حزب الله منهم وفينا

نستطيع معاداة حزب الله  علما أنه هو يعادي الجميع  لكننا لا نستطيع أن نتجاهله. نستطيع التفنن وحدنا بالتفكير بمصير لبنان، لكننا لا نستطيع تقرير المصير من دون مشاركته. نستطيع اعتباره امتدادا للمشروع الإيراني، لكننا لا نستطيع نكران أنه جزء من الشعب اللبناني. نستطيع التيقن من أنه حالة سلبية في الشراكة الوطنية، لكننا لا نستطيع إسقاط عضويته من الشراكة الوطنية.

الخروج من هذه الإشكالية في إطار وحدة لبنان، يستلزم حدوث تغيير في مشروع حزب الله السياسي والعسكري والعقائدي ليصبح حزبا لبنانيا بعقيدته وولائه لا بأعضائه فقط. لكن هذا التغيير بعيد المنال في المدى المنظور من خلال حوار لبناني مع الحزب. وإذا كان البعض ينصح بالانتظار، سها عن باله أن الانتظار، عدا أنه لمصلحة الأقوى، أي حزب الله، فإن اللبنانيين، المشرفين على الانهيار الكامل، لا يستطيعون الانتظار أكثر من أشهر قليلة. فإذا كانت مشكلة حزب الله لبنانية وحلها خارجيا، فلا يعني أن نسلم بها ونتعايش معها، خصوصا أنها ليست محصورة جغرافيا.

مجموع هذه الإشكاليات يعني أن لبنان، بوجود حزب الله كما هو، سيبقى دولة معلقة، ودستورا مهمشا، وحدودا سائبة، وفي أزمة متكررة ونزاع مستدام وعلى موعد دائم مع الحروب والاعتداءات الإسرائيلية. هذا الواقع يثبت الطبقة السياسية. يحول دون بروز النخب الجديدة. يعرقل تطوير النظام. يجعل الجيش قوة رديفة في مواجهة إسرائيل. يهشل المستثمرين اللبنانيين والأجانب. يبعد لبنان عن محيطه العربي ويعزله عن الغرب. يضرب الدورة الاقتصادية. يدمر النظام المصرفي. يدني النمو، يرفع البطالة، يفقر الشعب ويجوعه، يزيد الهجرة ويصحر المجتمع. أي أن لبنان يبقى كما هو اليوم وعلى أسوأ.

هذا الواقع الكارثي يطيح حتما الشراكة الوطنية حتى من دون قرار ومن دون إرادة، إنما بحكم “منتهى الحاجة”. كم من أمر واقع صار واقعا شرعيا بغياب أمر يضع حدا له. وحزب الله المطمئن إلى غياب هذا الأمر نظرا لـ”الدالية” بينه وبين الدولة والجيش اللبناني وغالبية المؤسسات الأمنية، يترك الآخرين يقلقون ويحتارون ويحكون رؤوسهم لمعرفة كيفية حل معضلة لا حل لها في النظام المركزي القائم.

في هذا الإطار، نلاحظ أن المكونات اللبنانية المتضايقة من حالة حزب الله، تترك للمكون المسيحي إثارة القضية وتضعه في الواجهة والمواجهة. تحتكر هي ترف التفرج والمزايدة وإجراء التسويات معه، بل تنتقد المسيحيين أحيانا إذا طرحوا اللامركزية أو الفدرالية أو أي حل آخر يحفظ وحدة لبنان في إطار هندسة دستورية خلاقة. حان الوقت أن ينتهي هذا التشتت العنجهي فتنتظم قوى السيادة والتغيير في جبهة متحدة تحاور وتواجه، وتقول: “الأمر لي” طالما أهل الأمر لم يستعملوا أمرهم ولم ينقذونا. خلاف ذلك، سيضطر كل مكون أن يقتلع شوكه بيديه. لقد “بلغ السيل الزبى”.

