مراد حاج
يمكن القول إن الخوارزمي كان محظوظاً بأنه عاصر وعرف هارون الرشيد عن قُرب، وهذه ليست مبالغة. فالخليفة العباسي العاشق للشعر والمتذوق للفن، كان يهوى العلم ويقدّر العلماء أيضاً، ويُقال إن مدينة بغداد ازدهرت في عهده وأصبحت مركزاً للمعرفة والثقافة.
وانطلاقاً من ذلك، فقد أنشأ الرشيد ما يُسمّى بـ”بيت الحكمة” قبل أن يوسّعه ويطوّره ابنه المأمون الذي تفرّد بتشجيعٍ مُطلق للعلوم، من فلسفة ورياضيات وفلك، فشهد عهده نهضة علمية وفكرية لا مثيل لها.
و”بيت الحكمة” كانت أعظم مكتبات العصور الوسطى وبمثابة جامعة متعدّدة العلوم، تضمّ مؤلفات قيّمة من مختلف الحضارات القديمة وفي مختلف الاختصاصات، ما ساعد ابن مدينة “خوارزم” في تطوير عبقريته لخدمة البشرية.
في البداية، من هو الخوارزمي؟
اسمه الكامل أبو عبد الله محمد بن موسى، ويُكنى بـ”الخوارزمي” نسبةً إلى أصله ومكان ولادته؛ أي مدينة خوارزم، التابعة حالياً لجمهورية أوزبكستان، والتي وُلد فيها نحو عام 781م.
نشأ في قرية “قطربل” بضواحي العاصمة العراقية بغداد، التي هاجرت إليها عائلته الكبيرة بعد إعلان جدّه الإسلام. وداخل مسجد تلك القرية أتقن الخوارزمي اللغة العربية، بعدما كان قد تعلّم في صغره اللغتين التركية والفارسية، على يد والده.
وبعدما تلقن القراءة والكتابة والحساب، عمل في صباه بزراعة حقول والده الواسعة، وكان حينها من هواة ركوب الخيل والمشاركة في مسابقات الفروسية، ما ساعده في التأمل أكثر.
ووفقاً لموقع “مفكرون”، فإن الخوارزمي أصبح شغوفاً بمحاولة فهم أشكال الأشياء، وتقدير المسافات الوهمية فيما بينها، عندما كان في العشرين من عمره. فقرر ترك الزراعة والسفر إلى بغداد، لدراسة الرياضيات في “بيت الحكمة”، التي أسسها هارون الرشيد.
درس فيها لمدة عامين، قبل أن يلاحظ هارون الرشيد نبوغه وشغفه الواسع بالعلم. فعيّنه مُدرساً وباحثاً ومترجماً في “بيت الحكمة”، المكتبة الكبيرة التابعة لقصر الخلافة، والتي كانت بمثابة مركزٍ حقيقي للبحث العلمي.
وعند تسلم المأمون (ابن هارون الرشيد) خلافة الدولة العباسية بعد أخيه الأمين، عيّن الخوارزمي أميناً لمكتبته الخاصة بالموازاة مع عمله في “بيت الحكمة”، وعهد إليه بجمع الكتب اليونانية من شتى العلوم وترجمتها إلى العربية.
واللافت أن حياة الخوارزمي الشخصية بقيت لغزاً؛ لا توجد معلومات كثيرة عن حياته الشخصية في المراجع التاريخية، باستثناء أنه تزوج فتاة بغدادية ورُزِقَ منها بولدٍ واحد.
“بيت الحكمة” أساس معرفته
استفاد الخوارزمي من كل الكتب التي كانت متوافرة في خزانة المأمون ومكتبته، واستطاع من خلالها أن يدرس الرياضيات والجغرافيا والفلك والتاريخ، ما ساهم في تنمية أفكاره وتوسعة إدراكه.
ووفقاً لموقع “عالم المعرفة”، فقد أنجز معظم أبحاثه وألف أبرز كتبه خلال فترة عمله في “بيت الحكمة”، التي كانت تعمل فيها أيضاً مجموعة من الكُتاب والمترجمين والعلماء والباحثين في كافة المجالات، وقد تُرجمت فيها العديد من المخطوطات والكتب من الموضوعات الفلسفية.
كان “بيت الحكمة” مفتوحاً لطلبة العلم من جميع الأعراق والأديان من دون تمييز، ما شجع العلماء الذين اضطُهدوا من قِبل الإمبراطورية البيزنطية على العمل والدراسة فيها. ونتيجة ذلك، أصبح مركزاً يضمّ مختلف اللغات من حول العالم، وضمن ذلك: العربية والفارسية، والآرامية، والعبرية، والسريانية، واليونانية، واللاتينية.
كان الخوارزمي مُلمّاً بعلوم عدة، ولكنه اهتم بالرياضيات أكثر، حيث كانت بوابته الأولى للدخول إلى “بيت الحكمة”، طالباً ثم باحثاً. وقد سمحت له الكتب اليونانية والهندية التي اطلع عليها داخل مكتبة قصر الخلافة في اتساع معرفته بهذا المجال الذي تعمق فيه إلى درجة أنه أسّس علماً جديداً سيُعرف باسم “الجبر”.
وقد تضمن علم الجبر عدة مناهج جديدة في الرياضيات، من بينها تلك التي أُطلق عليها لاحقاً اسم “الخوارزميات”، والتي تستعمل حالياً في علم البرمجيات.
أسّس علم الجبر لتسهيل معاملات الناس اليومية
وضع الخوارزمي أُسس علم الجبر من خلال دراسةٍ منهجية لحلّ معادلةٍ من الدرجتين الأولى والثانية، وقد لخّص كل ذلك في كتابٍ عَنونه بـ”كتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة”، ولكن طبعاته الجديدة غيّرت عنوانه إلى “كتاب الجبر والمقابلة”.
وبحسب موقع “الجزيرة نت”، فإن الخوارزمي ألّف “الجبر والمقابلة” لكي يستفيد منه كل الناس في حياتهم اليومية، فيسهّل عليهم معاملاتهم العامة والخاصة، من مواريث ووصايا وغيرها.
وقد أوضح الخوارزمي هذه الغاية في مقدمة كتابه عندما ذكر: “ألّفتُ من كتاب الجبر والمقابلة كتاباً مختصراً حاصراً للطيف الحساب وجليله، لما يلزم الناس من الحاجة إليه في مواريثهم ووصاياهم، وفي مقاسمتهم وأحكامهم وتجاراتهم، وفي جميع ما يتعاملون بينهم من مساحة الأرضين، وكرى الأنهار، والهندسة، وغير ذلك من وجوهه وفنونه”.
يتضمن “كتاب الجبر والمقابلة” قسمين؛ الأول نظري، وهو مخصّص لإقامة حساب الجبر وإنشاء مفردات أولية ومفاهيم أساسية، فيما يتحدث الثاني عن الطرق المنتظمة التي تسمح بإعادة جميع العمليات الحسابية إلى أنواعها الجبرية الأساسية.
وفي الأجزاء الأخيرة من القسم الثاني، تناول كيفية تطبيق هذا الحساب على المعاملات التجارية، ومسح الأراضي، إضافةً إلى القياسات الهندسية، والوصايات.
وبسبب كل المعلومات والمناهج الجديدة التي تضمّنها هذا الكتاب، والتي لم يكن قد تمّ التطرق إليها في كتب الرياضيات القديمة، أُطلق على الخوارزمي لقب “أبو الجبر” واعتُبر مؤسّس هذا العلم المُستقل عن الحساب.
في كتابه “الفهرست”، تطرق ابن النديم إلى ما قاله العلماء عن “كتاب الجبر والمقابلة”، على غرار شجاع بن أسلم، الذي كتب: “وكنتُ كثير النظر في كتب العلماء بالحساب، والبحث عن أقاويلهم، والتفتيش لما رسموا في كتبهم. فرأيت كتاب محمد بن موسى الخوارزمي أصحها أصلاً وأصدقها قياساً. وكان مما يجب علينا معشر الدارسين، من التقدمة والإقرار له بالمعرفة والفضل، إذ كان السابق إلى كتاب الجبر والمقابلة والمبتدئ له والمخترع لما فيه من الأصول”.
مؤسّس الخوارزميات الذي أدخل الصفر إلى الأعداد
عالج “أبو الجبر” موضوعات الجبر بعيداً عن نظرية الأعداد وموضوعات الحساب، وعُرف بأنه أول من أدخل الرقم صفر إلى الأعداد لتكون طبيعية.
فقد كان نظام العدّ السائد حينها يعتمد على أسلوبٍ قديم بلا رقم صفر؛ ومع إدخاله الصفر، تحوّل الحساب إلى النظام العشري المعروف في الجمع والطرح، والذي استُخدم فيما بعد بأوروبا ومختلف أنحاء العالم، بعدما تُرجمت مخطوطات الخوارزمي.
وفقاً لموسوعة “عريق” العربية، فقد تُرجم “كتاب الجبر والمقابلة” إلى اللاتينية نحو العام 1145 على يد العالم والراهب والمستشرق الإنجليزي روبرت أوف تشستر، فكانت تلك الترجمة بداية لإدخال كلمات مثل Algebra وZero إلى اللاتينية.
تُرجم الكتاب مرتين بعد ذلك خلال القرن الـ12، من قِبل الإيطاليين جيراردو الكريموني وغيوم دي لونا. لكن ترجمة روبرت أوف تشستر كانت الأكثر انتشاراً، وتم اعتمادها بشكلٍ رئيسي في مناهج تعليم الرياضيات داخل الجامعات الأوروبية حتى القرن الـ16.
