تغنّت بلداننا العربية على مدى سنوات بطبيعتها الفتية، حيث تشكل البنية الديمغرافية للسكان “هرما صحيحا”، أي أن عدد السكان من الفئات العمرية الصغيرة يفوق عدد المسنين بكثير، أمر لا تتمتع به العديد من مجتمعات العالم، لكن هذا “الهرم المرغوب صدم بواقع مقلوب”، إن صح القول.
الميزة الفريدة التي تمتع بها عالمنا العربي، لم تُستَثمر، ولم تستطع للأسف كبح جماح ظاهرة الهجرة “المتضخمة”، التي لا يمكن وصفها بالحالة الغريبة، بسبب واقع بلداننا العربية من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
“النافذة السكنية” فرصة كبيرة “مغلقة”
يوفر الهرم السكاني الصحيح، أي عندما تكون نسبة الشباب في المجتمع أعلى من المسنين، فرصة يمكن وصفها بالذهبية بالنسبة للمجتمعات وعملية التنمية، حيث نجحت أغلب دول شرق آسيا في استغلالها بشكل مثالي، وتؤكد أغلب الدراسات أن العلاقة بين التغييرات الديمغرافية والاقتصادية متبادلة، ويمكن التنبؤ بها، الأمر الذي يحمل السياسات التنموية بعضا من المسؤولية المجتمعية لحالة الهجرة، لكن من دون أن ننكر وجود تأثيرات خارجية كبيرة خاصة في منطقتنا العربية.
وعلى الرغم من تواجد هذه الفرصة منذ سنوات إلا أن هذه النافذة، التي من شأنها أن توفر “هبة ديمغرافية” ترتبط بقدرة الدول على زيادة نسبة المشاركة في النشاط الاقتصادي لمن هم في سن العمل، أي زيادة الطاقة الاستيعابية لأسواق العمل، بحسب تقرير السكان والتنمية الصادر عن الأمم المتحدة، إلا أن تلك النافذة بقيت، إما “مغلقة” بسبب السياسات الاقتصادية والتنموية غير الصحيحة من جهة، أو أنها “فتحت على مصراعيها” ودخلت عبرها رياح عاتية نتيجة الحروب، حملت معها شباب المنطقة العربية وطفرتها السكانية، أي ذلك الجزء الفتي والمتعلم من المجتمع، وحطت بهم الرحال في البلدان الغربية.
التغنّي بالمؤشرات التنموية كسر زجاج “النافذة السكانية”
تغنّت حكومات بلداننا العربية على مدى عقود بالمؤشرات التنموية وقدرتها على تأمين الخدمات المجانية وغيرها من الشعارات الاقتصادية الجميلة، لكنها أهملت أهم نقطة بالنسبة للإنسان، وهي معيشته، حيث بقيت الرواتب والأجور، في أغلب المنطقة العربية، باستثناء منطقة الخليج، تعادل ثمن هدية صغيرة، إن لم يكن أقل، بالمقارنة مثيلاتها في الدول الغربية، حيث قدر متوسط الرواتب في بعضها بحوالي (219) دولار، بحسب مجلة “عالم الرؤساء التنفيذيين”، وبعضها أدنى من 50 دولار، وهذه فجوة كبيرة جدا من شأنها أن “تكسر زجاج النافذة السكانية”، حيث يبحث الأفراد، وهذا حق مكتسب، عن تحسين واقعهم ومعيشة أفضل. وأسرع طريق إلى ذلك هو “الهجرة” إلى “أرض الأحلام” التي يسمع عنها في وسائل الإعلام.
ولكيلا نجحف بحق أنفسنا أولا، أو حكوماتنا العربية ثانيا، يجب أن نعترف بأن الحروب الأخيرة التي شهدتها المنطقة “حطمت النافذة السكانية بمن فيها” بالمعنى الحرفي للكملة، وتسببت بحدوث سيل من الهجرات، حيث أوصلت تلك الحرب الناس إلى قاعدة “هرم ماسلو” للاحتياجات البشرية، أي ليبحثوا عن السلامة الجسدية والأمن الأسري والطعام وغيرها من أساسيات الحياة التي سيجدونها أيضا بالهجرة.
