح وغيرها. مما يقوم على هذه المبادئ السامية وبعدها مات النبي عد عودته من حجة الوداع بحوالي ثلاثة أشهر ألم به المرض، لكنه ألهم للبشرية جمعاء كل سبل ترسيخ الدين الإسلامي مستنداً على الكتاب والسنة النبوية.

بينت أسس الدين ومقاصد الشريعة

نص خطبة الوداع

وقف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في جموع الحجيج، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

«أَيُّهَا النَّاسُ: اسْمَعُوا قَوْلِي فَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا بِهَذَا الْمَوْقِفِ أَبَدًا، أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، وَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ وَقَدْ بَلَّغْتُ. فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ؛ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا، وَإِنَّ كُلَّ رِبًا مَوْضُوعٌ وَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ، قَضَى اللَّهُ أَنَّهُ لا رِبًا وَإِنَّ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ بَنُو هُذَيْلٍ، فَهُوَ أَوَّلُ مَا أَبْدَأُ بِهِ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ.

أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ أَبَدًا، وَلَكِنَّهُ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تُحَقِّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ.

أَيُّهَا النَّاسُ: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَيُحَرِّمُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ).

وَإِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَإِنَّ (عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ.

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ حَقًّا؛ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، وَعَلَيْهِنَّ أَلا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَتَضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنِ انْتَهَيْنَ؛ فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٍ لا يَمْلِكْنَ لأَنْفُسِهِنَّ شَيْئًا، وَإِنَّكُمْ إِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، فَاعْقِلُوا أَيُّهَا النَّاسُ وَاسْمَعُوا قَوْلِي؛ فَإِنِّي قَدْ بَلَّغْتُ، وَتَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ.

أَيُّهَا النَّاسُ: اسْمَعُوا قَوْلِي، فَإِنِّي قَدْ بَلَّغْتُ وَاعْقِلُوهُ؛ تَعْلَمُنَّ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِخْوَةٌ، فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ مِنْ أَخِيهِ إِلا مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، فَلا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُمُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟» قَالَ: فَذُكِرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ».

وثيقة عظيمة للتاريخ

تعتبر خطبة حجة الوداع التي ألقاها النبي – صلى الله عليه وسلم – أعظم الوثائق التاريخية التي اقتبست من أسس الإسلام وعلى الكتاب المنزل والسنة النبوية التي بها بشر خاتم الرسل، وكانت منبراً يستنير ويستهدي بتعاليمه المسلمون ويستقون منه القيم الإنسانية النبيلة وأصول الأخلاق التي دعا إليها النبي والتي تحمل أفق الهداية الإنسانية حينما أنارت البصيرة حول حقوق الإنسان منذ ذلك الزمان حتى وقتنا الحاضر، وهي بشكل قائم على التشريع الإسلامي (القرآن والسنة)، ولقد وضحت الخطبة حقوق الإنسان رجلا وامرأة وأكدت على حق الكرامة الإنسانية من خلال تحريم الدماء والأعراض والأموال فالنبي محمد – صلى الله عليه وسلم – كان خير قائد للبشرية، وقد نصت الخطبة على الميراث وتحريم الربا وكل صور الغش والتدليس.

يوم الحج الأكبر

عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: «كنا نتحدث بحجة الوداع والنبي – صلى الله عليه وسلم – بين أظهرنا، ولا ندري ما حجة الوداع».

وفي رواية: عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: «وقف النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حجها، وقال: هذا يوم الحج الأكبر، فطفق النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: اللهم أشهد، وودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع».

الأفكار الرئيسة لخطبة الوداع

1- حرمة سفك الدماء بغير حق: فكل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه.. ووجوب إظهار المحبة والأخوة بين المؤمنين، فالمحبة بين المؤمنين والتآلف والتآخي شأن عظيم وخطر جليل، فقد جعل الله عز وجل الأخوة سمة المؤمنين في الدنيا والآخرة، والأخوة بين المؤمنين نعمة كبيرة ومنة عظيمة من الله تعالى، وهذه الأخوة الحاصلة بين المؤمنين سببها الإيمان والعقيدة، فهي أخوة قائمة على (الحب في الله) الذي هو أوثق عرى الإيمان.

2- إنَّ الأمانة مسؤوليَّة عظيمة، و حمل ثقيل: فعلى الإنسان أن يتحمَّل مسؤوليَّته، وأن يؤدي أمانته فيما بينه وبين الله، وفيما بينه و بين العباد.

3- دفن الجاهلية ووضعها تحت الأقدام لحقارتها: حيث وضع رسول الله أخلاق ومبادئ وقيم الجاهلية، وتصوراتها ومظاهرها وشعاراتها وكبريائها وعنجهيتها، وعقائدها وأحكامها وأعرافها، كل ذلك وضع النبي (صلى الله عليه وسلم) تحت قدمه.

4- حرمة الربا: لأنه النظام الذي يسحق الفقراء، ويجعل المجتمع طبقيا يمتلئ بالأحقاد والضغائن ويكثر فيه الجرائم.

5- التحذير من الشيطان: فإنه يئس من المؤمن لكنه رضي باليسير من المحقرات التي نظن أنها بسيطة، وهي في الحقيقة مدخل للشيطان إلى القلب فيفسده ويهلك الإنسان بعد ذلك.

6- الوصية بالنساء خيرا: لا يملكون لأنفسهن شيئا، فإن الإسلام أعطى للمرأة حقوقها ووصى بها.. أعطاها حقها في الميراث.. وجعل لها رأيا ولم يكن لها من قبل رأي.. فهذا هو الإسلام جعلها مصانة في بيتها معززة في حياتها.

7- إقرار العدالة والمساواة الانسانية بين الغني والفقير، والقوي والضعيف، والصغير والكبير، والأبيض والأسود والأحمر، والرجل والمرأة، في الحقوق الإنسانية.

8- التمسك بكتاب الله والاعتصام به فهو سبيل العزة والنصر والنجاح في الدنيا والآخرة.

9- شمولها لأمور الدنيا والآخرة، فهي قد عالجت شؤون الحياة الاجتماعية، من علاقة الأخ بأخيه، والمرأة بزوجها، والأفراد بالمجتمع، والعبد بربه سبحانه وتعالى، وحذرت من الشيطان، وبينت أسس الدين ومقاصد الشريعة، وأنهم سوف يلقون ربهم فيسألهم عن أعمالهم في الآخرة.

10- على الداعية البلاغ وليس عليه النتائج، وهو أمر محسوم من القرآن (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ) والنبي (صلى الله عليه وسلم) يقرر ذلك أن الداعية عليه أن يبذل قصارى جهده ومبلغ طاقته، وجل وقته، وأكثر ماله، وكل ما يملك، في سبيل دعوته، ولا ينتظر النتيجة ولا يحاسب عليها هل التزم الناس معه أم لا.

وهكذا كانت هذه الوصايا الجامعة والقيم النافعة تمهد السبيل إلى الاستقرار الأسري والتوازن الاقتصادي والتكافل الاجتماعي والتعارف الإنساني، قياما بواجب الدعوة إلى هذا الدين بالتي هي أحسن.

أضواء على خطبة حجة الوداع

انبعث الصدى من المدينة المنورة حيث خرج الحبيب الأريب لبدر بجنوده، وزحف إلى أحد في حشوده، ومن المدينة بعث للملوك رسائله، وعلم الناس فضائله. فالمدينة المنورة هي بيت ضيافته، ودار خلافته، في كل مكان منها له ذكريات، وفي كل موضع له علامات.

لقد علت الأصوات أن افسحوا وتباعدوا عن الطرقات، ألا ترون ذلكم الركب المبارك، في يوم السبت وفي الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة عشر من الهجرة المباركة. تحرك هذا الجمع المبارك بعد الظهر حتى بلغ ذي الحليفة فاغتسل النبي (صلى الله عليه وسلم) وادهن ولبس إزاره ورداءه، وقلد بدنه، ثم أهل بالحج والعمرة وقرن بينهما، وسار وهو يلبي (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).

نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصده الحج لهذا العام، فاجتمع حوله مئة وأربعة وأربعين ألفًا من الناس في مشهد عظيم، فيه معان العزة والتمكين، ألقى الرعب والفزع في قلوب أعداء الدعوة ومحاربيها، وكان غصة في حلوق الكفرة والملحدين.

قبل ثلاثٍ وعشرين سنة من ذلكم الوقت كان فردًا وحيدًا، يعرض الإسلام على الناس فيردوه، ويدعوهم فيكذبوه، في ذلكم الحين كان المؤمن لا يأمن على نفسه أن يصلي في بيت الله وحرم الله.

ها هم اليوم مئة وأربعة وأربعون ألفًا يلتفون حول الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم في مشهدٍ يوحي بأكمل معان النصر والظفر، ويجسد صورة رائعة.

لبيك اللهم لبيك

سار صلى الله عليه وسلم ليدخل المسجد الحرام الذي لطالما استقسم فيه بالأزلام، وعبدت فيه الأصنام، دخله في الرابع من ذي الحجة، يوم الأحد ليلاً، طاهرًا نقيًا، تردد أركانه وجنباته لا إله إلا الله، ورجع الصدى من جبال بكة ينادي: لبيك اللهم لبيك.

وفي اليوم الثامن من ذي الحجة وكان يوم الخميس نزل بطن الوادي من منى فخطب في ذلكم الجمع الغفير خطبة جامعة نافعة.

وداع النبي لأمته

(فَإنّيَ لاَ أَدْرِي، لعَليّ لاَ أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامي هَذَا، بهذا الموقف أبدا).

ها هو يتحدث حديث مودع محب مخلص ناصح، يريد الخير لأمته من بعده. فقد شعر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن حياته قد انطوت، وأيامه قد انتهت، لأنه أدَّى ما عليه، وأقام دينه العظيم يؤدي فعالياته في توجيه الإنسان وإقامة سلوكه.

إنذارات بالرحيل فإذن لا بد له (صلى الله عليه وسلم) من الرحيل عن هذه الحياة، فقد كانت هناك إنذارات متوالية تدل على ذلك، وهي كما يلي:

أولها:أن القرآن الكريم نزل على الرسول (صلى الله عليه وسلم) مَرَّتين، فاستشعر بذلك حضور الأجل المحتوم، وأخذ ينعى نفسه، ويذيع بين المسلمين مفارقته لهذه الحياة.

وتقبل فاطمة الزهراء تمشي، فيقول لها أبوها: «مرحباً بابنتي»، تقول أم المؤمنين عائشة: ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم أسرَّ إليهاً حديثاً، فبكت، ثم أسرَّ إليها حديثاً فضحكتْ، فقلت لها: ما رأيتُ كاليوم فرحاً أقرب من حزن، فسألتُها عما قال؟ فقالت: ما كنت لأُفشي سِرَّ رسول الله،

فلما قُبِض النبيُّ سألتُها، فقالت: أسرَّ إلي: «إن جبريل كان يعارضني القرآن كلَ سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي، وإنك أولُ أهلِ بيتي لحاقاً بي، فبكيتُ، فقال: أما ترضَينَ أن تكوني سيدةَ نساء أهل الجنة أو نساءِ المؤمنين»، فضحكتُ لذلك.

وفي رواية أخرى أنها قالت: (فأخبرني أنه يُقبض في وجعه الذي توفي فيه؛ فبكيت، ثم سارَّني، فأخبرني أني أولُ أهلِ بيته أتبعُه؛ فضحكت).

وسبب ضحكها رضي الله عنها أنها سيدة نساء المؤمنين، وأول من يلحق به من أهله، وسبب البكاء أنه أخبرها بموته صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن حجر رحمه الله تعالى: «وروى النسائي في سبب الضحك الأمرين»أي بشارتها بأنها سيد ة نساء هذه الأمة، وكونها أول من يلحق به من أهله. وقد اتفقوا على أن فاطمة رضي الله عنها أول من مات من أهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم .

وفي هذا الحديث يخبر النبي بثلاث غيوب: أولُها: اقترابُ أجله، وقد مات عليه الصلاة والسلام في تلك السنة.وثانيها: إخبارُه ببقاء فاطمة بعده، وأنها أولُ أهل بيته وفاة. وقد توفيت بعده بستة أشهر فقط، فكانت أولَ أهل بيته وفاة.وثالثها: أنها سيدةُ نساء أهل الجنة، رضي الله عنها.

قال النووي: «هذه معجزة ظاهرة له، بل معجزتان، فأخبر ببقائها بعده، وبأنها أول أهله لحاقاً به، ووقع كذلك، وضحكت سروراً بسرعة لحاقها».

ثانيها: إنّه نزل عليه الوحي بهذه الآية الكريمة: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَيِّتُونَ) وكانت هذه الآية إنذاراً له عليه الصلاة والسلام بمفارقة الحياة.

ثالثها: إنّه نزلت عليه سورة النصر، فكان عليه الصلاة والسلام يَسكُتُ بين التكبير والقراءة ويقول: (سُبحَانَ اللهِ وَبِحَمدِهِ، أَستَغفِرُ اللهَ وَأتُوبُ إِلَيه)، فَفَزع المسلمون وذهلوا، وانطلقوا إليه يسألونه عن سبب ذلك، فأجابهم عليه الصلاة والسلام: ( إِنَّ نَفسِي قَد نُعِيَتْ إِلَيَّ )، وكان وَقْعُ ذلك عليهم كالصاعقة، فلا يعلمون ماذا سيجري عليهم إن خلت هذه الدنيا من النبي عليه الصلاة والسلام.

رابعها: أن الحدث الأهم في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هو وفاته عليه الصلاة والسلام، لأن وفاته صلى الله عليه وسلم ليست كوفاة سائر الناس، ولا كسائر الأنبياء؛ إذ بموته صلى الله عليه وسلم انقطعت النبوات، وانقطع خبر السماء ووحي الله عن الأرض. وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عظم هذه المصيبة التي حلت بالمسلمين فقال: «يا أيها الناس أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعَزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي» قال السندي: «فليتعزّ» ويخفِّف على نفسه مؤونة تلك المصيبة بتذكّر هذه المصيبة العظيمة، إذ الصّغيرة تضمحلّ في جنب الكبيرة فحيث صبر على الكبيرة لا ينبغي أن يبالي بالصّغيرة». وعن أبي بردة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماءَ ما توعد، وأنا أمَنَةٌ لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنةٌ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون».

بداية المرض

كان سبب مرض النبي صلى الله عليه وسلم مؤامرة اليهودية حين دست له السم في طعامه صلى الله عليه وسلم الذي دعته إليه، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منه وأكل القوم فقال: «ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة»، ثم قال في وجعه الذي مات فيه: «مازلت أجد من الأكلة التي أكلت بخيبر، فهذا أوان قطعت أبهَري» وفي الحديث أن أم مبشِّر رضي الله عنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي قبض فيه فقالت: بأبي وأمي يا رسول الله، ما تتَّهِم بنفسك؟ فإني لا أتهم إلا الطعام الذي أكَلَ معك بخيبر، وكان ابنها مات قبل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «وأنا لا أتهم غيره، هذا أوان قطع أبهري» فجمع الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بين الشهادة على يد قتلة الأنبياء من اليهود وهي أكرم الميتات، وبين المرض والحمى وفيهما ما فيهما من رفع الدرجات، وقد جزم ابن كثير رحمه الله تعالى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مات شهيداً، ونقل: ”وإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مات شهيداً مع ما أكرمه الله به من النبوة“. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «لئن أحلف تسعاً أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قتل قتلاً أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل، وذلك؛ لأن الله اتخذه نبيّاً واتخذه شهيداً“.

وأما أول معالم عود المرض إليه صلى الله عليه وسلم فكان بعد رجوعه من دفن أحد أصحابه، قالت عائشة رضي الله عنها: رجع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة بالبقيع، وأنا أجد صداعاً في رأسي وأنا أقول: وا رأساه، قال: «بل أنا وا رأساه» قال: «ما ضرَّكِ لو متِّ قبلي فغسلتُك وكفنتُك ثم صليتُ عليك ودفنتك»، قلت: لكني أو لكأني بك والله لو فعلت ذلك لقد رجعتَ إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بُدئ بوجعه الذي مات فيه.

وكان ذلك بعد شهرين من عودة النبي صلى الله عليه وسلم من حجّة الوداع وفي اليوم التاسع والعشرين من شهر صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة حيث شهد النبي صلى الله عليه وسلم جنازة في البقيع، فلما رجع أخذه صداع شديد وهو في الطريق، واتقدت حرارته، واشتد به المرض، ونُقل إلى بيت عائشة. فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث فلما اشتد [الذي توفي فيه] كنت أقرأ [وفي رواية أنفث] عليه بهن وأمسح بيده نفسه رجاء بركتها. قال ابن شهاب: ”ينفث على يديه ثم يمسح يهما وجهه“. وفي صحيح مسلم قالت: ”كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه؛ لأنها كانت أعظم بركة من يدي“.

كان النبي صلى الله عليه وسلم رغم مرضه يخرج ويُصلّي بالناس، وكانت آخر خطبة خطبها يوم خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد فصعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم).

شدة المرض

وقبل الوفاة بأربعة أيام أثقله المرض، فصلّى بالناس صلاة المغرب، ولم يستطع الخروج لصلاة العشاء، قالت عائشة: (فقال أصلى الناس؟ قلنا: لا، وهم ينتظرونك يا رسول الله، قال: ضعوا لي ماء في المخضب، ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال أصلى الناس؟ ثلاث مرات، قالت والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة، قالت: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس، فقال أبو بكر: وكان رجلاً رقيقا: يا عمر صلِّ بالناس، قال فقال: عمر أنت أحق بذلك. قالت: فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفّة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر، وقال لهما: أجلساني إلى جنبه فأجلساه إلى جنب أبي بكر، وكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت أحداً أشدَّ عليه الوجع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم».

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يوعك فمسسته بيدي فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”أجل إني أُوعك كما رَجُلان منكم“ قال: فقلت: ذلك أن لك أجرين. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”أجل ذلك كذلك ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه [شوكة فما فوقها] إلا حط الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها“.

آخر صلاة للنبي

عن أنس رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه كان يصلي بهم في وجع النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف (في صلاة الفجر) ففاجأهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد كشف سِترَ حجرةِ عائشة رضي الله عنها (وهم في صفوف الصلاة) وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضحك (وهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحاً) (برؤية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) (فنكص أبو بكر رضي الله عنه على عقبيه ليصل الصف، وظنَّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خارج إلى الصلاة) (فأشار إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (بيده) أن أتموا صلاتكم (ثم دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) (الحجرة) وأرخى الستر فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من يومه ذلك.

جريدة الرياض