ظاهرة الرؤساء غير الحزبيين: “ثورة جديدة” في تونس


أسقط قيس سعيد حكومة هشام المشيشي المتمردة عليه وسطوة حركة “النهضة”

رفيق خوري كاتب مقالات رأي 

لا أحد يعرف إلى أي حد يستطيع الرئيس قيس سعيد أن يصلح الأوضاع في تونس. ولا شيء يوحي أن الرهانات على نجاحه هي أقل من الرهانات على “ثورة الياسمين” قبل عشر سنين. فالرجل يخوض تجربة من داخل السلطة في مواجهة الأحزاب بعدما جاءت به إلى “قصر قرطاج” تجربة من خارج السلطة في التمرد على الأحزاب. وهو ليس الرئيس الوحيد الذي اختاره الناخبون من خارج الأحزاب بسبب الملل من صراعاتها وعجزها عن تقديم الخدمات للناس بعدما صارت في السلطة، ولا الذين انتخبوه يجهلون أنه لا بد في البداية والنهاية من الأحزاب في الحياة السياسية، لكن الظاهرة واعدة.

أمراء الطوائف والمذاهب والعشائر والإثنيات في العراق تصارعوا على السلطة ومارسوها بأسوأ ما يمكن، وجعلوا رئاسة الوزراء محصورة برجال إيران في الأحزاب الشيعية. وحين اضطروا إلى مواجهة تنظيم “داعش” لجؤوا إلى الولايات المتحدة، ويريدون اليوم إخراج قواتها التي قاتلت التنظيم الإرهابي. وعندما تعاظمت الأزمة في الداخل وتعذر الاتفاق على زعيم حزبي سلموا مع الوصي الإيراني بتسليم رئاسة الوزراء إلى مصطفى الكاظمي من خارج الأحزاب. وهو بدأ تجربة مهمة في الرهان على الدولة الوطنية. في أوكرانيا بعد “الثورة المخملية” ثم تعثرها بالصراعات الداخلية والتدخل الروسي والغربي، وتجددها ضد رجل روسيا الذي سطا على الرئاسة، اختار الشعب ممثلاً هزلياً غير سياسي لعب دور الرئيس في مسلسل تلفزيوني وانتخبوه رئيساً بالفعل هو فولوديمير زيلنسكي، لكن مشكلته في الداخل أصغر من مشكلته مع فلاديمير بوتين.

حتى في فرنسا، حيث الحيوية الحزبية تطبع الحياة السياسية، والصراع بين اليمين واليسار والوسط هو عصب السياسة، والتراث الديغولي حي، فإن الناخبين خرجوا على الأحزاب. أحزاب اليسار المعتدل واليسار المتشدد، وأحزاب اليمين المعتدل واليمين المتطرف، وأحزاب الوسط. وكان الرجل الذي أوصلوه إلى قصر الإليزيه هو المصرفي إيمانويل ماكرون، الذي قال إنه خارج اليسار واليمين. لا بل إن الحزب الصغير الذي أنشأه على عجل صار حزباً واسعاً أعطاه الفرنسيون الأكثرية في المجلس النيابي.

وماذا عن روسيا، حيث بقي الحزب الشيوعي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتعددت إلى جانبه الأحزاب الوطنية والديمقراطية والشوفينية؟ كان خيارها ضابط الاستخبارات السابق بوتين، الذي لم يبقَ في الحزب الشيوعي ولا برز في أي حزب آخر، لكنه صار زعيم أقوى حزب اسمه “روسيا الموحدة” ورئيساً جاء في العام 2000 ولن يترك الكرملين، إذا لم يكرر تعديل الدستور، قبل العام 2036.

والأفظع في أميركا. دونالد ترمب ليس عضواً في الحزب الجمهوري ولا طبعاً في الحزب الديمقراطي، لكنه بمساعدة التلفزيون وبوقاحته وسلاطة لسانه رشح نفسه عن الحزب الجمهوري وتغلب على منافسيه ثم فاز بالرئاسة. وهو اليوم الزعيم المتوج للحزب الجمهوري من خارجه. ومصمم على الترشح للرئاسة مجدداً في العام 2024 بعدما خسر الجولة الماضية أمام الديمقراطي جو بايدن، وادعى كذباً ولا يزال أن الفوز سُرق منه.

الرئيس قيس سعيد بقي خارج الأحزاب وفوقها. أسقط بقرار فعّل فيه المادة 80 من الدستور حكومة هشام المشيشي المتمردة عليه، وسطوة حركة “النهضة” الإسلامية بقيادة راشد الغنوشي على السلطتين التشريعية والتنفيذية. كل الذين حاولوا الاعتراض والمواجهة ودعوا إلى التظاهر، عادوا إلى التسليم بأن ما حدث “فرصة” بعدما اعتبروا أنه “انقلاب على الدستور والثورة” على حد تعبير الغنوشي. لكن التحدي أمامه هو أولاً محاذرة “إغراء السلطوية” الفردية. وهو ثانياً مكافحة الفساد بشكل كامل، والعمل على إنعاش الاقتصاد لتلبية مطالب الشعب التي بقيت في الهواء منذ الثورة. والميزان دقيق: فشل التجربة له انعكاسات خطيرة في تونس وخارجها. ونجاح التجربة هو بداية “ثورة جديدة” مختلفة في تونس والمنطقة.