ترى لماذا لم تُثِر الجرائم التي ارتكبها إسلاميون في سوريا أزمة ضمير في أوساطهم أو أوساط متعاطفين معهم؟ على نحو ما شهدناها بين عامي 2013 و2018، الجرائم كبيرة، متواترة، وغير عارضة، على نحو مؤهل لامتحان عقيدة الإسلاميين، وخلاصتها أنه يمكن اشتقاق نظام حكم واجتماع صالح من الإسلام أو من «الشريعة الإسلامية». الواقع أنه حيث جرى اشتقاق نظام حكم واجتماع فقد كان غير صالح، بل إجرامي. جيش الإسلام في دوما والغوطة الشرقية، وهيئة تحرير الشام في إدلب ومناطقها، وداعش في الرقة وغيرها هي أمثلة على التعذيب والتغييب والاستعلاء واسترخاص حياة الناس، مثل الحكم الأسدي، وليست أمثلة طيبة على أي شيء. ومع ذلك لم تظهر علائم على أزمة ضمير، ربما تدفع نحو مساءلة هذه العقيدة العابدة للدين، المسؤولة بقدر كبير عما أحاق بالثورة السورية وركائزها الاجتماعية من دمار مادي وسياسي ومعنوي.
حين أخذت تعرف جرائم النظام السوفييتي أثار ذلك أزمة ضمير متسعة في أوساط الشيوعيين والماركسيين بدءاً من ثلاثينيات القرن العشرين، وكان ذلك مما تسبب في نزف الشيوعية المعنوي والأخلاقي وصولاً إلى سقوط معسكرها قبل نحو ثلاثة عقود. غير قليل ممن تعرضوا لأزمة الضمير هذه ظلوا ماركسيين، أو حتى شيوعيين، لكنهم عملوا على التمايز عن التجربة التي اقترنت بجرائم الستالينية، ثم بجمود فكري وسياسي خانقين. أسهموا بذلك في إنقاذ شيء من كرامة الفكر الاشتراكي، وكرامتهم كأشخاص وتيارات رفضوا أن يكونوا شهود زور. وأثار تاريخ الاستعمار أزمات ضمير، قادت بعض من خبروها إلى أن يقاتلوا إلى جانب المستعمَرين، وإن وقع ذلك في وقت متأخر. وانشق عن الصهيونية مثقفون ومتدينون يهود، يقف بعضهم بثبات إلى جانب الحق الفلسطيني. لماذا لا نكاد نتبين اليوم ما يشير إلى أزمة ضمير بين الإسلاميين والموالين لهم؟ قد يكون المانع الأول والأقوى هو سردية المظلومية القوية التي طورها الإسلام السني في العقدين الأخيرين، في منطقتنا وفي نطاقات أوسع. نظرية المؤامرة بين الإسلاميين ترتفع إلى مستوى نظرة إلى العالم، وإن تكن نظرة ضالة جداً في واقع الأمر. تلعب المظلومية دور درع واق، يحمي النفس من الشعور بما توقعه من ظلم على الغير، كما تحول دون التماهي بالغير، مما لا بد منه من أجل أزمة الضمير. يجب أن يكون الآخرون مثلي، أستطيع أن أشعر بما يشعرون، كي تنتابني وساوس الضمير، ولو متأخراً، بسبب ما تعرضوا له من ظلم على يدي أو أيدي من أنا منهم. المظلومية تساعد على الانحباس في النفس، وتالياً على امتناع التماهي أو الهوية المشتركة. بالعكس، سارت الأمور في سوريا خلال العقود الأخيرة نحو جوهرة الفوارق بين الجماعات الأولية، تحويلها إلى ما يشبه أعراقاً، وتقريب ما ألفنا تسميته بالطائفية من العنصرية. سرنا بعكس الاتجاه الذي قد يسمح بظهور أزمة ضمير، باتجاه تصلب النفوس والرسوخ في الكراهية والتوكل الأخلاقي على الجماعة. وفي هذا المسار ما يلقي ضوءاً على حقيقة أنه لم تظهر أزمة ضمير في وسط الموالين للنظام، وسواء من أجهزة التعذيب والقتل فيه أو حتى من الموالين غير الرسميين. بالعكس، كان صعود الإسلاميين عامل ترسيخ للتفاصل النفسي والأخلاقي، وهذا بقدر ما ساهمت جرائم النظام في إعطاء عموم الإسلاميين رخصة لممارسة الشر دون وخزات من الضمير.
وفي المقام الثاني تحول دون أزمة الضمير بنية التفكير الديني الإسلامي التقليدية، وهي بنية ماهوية، تفكر في العالم كهويات وأصناف وأديان ثابتة، على نحو يحول دون التماهي بالغير حتى قبل أن تعزز هذا الميل المظلومية المزدهرة. لم يتجدد التفكير الديني الإسلامي باتجاه أكثر علائقية وجدلية، وأكثر تقبلاً للعالم كمصلحة عامة. الشعور المعاصر بالحصار يوجه هنا أيضاً في الاتجاه المعاكس، اتجاه الهويات المتنافية، والتفاصل عن مجتمعات جاهلية وعالم جاهلي كان تكلم عليه سيد قطب ودعا إليه قبل نحو ستين عاماً.
الإسلاميون السوريون وأزمة الضمير الغائبة
Inمقالات
0