مساران جديدان لدفع عجلة التفاوض والخبرة السياسية تحكم إدارة المشهد المقبل
طارق فهمي كاتب وأكاديمي
زار رئيس الاستخبارات المركزية الأميركية، ويليام بيرنز، إسرائيل، والسلطة الفلسطينية، ومصر، في 9 أغسطس (آب) الحالي، والتقى عدداً من المسؤولين الإسرائيليين في مقدمتهم نفتالي بينيت، ورئيس الموساد الجديد، ديدي برنيع، ونظيره في مجلس الأمن القومي، إيال حولتا، والمستشار السياسي، شمريت مائير. كما التقى من الجانب الفلسطيني محمود عباس، ورئيس المخابرات الفلسطينية، ماجد فرج، وعدداً من قيادات السلطة. وبحث ملفين رئيسين أساسيين في الزيارة، الأول الإيراني والتمهيد لاستئناف المفاوضات في إسرائيل، والأخير بدء تركيز الاتصالات الفلسطينية – الإسرائيلية بدعم أميركي في رام الله.
دلالات التوقيت
تأتي زيارة بيرنز إلى رام الله بعد عدة أسابيع من زيارة نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الفلسطينية والإسرائيلية، هادي عمرو، ولقائه الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، والاتفاق من حيث المبدأ على ضرورة التعجيل باستئناف الاتصالات بينهما بدعم وتحرك أميركي على المستويين السياسي والاستراتيجي. وسبق أن أجرت الاستخبارات المركزية في ظل إدارة ترمب اتصالات ولقاءات عقد بعضها في رام الله استهدفت الحفاظ على المقاربة الأمنية والاستراتيجية مع السلطة، وعلى الرغم من الخلافات السياسية الكبيرة معها، وبدء القطيعة الكاملة بين السلطة وبينها، فإن الاستخبارات المركزية وقياداتها ظلت على علاقات جيدة مع القيادة الفلسطينية، خاصة رئيس المخابرات الفلسطينية، ماجد فرج، وحسين الشيخ تحديداً.
اقتناع الإدارة الأميركية بأن التوصل لآلية محددة لبدء مسار تفاوضي جديد مع السلطة الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب سيؤدي إلى دعم الرئيس محمود عباس، ومؤسسات السلطة في مواجهة حركة “حماس” بقطاع غزة، وسيغلق الباب أمام طموحات الفصائل لتكون نداً وشريكاً فيما يجري في الداخل الفلسطيني. وتعمل الاستخبارات المركزية على تأكيد الحضور الرسمي في ملف الوساطة الفلسطينية، خصوصاً أن وزير الخارجية الأميركي، بلينكن، وعد بذلك عندما زار رام الله عقب الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، وهو ما يؤكد أن إدارة بايدة تسعى للعمل مع السلطة الفلسطينية، وإعادة تعويم دورها بعد سنوات القطيعة مع الولايات المتحدة أثناء نظيرتها السالفة، بالتالي تأتي زيارة رئيس الاستخبارات المركزية في هذا المسار.
مقدمات التحرك
أولاً: إعلان إدارة بايدن استئناف سياسة ضخ المساعدات لوكالة الأونروا في قطاع غزة والعمل على تقديم المساعدات الأميركية التي قطعت منذ سنوات للضغط على السلطة الفلسطينية، وإجبارها على العمل مع الحكومة الإسرائيلية، والواقع أن استئناف سياسة المساعدات سيساعد السلطة فعلياً على تجاوز جزء من أزمتها الاقتصادية والمالية التي تعلن عن نفسها، وتوشك على أزمة خطيرة للسلطة ومؤسساتها.
ثانياً: إعلان الإدارة الأميركية عن قرب استئناف العمل في قنصليتها شرق القدس بناءً على وعد الرئيس بايدن للجانب الفلسطيني، وبناءً على ما طرحه أثناء حملته الانتخابية، وهو ما سيؤكد جدية الإدارة الراهنة في العمل مع الجانب الفلسطيني، على الرغم من المناكفات في الكونغرس، التي دعت إلى تأجيل هذه الخطوة لحين اتضاح الرؤية فلسطينياً.
ثالثاً: إقدام الحكومة الإسرائيلية وتحت ضغط الإدارة الأميركية على دفع المتحصلات المالية وتحويلات الأموال من الأولى إلى السلطة الفلسطينية فيما يعرف بالمقاصة المالية والاقتصادية وفقاً لاتفاقية باريس الحاكمة للوضع الاقتصادي بين الجانبين، وقد تم ذلك بضغط وتوجيه أميركي لتشجيع السلطة الفلسطينية للعمل مع التحركات الراهنة.
رابعاً: تخوف الإدارة الأميركية من دخول بعض الأطراف الجدد على مسار وساطتها، حيث التحركات الصينية الجديدة، والترقب الفرنسي لتنشيط مسار تحركه على غرار ما جرى في مؤتمر “باريس1″، والسعي الروسي للدخول في ملف الصراع العربي – الإسرائيلي كورقة مهمة في ملف مناكفات واشنطن وموسكو في الشرق الأوسط وآسيا والقوقاز، والكومنولث الروسي.
اتجاهات للتحرك
شاركت الاستخبارات المركزية في وضع وثيقة عمل بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية والخارجية، وهي الوثيقة التي عرضت في يوليو (تموز) 2021، وركزت على إعادة تفعيل التعامل بين الأطراف الثلاثة، مع التركيز على العمل معاً، وبناء إجراءات الثقة بين الأطراف المعنية مع التركيز على المتطلبات الفلسطينية الرئيسة، وخصوصاً ملف الأسرى، والعمل على تحسين وضع السلطة، ومكانتها داخلياً، إضافة إلى مناقشة وسائل ضبط الأداء المالي عبر شركات أميركية كبرى منها شركة “برايس ووتر هاوس” للتدقيق في أوجه الصرف، إضافة إلى التنسيق الأمني وقواعد التعامل، وهو ما وافق عليه الجميع، واعتبرت الوثيقة مدخلاً مهماً للعمل والبناء على مواقف ومدخلات الاستخبارات المركزية والخارجية الأميركية بالتنسيق مع الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
كما ستعمل الاستخبارات المركزية على التحرك في اتجاهين، الأول إقناع السلطة الفلسطينية بالانتقال من التعامل الأمني والاستراتيجي إلى السياسي التفاوضي مع تشجيع خطوة استئناف الاتصالات الرسمية بين الوزراء الفلسطينيين، ونظرائهم على الجانب الإسرائيلي، وهو ما تم بالفعل في إطار سلسلة من الاتصالات المتخصصة في مجال الاقتصاد والاستثمار والمتحصلات والإدارة المحلية، وغيرها، في إشارة إلى التجاوب الثنائي من الجانبين مع تقديم وعود أطلقها رئيس الاستخبارات المركزية ويليام بيرنز في الزيارة بدعم أميركي لافت للسلطة، ومؤسساتها في مواجهة ما يجري من تحديات وصعوبات تتطلب التعامل معها بجدية مقابل العمل على مواجهة تصاعد مد الفصائل الفلسطينية في القطاع. ويتمثل الأخير تجاه الحكومة الإسرائيلية وإقناعها بأن المشهد الفلسطيني الراهن قد ينفجر في أي لحظة نتيجة لجملة من تقييمات الاستخبارات الأميركية، ومنها انهيار سلطة الرئيس محمود عباس نتيجة للضغوط الكبيرة في رام الله، وأزمة الحكم، التي تمثلت في إلغاء حدث الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني، وتصاعد شعبية حركة “حماس” في الضفة مع وجود تقييمات محكمة مرتبطة بوضع الحكومة الإسرائيلية ذاتها، واستمرارها وعدم السماح بتفكك ائتلافها، خصوصاً أنه قد تم تمرير الموازنة الرسمية للدولة في إشارة إلى أن الحكومة ستمضي في مهامها، الأمر الذي يتطلب العمل على المسارين التكتيكي والاستراتيجي، مع تأكيد أن إدارة بايدن جادة فيما تطرحه من خطوات للبدء في استئناف المفاوضات رسمياً بين الطرفين.
السيناريو المتوقع
ستركز الاستخبارات المركزية على الاتصالات الأمنية والسياسية السرية، التي قد تقرب العمل معاً في مجالات الأمن والاقتصاد باعتبار أن الملفين سيدفعان إلى أخرى أكثر أهمية وإلحاحاً للجانبين.
ومن الطبيعي أن تعمل الاستخبارات المركزية على عنصر الأمن، ووفقاً لسياسة معدة سلفاً، إذ ترى أن المشهد الفلسطيني لن يستمر طويلاً في وضعه الراهن، من دون تقديم تنازلات من طرفي النزاع. في المقابل، فإن الطرفين لن يلتقيا في مساحة واحدة لهذا ستعمل من خلال رئيسها بيرنز الملم بتفاصيل المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية جيداً منذ سنوات، ولديه تصور كامل عن تطوراتها على جمع الطرفين، والانتقال إلى مرحلة تالية. وستشجع الخطوات الخاصة ببناء إجراءات الثقة بين الجانبين، وهو ما سيؤدي إلى مزيد من التفهم بينهما لضرورة الانتقال من المرحلة الراهنة المعنية بتكشّف المواقف إلى الانخراط في سلسلة من الاجتماعات المتخصصة التي ستقرب بينهما، وهو ما يمكن أن يحدث استقراراً في السلطة الفلسطينية من جانب، ويدفع الحكومة الإسرائيلية لاستئناف الاتصالات رسمياً، سواء في موضوعات دعم السلطة، وقيادتها مع العمل على إحداث نوع من الاستقرار داخل قطاع غزة تخوفاً من إقدام حركة “حماس” على استئناف المواجهات مجدداً للضغط على الطرفين.
الخلاصات
ستنجح الاستخبارات المركزية الأميركية في استئناف الاتصالات الفلسطينية – الإسرائيلية، وخصوصاً أن الاتصالات السابقة لها أكدت مصالح مشتركة ستدفع الجانبين للعمل معاً في ظل قائمة تحفيزية تعمل عليها الإدارة الأميركية في الوقت الراهن. ومن المتوقع أن تمضي جهود الاستخبارات المركزية في أكثر من مسار مع تحييد أي إشكاليات طارئة على طرفي النزاع، وتخوفاً من انهيار المشهد الفلسطيني الراهن، وهو ما يدفع بخيارات صفرية قد تمس الطرف الإسرائيلي في ظل حرص أميركي على دعم واستمرار الائتلاف الراهن بها وعدم تفككه.