لبنان ضحية قوى الثورة المضادة وفساد سياسييه

تعددت الاجتهادات والتحليلات والانتقادات في ذكرى انفجار بيروت الأولى. وتركز الاهتمام على الجوانب التقنية فحسب، بما في ذلك نوعيتها (نيترات الأمونيا) وكميتها (2750 طنا) والفترة التي مرت على تخزينها (اكثر من سبعة أعوام) وعدد ضحاياها (214 حالة وفاة واكثر من 6500 إصابة) وتشريد عشرات الآلاف من منازلهم التي تأثرت بالانفجار الذي تم تشبيهه بقنبلة هيروشيما. وبشكل عام كان اللوم يتركز على سوء أداء الحكومة ومسؤوليها، ولكن ما يزال الغموض يلف الجهة المسؤولة عن إحداث التفجير نفسه، وإن كان ثمة ترجيح بأن الكيان الإسرائيلي هو المتهم الأول.
كما تم التطرق للآثار الإنسانية التي نجمت عن تلك الكارثة التي أحدثت آلاما حادة وشروخا عميقة في المجتمع اللبناني. هذه الأبعاد التي تم تطرق لها بشكل واسع كشفت جانبا من الوضع اللبناني القلق الذي كان مضطربا قبل عام على الأقل من الانفجار. فمنذ اكتوبر 2019 بدأ حراك شعبي واسع احتجاجا على الأوضاع المعيشية التي تعيشها البلاد، والفساد السياسي. اندلعت في البداية بسبب الضرائب المخططة على البنزين والتبغ و‌المكالمات عبر الإنترنت على تطبيقات مثل واتساب، لكن سرعان ما توسعت لتصبح إدانة على مستوى الدولة للحكم القائم على المحاصصة الطائفية، ركود الاقتصاد، البطالة التي بلغت 46في المئة في 2018، الفساد المستشري في القطاع العام، التشريعات التي يُنظر إليها على أنها تحمي الطبقة الحاكمة من المساءلة (مثل السرية المصرفية) وإخفاقات الحكومة في توفير الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي. تلك الاحتجاجات خلقت أزمة سياسية حادة، حيث قدّم رئيس الوزراء سعد الحريري استقالته وكرر مطالب المحتجين بتشكيل حكومة من المتخصصين المستقلين. وبقي السياسيون الآخرون الذين استهدفتهم الاحتجاجات في السلطة. ثم جاءت أزمة كورونا وتراجعت الاحتجاجات ولكن لم تنته الأزمة.
ما مصدر المشاكل في لبنان إذن؟ هذا البلد العربي تميز منذ استقلاله قبل سبعين عاما بأمور عديدة: فهو البلد الذي احتضن أتباع الأديان والطوائف الذين تعايشوا طوال تاريخهم في وئام نسبي، في ما عدا خمسة عشر عاما خلال الحرب الأهلية (1975 ـ 1990). وهو البلد الذي منح أهله مستوى من الحرية لم يكن متاحا لأغلب الشعوب العربية. وهو بلد الثقافة والأدب والصحافة الحرة الذي ساهم في تنشئة أجيال من رواد الأدب والنهضة الثقافية الحديثة، بل أن أبناءه المغتربين أضافوا للثقافة العربية ما سمي «أدب المهجر» الذي صاغته قرائح الأدباء خارج الحدود ودرسته الأجيال العربية المتعاقبة. وهو البلد الذي حكمه دستور منذ استقلاله نظم حياته الديمقراطية التي لم تتعثر وان كان أثرها العملي محدودا. كما أنه البلد الذي تصدى للاحتلال وخاض معه حروبا عديدة، وهو البلد الوحيد الذي استطاع تحرير أرضه من الاحتلال بسواعد أبنائه وتضحياتهم. وأخيرا فهو البلد الذي بقي مقاوما للاحتلال ورافضا التطبيع معه برغم الضغوط المتواصلة عليه لمسايرة المهرولين للتطبيع. هذه الحقائق لا تنفي وجود فشل سياسي عميق في طبقات سياسييه، ولذلك أسبابه ومنها ما اصطلح على تسميته «الطائفية السياسية» التي عمّقت نظام المحاصصة وساهمت في شل توجهاته نحو النمو السياسي والاقتصادي.
لذلك يمكن الادعاء أن السمات الايجابية للنظام السياسي اللبناني هي نفسها التي أدت إلى تراجع اوضاعه في الأعوام الأخيرة. كما يمكن الادعاء بأن لبنان استهدف من قبل قوى الثورة المضادة لإجباره على مسايرة سياساتها الهادفة لأمرين أساسيين: الحفاظ على الاستبداد السياسي في المنطقة والتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي.