سعادة مصطفى أرشيد _
لم يعان فاتح العالم، الإسكندر المقدوني في حروبه مثل ما عانى من حروبه في أفغانستان، التي قضى فيها سنتين كاملتين من عمره القصير، دون أن يحقق أيّ إنجاز، وخسر من جنوده في جليد جبال هندوسك ثم في صحارى شمالها القاحلة، وعلى أيدي المقاتلين من رجال قبائلها أكثر مما خسر في أيّ مكان آخر، إلى أن غادرها ولم يربح سوى عروسته الجميلة الشهيرة روكسانا، وقبيل انطلاق الموجة الثانية من الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان، أرسل الخليفة الرسل للبلاد التي تقرّر فتحها ليزوّدوه بأخبارها (تقارير استخبارية)، وعندما عاد رسوله من بلاد قندهار (أفغانستان الحالية)، قدّم للخليفة الوصف التالي: بلاد، سهلها جبل، وماؤها وشل، وثمرها دقل، وعدوها بطل، وخيرها قليل، وشرّها طويل، والكثير فيها قليل، والقليل بها ضائع، وما وراؤها شرّ منها، فقال له الخليفة: أخابر أنت أم ساجع؟ قال: بل خابر، فأمَر الخليفة بأن لا يغزوها أحد من المسلمين قط، إلى أن دخلها الإسلام بالدعوة.
في عام 1839، أرادت إنجلترا وذراعها الاقتصادي في حينه – شركة الهند الشرقية احتلال أفغانستان وضمّها لمستعمراتها الهندية، وفشلت الحملة فشلاً غير مسبوق، إذ أبيد الجيش الانجليزي عن بكرة أبيه، ولم يعد منه إلا أحد أطباء الجيش، أو أحد الطبّاخين ليروي ما حصل من أهوال، حاول الانجليز إعادة الكرة مراراً دون تحقيق أية نتائج، حتى أنّ نائب الملك في الهند اللورد كيرزون قال لمجلس العموم الانجليزي: إنّ شراء أفغانستان في حال حصل سيكون أوفر من احتلالها.
في عام 1979 جرّب الاتحاد السوفياتي حظه في أفغانستان، والنتيجة أنّ هيبته انكشفت وبان ضعفه الداخلي، ثم خسر نفسه ووحدته وتحطم نهائياً، وما لبثت ان لحقت به الولايات المتحدة عقب تفجير برجي التجارة في نيويورك، وصنفت حركة طالبان باعتبارها حركة إرهابية، وصرفت مقادير لا عدّ لها من الدولار في محاولة صناعة أفغانستان جديدة، والنتيجة أنها سلّمت البلد بعد عقدين من الزمن للجماعة التي أعلنت حربها على أفغانستان للتخلص منها، فما الذي جرى؟
احتل الأميركي أفغانستان وهو يشعر بالزهو والقوة والقدرة على تحقيق ما فشل الروسي في تحقيقه، وظنّ بأنه يعرف جيداً مَن دعمهم ودرّبهم لمقاتلة الروس، وانه من خلال معرفته هذه ستتوفر لديه القدرة على العبث بهم وتشغيلهم وفق أجنداته، خاض المعارك، وصنع الزعامات، والنتيجة أنّ بضاعته ردّت إليه، فمن علّمه الرماية رماه بسهامه، ومن علّمه هجاء الاتحاد السوفياتي نال من هجائه فوق ما نال الروس، درب الأميركان ما بين 300 ألف إلى 400 ألف جندي وضابط ليعملوا في خدمة مشروعهم، وبدّدوا تريليونات الدولارات، ولكنهم أدركوا متأخرين أن لا بدّ مما ليس منه بدّ، إلا وهو التعامل مع الواقع الأفغاني المتمثل
