قد نصل إلى المجرات القريبة قبل أن نكتشف أسراره بالكامل
فيديل سبيتي
يقال في الأحاديث المتداولة إن البشر يستخدمون أقل من 10 في المئة من قدرة الدماغ، إلا العباقرة الكبار الذين قد يصلون إلى نسبة 13 في المئة من قدرة الدماغ على التفكير والتحليل والاستنتاج والتوصل إلى نتائج غير متوقعة أو غير منتظرة وذات تأثير كبير في مسار البشرية. وما يعنيه تداول هذه المعلومة بين العامة هو أن الدماغ لغز كبير، وما زال أمامنا كثير كي نعرفه عنه لنتمكن من الوصول، في قدرات الكائن البشري، إلى درجات ما زالت تصنف في إطار الخيال العلمي.
ويخضع دماغ الجنين قبل الولادة لتوسع شديد ونمو في شبكات الاتصال العصبية فيه. يستمر هذا التطور الدراماتيكي في السنوات الأولى من الطفولة، ثم تبدأ عملية الصقل والثبات في التغييرات النمطية. ويصل الدماغ إلى حالة النضوج في مرحلة البلوغ المبكرة، لكن العمليات الداخلية التي تصنع الدماغ وتغذيه وتطوره عبر ولادة الخلايا والوصلات العصبية لتحل محل القديمة تستمر طوال العمر.
في الأشهر الثلاثة الأخيرة من الحمل يزداد حجم دماغ الجنين بشكل كبير، مما يؤدي إلى طي الطبقة الخارجية للدماغ وتطور الروابط بين الخلايا العصبية. ويبدأ الدماغ في تطوير سطحه الخارجي المتجعد.
ويتضاعف حجم الدماغ في السنة الأولى، حيث تنمو الروابط بين الخلايا العصبية ويتكون النخاع، مما يعزز سرعة الإشارة بين الخلايا العصبية. ويستمر حجم الدماغ في النمو في السنة الثانية من العمر بما يقدر بنحو 15 في المئة. وذروة النمو في مرحلة الطفولة تكون في سن العاشرة للفتيات و14 للفتيان. ويمكن أن تكون الفروق الفردية في نمو الدماغ مرتبطة بالاختلافات النفسية. على سبيل المثال، ربط الباحثون مقاييس الذكاء بأنماط سماكة وترقق القشرة الدماغية في مناطق معينة أثناء الطفولة والمراهقة.
تعد جينات الفرد عاملاً رئيساً يؤثر على كيفية تطور الدماغ طوال حياته، وتسهم في التباين الطبيعي في نمو الدماغ بين الأشخاص. وهناك أيضاً العوامل البيئية التي يمكن أن تؤثر في طريقة نمو الدماغ منذ الرحم. وتساعد التغذية الكافية أثناء الحمل على ضمان نمو صحي للدماغ، بينما يؤدي التعرض إلى عدوى أو سموم معينة مثل الكحول والمخدرات والغازات السامة إلى حدوث خلل في نمو الدماغ، وتؤثر بالطريقة نفسها الصدمات النفسية والتجارب السلبية الشديدة كالحروب والتهجير والفقر والمخدرات والجريمة سلباً على نمو الدماغ.
كون غير مكتشف في أجسادنا
“الدماغ بحجم الكون اللانهائي، ولا يقل عنه غموضاً”، هذا ما يردده علماء الطب الدماغي أو العلماء المتخصصون في جزء معين من أجزاء الدماغ الكثيرة والمعقدة في تشابكها وفي تواصلها وإفرازاتها وطريقة تأثرها وتأثيرها بأعضاء الجسم الأخرى، وهناك العلوم التي تتناول الغدد الدماغية وإفرازاتها، والتي ما زالت المعلومات حولها غير مكتملة، والعلوم التي تتناول تأثر الدماغ بالمحيط الخارجي والتربية والتغذية والوراثة الجينية، وغيرها من القضايا، والأثر البيئي والعلاقات الاجتماعية والطبقية ونوع العمل على كيفية تطور أو تأخر الدماغ في تأدية عمله. ويساند علماء الأعصاب والأطباء والباحثون في الجهاز العصبي ما يردده زملاؤهم في الطب الدماغي، حول أن دماغنا يقارب في حجمه ومساحته وشبكة العلاقات التي تربط خلاياه ذات الأنواع المختلفة، حجم الكون. ويفحص علم الأعصاب بنية ووظيفة الدماغ البشري والجهاز العصبي. ويستخدم علماء الأعصاب البيولوجيا وعلم التشريح وعلم وظائف الأعضاء والسلوك البشري والإدراك وغيرها من التخصصات لرسم خريطة للدماغ على المستوى الآلي.
ويحتوي دماغ الإنسان على نحو مئة مليار خلية عصبية دماغية تتصل كل منها بألف اتصال بالخلايا الأخرى. وأحد أكبر التحديات التي يواجهها علم الأعصاب الحديث هو رسم خريطة لكل شبكات الاتصال من خلية إلى أخرى، وتسمى “الشبكة العصبية”. ولو أردنا أن نحدد طول الوصلات العصبية الممتدة بين الخلايا العصبية يمكننا القول إنها تقارب خمسة ملايين كيلومتر من الأسلاك. وبعد نصف قرن من التقدم في الاكتشافات الدماغية، إلا أنه يبدو لجميع العاملين في المجال الدماغي أننا سنحتاج إلى مزيد من الوقت لفهم الجذور العصبية للسلوك البشري وفهم آلية عمل الوعي والذاكرة.
ولا تزال حالات طبية في دائرة الطب النفسي غير واضحة الأسباب والعلاجات كالاكتئاب الشديد أو الفصام أو اضطراب القلق العام. وما زال أطباء النفس يجدون صعوبة حتى اليوم، في التفريق بين عوارض الاكتئاب والفصام، مثلاً، لكن علماء الأعصاب السريريين تمكنوا من إيجاد صلات واضحة بين آلية عمل مناطق معينة في الدماغ وأنواع معينة من الأمراض العقلية.
وحددت الدراسات التي أجريت على الأفراد المصابين باضطراب اكتئابي كبير، انخفاض حجم المادة الرمادية في عدد من مناطق الدماغ، لذا تم إنتاج أدوية مضادة للاكتئاب على نطاق واسع لتعزيز السيروتونين في الدماغ، على رغم أن بعض الباحثين ما زالوا يرفضون حصر سبب الاكتئاب بانخفاض مستويات السيروتونين فقط. على سبيل المثال، قد يؤدي التنشيط المتزايد لنظام السيروتونين إلى تعزيز القلق أو تثبيطه بحسب موقع حدوثة في الدماغ.
كيف تغير أدوية الأعصاب الدماغ؟
الاستخدام المتكرر للأدوية المحفزة على المتعة يسهم في تعزيز الإدمان، ويعتقد أن الدوبامين يلعب دوراً مهماً في ذلك لأن معظم العقاقير المسببة للإدمان تسبب ارتفاعات مفاجئة في الدوبامين في المخ، ما يشجع الدماغ على تكرار السلوك الممتع ليصبح أكثر تلقائية، مما يدفع المستخدم إلى البحث عن كميات إضافية من أجل تجربة الشعور بالمكافأة الأولى. وتوصلت الدراسات الحديثة حول المصابين بالفصام إلى أنه يظهر تغييرات غير نمطية في الاتصال بين مناطق الدماغ المتعددة.
وظهرت لدى عدد من العينات من الأطفال المصابين بالتوحد تضخم ملحوظ في محيط الجمجمة، مما يدل على زيادة حجم الدماغ يقارب أحياناً الـ15 في المئة، ثم يحدث انخفاض سريع في حجم الدماغ في مرحلة البلوغ، عدا عن عمل شبكات الدماغ المتخصصة في التواصل الاجتماعي لدى المتوحدين بطرق مختلفة عما لدى الأصحاء، كما لوحظ نشاط غير نمطي للدماغ في المجالات المتعلقة بمعالجة اللغة والأداء التنفيذي لدى المصابين بالتوحد.
ووجدت دراسة تحليلية على عدد كبير من المرضى عن وجود قواسم عصبية مشتركة بين المصابين باضطرابات المزاج واضطرابات القلق، ويتم تشخيص هذين النوعين من الاضطرابات بشكل منفصل، ولكنها في كثير من الحالات تحدث معاً، وتتسم بمؤشرات متشابهة، وما زال تحديد طبيعة الشفاء وحجمه عبر الطرق المتبعة، سواء الجراحية أو عبر الأدوية أو في عيادات الأطباء النفسيين، معقداً للغاية وقيد البحث باستمرار.
كما أن المشترك بين الأدوية النفسية هو أنها مصممة لزيادة أو إنقاص نوع معين من الناقلات العصبية كالسيروتونين والدوبامين. على سبيل المثال تعمل مضادات الاكتئاب على امتصاص الناقلات العصبية مثل الدوبامين أو النوربينفرين. أما مضادات القلق فتزيد من نشاط مستقبلات البنزوديازيبين. وتتكون باقي الأدوية من المواد التي تحفظ أو تثبط نوعاً معيناً من المستقبلات العصبية. وهناك طرق أخرى لتحفيز الدماغ، ومنها استخدام الكهرباء لزيادة أو تثبيط وظيفة مناطق معينة في الدماغ. وظهرت حديثاً طرق جديدة للعلاج لم تلق موافقة سائر الأنظمة الصحية في العالم، على رغم أن بعضها بات معتمداً في الولايات المتحدة، ومنها “التحفيز المغناطيسي المتكرر” للمرضى الذين يعانون الاكتئاب الذي لا يعالج بمضادات الاكتئاب، حيث تستخدم نبضات مغناطيسية لتغيير النشاط الكهربائي في مناطق معينة من الدماغ. وهذه الطريقة مختلفة عن العلاج بالصدمات الكهربائية في حالات الاضطرابات العقلية الشديدة والمقاومة للعلاج بما في ذلك الاكتئاب والفصام والاضطراب ثنائي القطب. وبعد التخدير ترسل الأقطاب الكهربائية الموجودة على رأس المريض تياراً كهربائياً إلى الدماغ.