لكن من الواجب القول؛ إن الحكومات لم تنجح في رأب الصدع الذي حدث في مجتمعات ما بعد الحرب، ولم تنجح الأحزاب أيضا في بعض تلك الدول، كلبنان على سبيل المثال لا الحصر، في الوصول إلى تفاهمات يكون هدفها الأخير هو المواطن، حيث أن “العقل العربي لا يقبل التنازلات” حتى إذا كانت تصب في صالحه في نهاية المطاف، لتتحول الصراعات الداخلية هي الأخرى إلى سكين يغرس في تلك “النافذة السكانية”، تقتل بعض من فيها، ويهرب منها البعض الآخر، أما من يبقى تخطفه الأزمات القلبية في عمر الإنتاج.
“دولة كاملة” اختفت خلف البحار
تشير البيانات التقديرية التي نشرها صندوق الأمم المتحدة للسكان، إلى أن الدول العربية شهدت حوالي 40 مليون مهاجر في عام 2019، يشكلون 9.3% من إجمالي السكان في المنطقة العربية.
أما في عالم 2020، وبحسب بيانات نشرتها الأمم المتحدة عن مفوضية اللاجئين، “فقد هاجر 32.8 مليون شخص أو أجبروا على النزوح من البلدان العربية”، منهم 8.9 مليون شخص، بصفة لاجئ”.
قد يعتبر البعض هذه الأرقام طبيعية، لكن إذا علما أن عدد سكان لبنان على سبيل المثال حوالي 6.7 مليون إنسان في عام 2021، وأن عدد سكان تونس 11.94 مليون في عام 2020، نلاحظ أن كتلة السكان التي غادرت مناطقها في عالمنا العربي بحجم دولة كاملة أو أكثر.
الأسوء من كل ذلك، أن هؤلاء المهاجرين أغلبهم في سن الإنتاج والخصوبة، أي بتعبير أدق، في السنوات العمرية الأكثر فعالية من ناحية العمل والولادة، وهنا تكمن الخطورة، حيث أن انسحاب هذه الفئة من المجتمع قد لا تظهر نتائجه بشكل سريع، لكن على المدى الطويل، قد تحول بعض مناطق بلداننا العربية إلى بيوت أو قرى أو مدن فارغة بلا سكان، وهذا يحدث بالفعل في عدد من المناطق، خصوصا إذا علمنا أن العمل والإنتاج مرتبط بالتوزع الديمغرافي.
التنمية والتشاركية ومحاربة الفساد والإصلاح وغيرها، شعارات نرفعها بكلماتنا في المؤتمرات، ونلف وريقات خطاباتنا لتدخل طي النسيان في الحياة، حالة تخلق أجواء من انعدام الثقة داخل البنية الاجتماعية، وتجعل من الاختلالات والتجاوزات حالة سائدة متعارف عليها، لذلك نرى أن ذات الأفراد يلتزمون بالقانون خارج بلداننا، ويكسرونه في بلد المنشأ، حالة ناتجة عن نكران بين الأوراق والواقع، تجعل من “زجاج النافذة السكانية هشا ينكسر بمواجهة” أي وقائع.
تتطلب السياسة التحريرية إضافة عبارة “هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه” في نهاية هذه السطور القليلة، على الرغم من أن هذه الكلمات قد يوافق عليها جزء كبير من سكان عالمنا العربي، حيث تعيش الكثير الأمهات مشاعر الغربة في أوطانهن وقد أودعن فلذات أكبادهن في قارب صغير لعبروا إلى عالم آخر، هذا إن عبروا. أما الآباء الذين كدحوا لسنوات، ينظرون إلى صور أبنائهم المعلقة على جدران منازل خاوية تشتت صغارها خلف البحار، بانتظار مكلمة عبر وسيلة تواصل اجتماعي، هذا إن وجدت الكهرباء.
وسيم سليمان
(هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه)