رُهاب اليسار وما يصيبه من بلاء في لبنان اليوم

مهما قيل في «خصوصية» الإنهيار المالي والاقتصادي المتواصل في لبنان ليس يمكن تفادي استنطاق هذا النوع الرثّ جدّاً من الرأسماليّة الذي عاشه البلد.
ليس هناك أي بلد في عالم اليوم خارج الرأسمالية تماماً. ولبنان ليس استثناء.
هو البلد الذي هيمن القطاع المصرفي بكثافة على اقتصاده، بحيث كاد يلغي الاقتصاد فيه. قبل أن يصل هذا القطاع إلى مأزقه المتعاظم. هذا المأزق الذي يُدارُ منذ عامين على حساب عموم المودعين، إنما بشكل مبدّد لمقدّرات صغارهم ومتوسطيهم أكثر من سواهم.
أن تكون الرأسمالية فيه على جانب كبير من الرثاثة، وفي غنى تاريخي عن تطوير القوى المنتجة، وفي حِلّ من قواعد المزاحمة الحرّة، وتؤثر بدلاً من ذلك الوكالة الحصرية والإحتكار والمحاصصة، فهذا يجعلها واحدة من أحط أشكال حضور الرأسمالية، لكنه لا يجعلها خارج الرأسمالية تماماً.
فكل ما في الرأسمالية على الطريقة اللبنانية من عناصر موجود في البلدان الأخرى، إنّما العتب على المقادير والنسب. الرأسمالية اللبنانية متخلّفة، تبعية، ذات طابع أوليغارشي ومافيوي حاد، قل ما شئت، لكن كل هذا لا يخرجها عن تاريخ الرأسمالية. تقدّم واحدة من أقصى حالاته فظاظة، لكنها لا تخرج عن قانون القيمة، عن منطق الرأسمالية الباحث دائماً عن رسملة ما لم يُرسمل بعد، عن نهش «الخاص» لـ«العام» و«المشاع» معاً.
التمركز الشديد للثروة في يد قلّة لا يمكنه أن يكون حجة نافية لرأسمالية هكذا بلد، وإنما حجة على رأسماليته، وإظهار لشكلها المريع، والمتخلف عن رُكب الرأسمالية في الوقت عينه.
إذاً، الإنهيار ليس له أن يقارب من دون قول ما في الرأسمالية، نوع حضورها في لبنان، وشكل التخلص من هذا النوع الذي لن يتكفل به الانهيار وحده.
وهذا كان يفترض بالتالي أن يفسح بالمجال لظهور موجة جديدة من اليسار في لبنان.
لأسباب عديدة، يتقاطع فيها المحلي بالاقليمي بالكوني، لم يحصل ذلك إلا بشكل محدود.
ما حدث بصخب أكبر هو انتشار دعاية معادية لليسار والشيوعية بقوة، أولاً من أرباب المصارف، وثانياً من عدد من وجوه وفعاليات اليمين القديم هو الآخر في لبنان، وبشكل يذكر بعودة الروح لمعاداة الشيوعية في اليمين الأمريكي والأمريكي اللاتيني في السنوات الأخيرة، كما في اليمين الهندي، فهؤلاء يرون مؤامرة «الماركسية الثقافية» كما يسمونها، في كل مكان.
وهكذا لم تكتم الغيظة من فوز اليساريين في انتخابات الجامعتين الأمريكية واليسوعية، ثم جرى التحريض على وصول مرشّح من تحدّر شيوعي إلى منصب نقيب المهندسين، وجرى اتهامه بأنه مرشح «حزب الله» فقط لكونه شيعياً، مع أنه سبق له أن قال في نقد « حزب الله» ما لا يُحتمل تأويله. ويبدو أن اليمين، القوات تحديداً، فُجِعت بالنتيجة.
على منابر عدة، وفي مواقع تواصل، انتشرت أيضاً المقارنة بين طوابير السيارات المنتظرة لساعات أمام محطات البنزين، والصيدليات الخاوية، وبما تواترت لدى بعض اليمين من صور حول ما يعتقدون أنه كان واقع الحال دائماً في الإتحاد السوفياتي والأنظمة الاشتراكية.
فوصلوا اما الى اعتبار ان النظام الاقتصادي الذي انهار في لبنان كان يسارياً (!) وإما إلى أن الانهيار يجعل البلد لقمة سائغة لما يشبه الرعب الشيوعي!