بحركة طالبان، هذه الحركة التي انطلقت من الطلاب الأفغان صغار السن الذين يدرسون في معاهد بيشاور الباكستانية، كان لا بدّ لطلابها أن يكبروا ويمتلكوا التجربة والخبرة والمعرفة بالسياسة حسب قواعدها، هذه الحركة التي لا تزال تصنّفها الإدارة الأميركية كحركة إرهابية وتحظر على الآخرين التعاطي معها، ولكنها استدرجتها وأدخلتها بالتجربة الصعبة، من خلال السماح للحليف القطري الجاهز دائماً لتقديم الخدمة باستضافة عدد منهم في الدوحة، حيث تمّ بشكل سلس إعادة تأهيلهم، وتعويدهم على متع الحياة العصرية وأنماطها، وطرق عيش المجتمعات الحديثة، الأمر الذي بدا جلياً في التصريحات السريعة لقادتها، والتي تكشف عن توجهات اجتماعية واقتصادية، تختلف بها عما هو معروف عنهم في تجربتهم الأولى، عندما فرضوا على الأفغان تفسيرات بالغة التشدّد للشريعة الإسلامية، فتصريحات اليوم تتحدث عن الديمقراطية، حقوق المرأة، وعن الازدهار الاقتصادي وأنماط التجارة الحرة، وإعادة تأهيل من بقي ممن تعامل مع الأميركان في العقدين السابقين، أو من بقيَ منهم بعيداً عن أيدي الدهماء التي فتكت بقسم منهم، ونهبت البلد وعاثت فيه فساداً في فترة فراغ السلطة، وفي مشهد لا ينسجم مع رومانسية الثورة.
المفاوضات قادت أن يغادر الأميركي أفغانستان بعد ثلاثة شهور، لتتفرّغ للصين وبحرها ويقطع طريق حريرها، ولتوقف حالة الاستنزاف التي بدت لا نهاية لها إلا بالرحيل، لكن طالبان كانت أكثر حذراً واستعجالاً من أن تمنح الأميركي مثل هذا الوقت، فاختصرته بأيام قليلة، كانت خلالها الرئاسة والحكومة والولايات وحكامها والجيش العرم وضباطه يسقطون تباعاً اثر مكالمات هاتفية، وفيما كان الأميركان يغادرون او يهربون بعد إتلاف أوراقهم ووثائق سفارتهم، شاهد العالم أمراً أكثر بؤساً وبشاعة من مشاهد الخروج من سايغون (فيتنام) قبل أربعة عقود، عندما تخلى الأميركان عن جماعاتهم (عملائهم) وتركوهم لمصيرهم المحتوم.
هذا الدرس القاسي لازم لأخذ العبرة والموعظة، (فمن يتغطى بالأميركان سيبقى بردان)، ومن يعتقد أنّ الإرادات الأجنبية هي ما يبقيه في موقعه الحاكم وعلى حساب مصالح بلاده العليا وأمنها القومي مخطئ، إذ لن يكون أكثر من أجير رخيص يتمّ التخلي عنه عندما تقتضي حاجة المشغل ذلك، فهل يبعث هذا القلق عند أمراء وملوك ورؤساء نعرفهم؟ لا بدّ أنه يفعل، خاصة وأن القلق وصل إلى عقل من هو أكثر قرباً ودلالاً منهم، (الإسرائيلي) الذي بدا غاية في القلق والتوتر، إلى أن رفع شيء من معنوياته مستشار الأمن القومي الأميركي بتصريح لافت أول أمس الثلاثاء إذ قال: لا يمكن للولايات المتحدة أن تتخلى عن (إسرائيل) وتايوان، دون أن يضيف دولاً أخرى.
لا تزال الصورة المستقبلية في أفغانستان تعاني من التشويش وانعدام اليقين حول مجريات الأمور في المستقبل، ولكن يمكن طرح سؤال استفهامي سوف يقوم المستقبل بالإجابة عليه: هل ستبقى أفغانستان الطالبانية بعيدة عن الأطلسية الجديد؟ مع ما تلقته من دعم إيراني لا زال مستمرا، لا بل انه قد ازداد اثر استثناء إيران من المفاوضات حول مستقبل أفغانستان وهو ما حذرت منه الخارجية الروسية؟ أم أنّ أفغانستان الجديدة مختلفة وسيبقى الرهان يدور حول انحيازها في المستقبل إلى حلفائها العقائديين ـ المذهبيين ومستضيفيها، الذين وإن تباينوا حيناً مع واشنطن إلا أنهم لن يخرجوا من عباءتها.