إن الذين يتهمون المسيحيين من وقت إلى آخر بالرهان على حلف الأقليات، تناسوا أن الاتفاق مع حزب الله وشركائه أسهل على المسيحيين من غيرهم، لكنهم، باستثناء ميشال عون، لم يفعلوا ذلك حرصا على الشراكة الوطنية الشاملة من جهة، ولكون أقليات لبنان والشرق مضطهدة وليست مضطهدة. وفي العقود الأخيرة، كان المسيحيون رأس الحربة في التصدي لكل أقلية في المنطقة حاولت احتلال لبنان أو التوطن فيه. وأصلا لو كان المسيحيون يؤمنون بحلف الأقليات لما اختاروا  أحرارا  سنة 1920 صيغة “لبنان الكبير”.

المكون الشيعي هو جزء أصيل من التعددية الحضارية اللبنانية، لكن حزب الله  بما هو لا بما يمثل  ليس جزءا من هذه التعددية لأن اختلافه عن سائر اللبنانيين ليس مرده إلى خصوصية لبنانية، إنما إلى خصوصيته الإيرانية الخمينية. بذلك، وخلافا لحركة “أمل”، يفقد حزب الله الحق في تعديل الحياة الدستورية والميثاقية لأن هذا الحق محصور بمكونات التعددية اللبنانية لدى تأسيس دولة لبنان سنة 1920. فكل مكون يتحور يتحول حالة مضافة لا يستوعبها النظام التعددي اللبناني. من هنا نفهم أكثر الأسباب الكامنة وراء مطالبة السيد حسن نصرالله بمؤتمر تأسيسي: يريد تعديل تركيبة التعددية اللبنانية وهويتها، وإضافة مكون جديد متحور على “مجلس إدارتها” يغير نظام المساواة الميثاقية.

حين يصبح السيد حسن نصرالله جنديا في الجيش اللبناني، لا في ولاية الفقيه، يستعيد حقه في الحوار الدستوري، ولا يعود يحتاج مؤتمرا تأسيسيا. لكن المؤسف أن جميع التضحيات التي قدمها شباب حزب الله في مواجهة إسرائيل وظفت في المشروع الإيراني لا في الدولة اللبنانية.

واللبنانيون – شعبا ودولة وأحزابا – لم يوفروا فرصة للتفاهم مع حزب الله. عقدوا هيئات حوار وطني، وحوارات ثنائية وثلاثية، طرحوا تسويات لسلاحه، تغاضوا عن التنفيذ الدقيق للقرارات الدولية، دعوا إلى استراتيجية دفاعية، هللوا حين وقعوا مع حزب الله على “إعلان بعبدا”. لكن جميع هذه الجهود ذهبت سدى. لم يعدل الحزب بموقفه قيد “شوية”، وأكثر: لاحظنا أن حزب الله يتصرف تجاه اللبنانيين كما تتصرف إيران تجاه المجتمع الدولي، أي بذات السلبية والغطرسة. وهذا محزن لأننا طلاب شراكة وطنية. نحن نريد حزب الله “منا وفينا” لا “منهم وفينا”.

فشل الحوار مع حزب الله لا ينعكس سلبا على العلاقة مع الحزب فقط، بل على العلاقة مع الطائفة الشيعية عموما. فالحزب سيطر على هذه الطائفة اللبنانية الأصيلة، ويواجه بها سائر الطوائف الإسلامية والمسيحية والدرزية. وبالتالي، يستحيل إجراء تغيير دستوري يأخذ بالاعتبار حزب الله بوضعه الحالي في الجنوب والبقاع من دون أن تتأثر بذلك كل التركيبة الوحدوية المركزية لأسباب جغرافية وديمغرافية وميثاقية. بتعبير آخر، يصعب على السنة والمسيحيين والدروز أن يبقوا معا موحدين في إطار لبنان الحالي ويتركوا، بموازاتهم، إخوانهم الشيعة في حال انفصال أو ما شابه، علما أن حالة شيعية تنمو بسرعة خارج بيئة حزب الله، وترفض مشروعه وتتمسك بلبنان الشراكة الوطنية.

نحن أمام مشكلة غير قابلة الحل من خلال بنية الدولة الحالية. فلنتحل بالجرأة ونواجه هذه الحقيقة المرة عوض الدوران في حلقة مفرغة.