كان نقد اليساريين للسياسات الاقتصادية يقع في آذان مصغية وبرامجهم للخروج من الأزمات محل تقدير
رفيق خوري كاتب مقالات رأي
دقت ساعة اليسار في لبنان، لكن اليساريين في أزمة غير عادية. أزمة ما بعد الاتحاد السوفياتي، لا ما بعد الماركسية التي ازدادت أهميتها وأعيد الاعتبار إلى تحليلها للأزمات الرأسمالية في دروس الجامعات الأميركية والأوروبية. أزمة ما بعد المشاركة في حرب لبنان على جبهة طائفية مقابل جبهة طائفية أخرى ضمن وجوه متعددة للحرب، وفي إغراء الرهان على قوة الفصائل الفلسطينية المسلحة لتغيير النظام في البلد. وأزمة القراءة في الأحداث الداخلية والتحولات الإقليمية والدولية لجهة الدفاع عن دولة مذهبية دينية في المنطقة، ودولة رأسمال مافيوي دولية لمجرد أنهما في مواجهة مع أميركا.
ومن المفارقات أن اليسار الشيوعي والاشتراكي في لبنان كان قوياً أيام الازدهار الاقتصادي، فصار ضعيفاً أيام الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية العميقة. ففي مراحل التحرر الوطني قبل الاستقلال ثم الصراع السياسي والفكري بعده، كان اليسار لاعباً بارزاً على المستويات السياسية والفكرية والثقافية. كان نقد اليساريين للسياسات الاقتصادية يقع في آذان مصغية، وبرامجهم للخروج من الأزمات محل تقدير. وما أكثر المفكرين والأدباء والشعراء الذين تقدموا في موجة اليسار وأسهموا في إغناء النقاش الأيديولوجي والثقافة الوطنية عبر الإبداع والترجمات من الأدب العالمي، وخصوصاً الأدب الروسي، كما من الكتب النظرية للمفكرين الماركسيين وسواهم في العالم. وما أكثر الذين تغيرت عقولهم ومواقفهم من خلال القراءة في مجلة “الطريق” ومجلة “الثقافة الوطنية” ومؤلفات مهدي عامل وحسين مروة. اليوم يبدو اليسار في خريف الثقافة والسياسة، حيث تطغى في البلد ثقافة الغيب وسياسة اللاسياسة. الأحزاب القوية هي الأحزاب الطائفية. وأقوى الأحزاب حزب مذهبي ديني يقوده معممون على طريقة الملالي في إيران.
وكل هذه الأحزاب هي عملياً “يمين” في السياسات المالية والاقتصادية. لا بل إن بعضها يقف على يمين صندوق النقد الدولي المتهم بأنه يفرض سياسات تزيد الأثرياء غنى، والفقراء فقراً، في حين أنه يطلب للبنان ما يطلبه اليسار من إصلاحات مالية واقتصادية ورعاية اجتماعية. وأبسط دليل على أزمة اليمين هو أنه قاد لبنان إلى أزمة بلا حل: سطو على المال العام والخاص، وموت الاقتصاد، وانهيار الليرة والمؤسسات.
وهذه الحال ليست في لبنان وحده. فاليمين المتطرف يتقدم في أوروبا وأميركا. وقد لاحظ فرنسيس فوكوياما في قراءة “الأزمات الأخيرة التي هي نتاج رأسمالية مالية لا ضابط لها” مفارقة لافتة، وهي “ارتفاع موجة اليمين الشعبوي بدلاً من موجة اليسار”. لماذا؟ لأن “أهم الأسباب في فشل اليسار فشل الأفكار، بحيث لم يجد بديلاً من فشل اليمين الليبرالي سوى العودة إلى النموذج القديم”. أليس هذا ما ينطبق على اليسار في لبنان؟ صحيح أن الأحزاب العلمانية والعابرة للطوائف تشق طريقها بصعوبة في النظام الطائفي، لكن الصحيح أيضاً أن اليسار كان في الماضي قوياً ضمن النظام الطائفي القوي نفسه. أما اليوم، فإنه يجد نفسه مثل “لاجئ سياسي” لدى الحزب الأقوى.
المشهد في العالم، كما يراه الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك، هو أن “اليسار العلماني واليمين الديني يتصارعان على غنائم النظام الرأسمالي العالمي الذي يسيطران عليه”. رأي غريب، لكن الواقع أن اليسار يأخذ برامج اليمين، كما يوحي اليمين أنه صار يطبق برامج اليسار بالنسبة إلى دولة الرفاه والعدالة الاجتماعية. وحين التقى الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون زعيم الحزب الشيوعي الصيني ماو تسي تونغ قال له: “أنا معجب بما فعلته لتغيير العالم”، فرد ماو: “أنا بالكاد غيرت الشارع الذي أعيش فيه”، ثم أضاف “أنا أعتقد أن اليمين أقدر على تنفيذ ما يقوله اليسار من دون أن يفعله”.
يقول الشاعر الأرجنتيني روبرتو خواروس: “الصعود والهبوط دائماً ما يلتقيان”. والظاهر أن هذه القاعدة تصح على اليسار واليمين.