وتؤكد الكثير من المراجع التاريخية أن “أبو الجبر” هو مخترع الأرقام المتداولة حالياً في العالم (0- 1 -2 – 3- 4 -5- 6… ) والتي تُسمى “الأرقام العربية”، رغم أن الأرقام التي نستعملها حالياً في المشرق العربي تُسمّى في الأساس “الأرقام الهندية” (۰ – ۱ – ۲ – ۳ – ٤ – ٥ – ٦…).
وقد أوضح موقع “المرسال” أنّه كان لدى الهنود مجموعة متعددة من الأرقام، فهذّب العرب مجموعةً منها وكوّنوا منها قسماً عُرف بـ”الأرقام الهندية”، ثم اخترع الخوارزمي مجموعة أخرى يطلق عليها اليوم اسم “الأرقام العربية”.
لم تأخذ هذه المجموعة حظها بالانتشار في العراق والشام ومصر والحجاز، في حين استخدمها المسلمون بالمغرب العربي والأندلس، وقد وصلت عن طريقهم إلى أوروبا، ثم انتشرت في جميع أنحاء العالم.
قد يبدو الأمر غريباً حين تعرف أن الخوارزمي يُطلق عليه أيضاً لقب “جدّ الكومبيوتر”، لأن عمل الكومبيوتر في الأساس يعتمد على مجموعة من البرمجيات التي تشتغل بقواعد رياضية دقيقة تُسمّى “الخوارزميات” (Algorithm). وقد سُمّيت كذلك نسبةً إلى الخوارزمي، الذي ابتكر أساسياتها في القرن التاسع.
و”الخوارزمية” هي مجموعة من الخطوات الرياضية والمنطقية والمتسلسلة اللازمة لحلّ مشكلة ما، تعتمد على التسلسل والاختيار والتكرار. وهي ضرورية في علوم الكومبيوتر، لكي تقوم الأجهزة بتفعيل البرامج وإدارة البيانات بطريقة عملية.
إنجازات بارزة في الفلك والجغرافيا
برع الخوارزمي أيضاً في الفلك والجغرافيا، اللذين طوّر فيهما نظريات أساسية.
ففي علم الفلك مثلاً، طوّر نظرية وطريقة صنع المزولات (الساعات الشمسية)، التي ورثها من الحضارتين الهندية والإغريقية. فوضع جداول لهذه الآلات التي اختصرت الوقت اللازم لإجراء حسابات معينة، والتي وُضعت غالباً داخل المساجد لتحديد وقت الصلاة.
كما اخترع أداة “الربع المجيب” التي كانت تُستخدم للحسابات الفلكية ولتحديد الوقت، من خلال مراقبة الشمس أو النجوم، قبل أن يبتكر أداة “الربعية”.
و”الربعية” أداة رياضية يمكن استخدامها في أي دائرة عرض على الأرض، وفي أي وقت من السنة، لتحديد الوقت. وقد كانت بمثابة ثاني أكثر أداة فلكية تُستخدم على نطاقٍ واسع خلال القرون الوسطى بعد “الأسطرلاب”.
وللخوارزمي كتابٌ بارز ومهم جداً في علم الجغرافيا عنوانه “صورة الأرض من المدن والجبال والبحار والجزائر والأنهار”.
ووفق موقع Independent Arabia، حدّد فيه عدداً كبيراً من المناطق الجغرافية التي لم تكن معروفة في العالم القديم، وعيّنها برسوم، وأدخل عليها المسطحات المائية والجبلية، وأدرج معها الأقاليم المناخية التي تنضوي فيها، كما عيّن خطوط الطول والعرض في هذه المناطق، حتى بلغت ما يُقارب الـ2400 منطقة.
استغرق تأليف الكتاب سنوات عدة، وقد ساعده في إنجاز الرسوم والتدقيق في صحتها 70 عالماً. والبارز أن هذا الكتاب صحّح كثيراً من المغالطات التي سبق أن أطلقها “أبو الجغرافيا”، اليوناني بطليموس، وأعاد ضبط إحداثيات كل المناطق الواردة في أطلسه ضبطاً دقيقاً.
لا توجد سوى نسخة واحدة من كتاب “صورة الأرض”، وهي محفوظة في مكتبة جامعة ستراسبورغ الفرنسية، ونسخة الترجمة اللاتينية محفوظة في المكتبة الوطنية بمدريد.
كان الخوارزمي إذاً أحد أبرز علماء الحضارة الإسلامية، وأحد العباقرة الكبار الذين ساهموا في تطور البشرية. وقد توفي في بغداد ما بين عامَي 847 و851، في عهد الخليفة العباسي أبو الفضل جعفر المتوكل على الله.
عربي بوست